قضايا وآراء

عنابة .. الأماكن حكايات..واللغة قبل عاشقين / الطيب طهوري

صاحية وملتحمة..كل الأماكن التي عانقتك تأتي إليك في نفس اللحظة ..تحضنك بخضرتها أحيانا وبزرقتها أحيانا أخرى..وبكل ألوان الطيف في كل الحالات..

تبدأ الرحلة مضيئة طريقك المائي مادة كف البحر التي لا حد لها إليك ..جاذبة إياك وبلطف حنيني إلى الداخل / العمق..تشاهدين بعيني الداخل أشياء المكان وأناسه..الطاولات ..الجالسين وهم يشربون قهوة الصباح متأملين الزرقة وأشعة الشمس وهي تفرش لذة حرارتها السعيدة...

للبحر كفٌّ تكبره..

وأطرافه ،،ممتدة على جسدي ..

لم يبـق لـي مـن وجـه مدينتـي ،،

غيـر صبـاح مـدلَّل ،،

يشرب قهوته على الكـورنيش .

ويَسنِد للشمس ظهره .

وعلى طاولة الشارع ،،

يفردُ أوراقه ،،

ويروي أحاديثه للمارة .

 

هكذا يكون الصباح صباحك وصباح الآخرين..هكذا تبدأ الحكايات التي لا تنتهي..الكل يحكي..والبحر يحكي أكثر أكثر..أليس هو حاضن الناس في كل الأوقات؟..صيفا حيث احتضانه الأجساد الملتهبة..خريفا حيث الأوراق الشجرية المتساقطة تداعب الماء الممتد بعيدا بعيدا..شتاء حيث عتو الأمواج يوقظ الأرواح وأجسادها..ربيعا حيث تكثر زقزقة النوارس وتخضر الأشجار أكثر ...

الملائكة ينهضون ..يغنون للعالم أغنيات عنابة /الحياة..يتقدمون الفتيات الجميلات اللواتي تعانق أقدامهن الطرقات الإسفلتية وتحضن الهواءَ ظفائرهن البهية وثرثراتهن الفرحة بذلك الصباح..

هكذا ندخل عنابة الصبية من بحرها..من طرقاتها ..من جميلاتها..من الجالسين حول طاولات كورنيشها..من عبق قهوتها..من حكاياتها ..

للبحر مدينتي .

ومدينتي ،،

أغنية تردِّدها الملائكة ،،

على عرش الصباح .

والصبايا في دلال ..

يمرِّرن على وجه النسيم ضفائرهن ..

وبأقدامهن ،،يصافحن الطريق ..

 

2-

و..تتواصل الحكايات..تتواصل الأمكنة..نتواصل نحن فيها وفيها..

يبدأ الوصل من صباح عنابة مشرقا على أناسها وأشيائها..يبدأ من حميمية ألفة الأماكن للناس وألفة الناس لها..يبدأ منك وأنت ترمين ببصرك بعيدا حيث الزرقة لا حد لها ..الماء زرقة والسماء ..

ينبني النص على صهيل ثنائية تتعانق فيها الشاعرة بمختلف الأمكنة التي ألفت عبورها..ولأن الأمر صهيل داخلي في الأساس تصلنا صور الأشياء وأماكنها وقد امتزج فيها الحنين إليها لمعانقتها والحزن عليها ربما لما لحقها من بعض التشوهات التي أثرت على بهاء دفئها..

إنها عنابة الروح دافقة بأحتضانها لأناسها وللعابرين أيضا..وعنابة الأمكنة زاهية بتعددها : إيدوغ...سرايدي..الكور..زغوان..سيدي إبراهيم..رأس الحمراء...والحروف ع ن ا ب ة أيضا أماكن تتصل ببعضها لتكون هذا المدى المغلق / المفتوح المسمى عنابة..

وإيدوغ  الجاثي على كتفيها..

يُغرغرها أغنية في صوته..

... وأصحو على موعدٍ يطول ،،

في الكور ..إلى وقت السَّمر،،

وتشربني الساعات على طاولةٍ

فوقها أنسى نفسي..

مأخوذةً بحكايات المجانين والمتسولين

ويفتح للبحر ذراعيها..

 

3-

تتجول بنا الشاعرة مرشدة سياحية ساحرة..لا تشير بيديها إلى تلك الأماكن ..لا تتكلم إلينا..لا تقول هنا أو هناك..هذا الإسم أو ذاك..فقط بحركاتها وهي تغوص في عمق الشوارع..بنظراتها وهي تعانق الأبنية والأشياء ..بقدميها وهي تقبل الأرصفة تارة والأعشاب تارة أخرى..بأنفاسها وهي تفرح بلقياها ، نتعرف على البعيد فيها لنقربه إلينا اكثر ألقا وبهاء ..

تأتينا عنابة فنا: مقاطع تسرع في صمتها المتدفق عشقا لها..وواقعا: أحياء تجاور بعضها وأماكن تحضنها أو تُحضن فيها..كل مقطع حكاية ..وكل حي حكاية..والحكايات تتوالى لنصير فيها الساردين والمسرود عنهم..نمتزج نحن الذين نعبر النص أونعبر الأماكن بالصمت الذي ياخذنا فرحين إليه/ إليها..

لا تكتب كنزة كالآخرين من خارج ذاتها..لا تصف ظاهر الأمكنة والأشياء والناس..كل ذلك تراه العين..لا يحتاج إلى من يدل عليه..

تكتب كنزة بدواخلها..ولأن تلك الداخل كنز كاسمها تأتي الكتابة حارة ومتدفقة ..ترينا ما يغيب عنا عادة بحكم حصار الواقع لنا ..ترينا بهاء الحصى  ..تسمعنا أغاني الحيطان..تدخلنا حروف الأسماء..

هكذا تصبح اللغة قبل عاشقين في الأماكن المنزوية..وشوشة عصافير في الأعشاش الشجرية..وألوان فراشات تسحرنا بقزحياتها..

هكذا نرتمي نحن القراء الذاهبين في الصمت في زرقة بحرها..تاخذنا الأمواج إليها..تعبرنا..تفتح ما فينا لنرانا وقد صرنا أكثر من عنابيين..

هكذا أيضا ينزل القمر عاشقا من عليائه ..يجلس وحيدا على الكرسي الحديدي منتظرا عنابته..      

فيما نصعد نحن أعلى أعلى محتضنين امتداد الفضاء ..سعيدين بوجودنا هناك حيث لا جاذبية إلا حبنا وقد امتدت عيوننا إلى القمر/ عنابة الزاهية..يا لرهبة الصورة ..يا لجمالها..إننا ونحن أعلى نسمع وقع خفقان  قلب القمر ونرى حر شوقه إليها..

لا فرق..عنابة هي البحر والبحر عنابة..لا فرق ..عنابة هي كنزة والكنزة هي عنابة..لا فرق ..هما والبحر سواء..

للبحر يدان ورجلان ورأس..يسير نحو عنابة..يحضنها ..يقبلها من رأسها إلى أخمس قدميها..

لعنابة أيضا يدان ورجلان ورأس..تفتح ذراعيها متلهفة ..تحضن بحرها الأزلي..تضع قبلة الحياة على كفه..

البحر وعنابة ينجبان ..تمرح كنزة ..يرفعانها أعلى أعلى..يرميانها في العمق موجا سعيدا يعانق الناس والأماكن والأشياء..

ولأن الحالة هكذا..يتدفق الحب :

لا ترفع السماء بصرها عن عنابة..تخاتلها لتسرق من سواد عينيها سواد غيومها..

لا تفارقها الفراشات ..تصر على أن  تحط على زهوها وتحترق سعيدة بالتهاب الحنين في قلوب

عشاقها..

والمارون؟..المارون يغشاهم الغياب في سحرها الذي يكاد يتحول إلى أسطورة تذهب في رجة البعيد..

كنزة أيضا وحتما تنشر حبها ..يرتفع بها الحب أعلى أعلى..ترى الجهات كلها فيها..تحضن الصمت والكلام..تضاء المسافات وتتوالى الذكريات مياها عذبة تغسل صدأ الوقت المتراكم فينا..نحب الحياة أكثر ونزداد شغفا بجمالها..

هكذا تتحدى عنابة الزمن بجمالها صبية لا تشيخ..

تتحدى النسيان بمالوفها الذي يتلألأ مضيئا قلوب أناسها..

تتحدى الرمل باخضرار مسافاتها الأبدي..

يا وجه الوحي ..

أنا إذ أحبك ..

تحطّين على كف الأرض كَلوْحة

فيها تختال الألوان كالصبايا

وتلفُّ الكواكبُ صوتَ الزمن الذي ينتشر فيك ..

أنا كالزمن .. أسكنك وأتشظَّى داخلك ..

وأنا كالبحر .. أضعك على خدي شامة

عسليَّة.

 

و..آه.........كم صرت أحب عنابة...

 

ألف شكر لك كنزة

  

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2041 السبت 25 / 02 / 2012)

في المثقف اليوم