قضايا وآراء

أكفان بهية بريشة المهاجر / صالح الطائي

ولكني قاريء نهم تستفزني الكلمة المشاكسة وتستنفر في داخلي ثورة غضب، حسد، غبطة، نشوة، ألم، معاناة، سعادة، حزن. فرح، وأشياء كثيرة أخرى

تدفعني الكلمة مرة إلى التأمل العميق، ومرة أخرى إلى البحث في أعماقها عن أكثر من معنى، عن مرادفها ورديفها، عن علاقتها بأخواتها وزميلاتها في الصف أو في النص، وربما في فكر قائلها.

ومن خلال قراءتي لنص الشاعر الكبير مصطفى المهاجر وجدتني أمام كم كبير من الكلمات المشاكسة المتلفعة بطلاسم سحرية أخاذة تمتد غاياتها ودلالاتها إلى عمق تاريخنا المترع بالمآسي والمشبع بالآلام والمغرق بالقسوة والبطش، بطش الإنسان بأخيه الإنسان حبا للتملك وللدنيا ومباهجها، والبطش لا يعني فقط الموت، بل قد تكون في الموت راحة لا تتحصل في الحياة، البطش قد يعني السجن بكل ما فيه من ذل وامتهان، قد يعني التهجير القسري والبعد عن الأهل والأحباب ومرابع الصبا ومراتع الشباب والذكريات الحميمة، والبعد عن الوجوه المالوفة والشوارع والساحات وواجهات البنايات والماء والشجر وحتى قذر الطرقات وذباب الباحات.

فكل هذه الإلماحات الحميمة تبقى في الغربة وطن مخبوء في عمق اللاوعي تطاوعها نفسها لتعذب الإنسان حينما تتراقص في مخيلته لترسم له صور البعيد المستحيل بكل ما فيه من لذة الجمال وأفق الخيال، أو تستنفرها مشاهدة عابرة يمر عليها في الطريق كما تستنفر الأسود باقي الحيوانات.

اختار الشاعر الكبير لقب (المهاجر) وقدمه على اسمه فبات يكتبه (المهاجر مصطفى) ويضيف إليه في بعض الأحيان كلمة (أبدا) ليصبح اسمه (المهاجر أبدا مصطفى) سمة على واقع حال مملوء بالغصة تيمنا بما وسم الأقدمون شعراؤهم وأدباؤهم مثل تأبط شرا أو الشنفرى، أو الجاحظ، الاختلاف بين الاثنين أن المتلقين والمستذوقين القدماء هم الذين أطلقوا تلك الأسماء على أصحاب الصنعة أما المهاجر مصطفى فقد اختار الاسم لنفسه ليترجم من خلاله قساوة ما عاناه ويعانيه، ولذا تجد في قصائده مسحة حزن عميق، وتشاهد السنة لهب يتراقص في فضاءات العمر لا ينفث دخانا بل يطلق حمما من شوق للغائب البعيد، لمن كان يتفيأ في رحاب قدسه وأقداس سيرته   

عُمرٌ وما خمدَ اللهيبُ             وتفجرت حُبّاً قلوبُ

عُمرٌ ويكتظُ الفضاءُ              إلى مزاركَ والدروبُ

وهو لا يكتفي بتصوير هذا الحب القاتل والشغف العذب المُعَذِبْ وإنما يرقى كما ترقى الطيور السابحات في عمق الفضاء إلى ذاكرته ليستعيد منها صور تلك الفضاءات المقدسة التي تحيط لا بالمزار المقدس وحده وإنما بالدروب المكتظة حد التخمة بالسائرين إلى الرحاب المقدسة حتى ليكاد يشم عبق رائحة الملائكة التي تحف بالمكان

الجو يعبقُ بالملائكِ               والطريقُ به دبيبُ

ورؤاك يحملها الهوى             ويضوعُ من ذكراكَ طيبُ

ثم تتجلى له الصورة كأنقى ما يكون، فتمتد وشيجة التواصل عبر المسافات لتقع المكاشفة بين العاشق والمعشوق، فيسمع أحدهما الآخر رغم بعد المسافات ووعورة الطريق والموانع القاهرة التي تحول بين المرء ونفسه، فلا يكتفي بالمشاهدة فقط بل يتواصل مع الحبيب بالخطاب

يا سيد الكفن البهي                  أحاطهُ ألقٌ عجيبُ

تصطادُ عيناكَ النفوسَ             وسحرُ قولكَ لا يخيبُ

يا أيها النبويُ والعــ                ــلويُ والسبطُ الخضيبُ

وهكذا يكشف المهاجر عن وجه حبيبه الخضيب بالدم الطاهر، حيث يراه رغم الجراح الغائرات والجسد المقطع والرأس المذبوح، وكل ما خلفته طف الأمس البعيد من وجع وحسرة، وكل ما خلفه هوس المجانين في العصر الحديث يوم صبوا جام غضبهم على القبة الشريفة للجد العظيم، ويوم وجهوا بنادق الغدر إلى صدر حفيده بطل الجمعة الناطقة ومنبر الصدق ليسكتوا هدير ثورة متجددة، وكأنهم يريدون قتل الحقيقة من جديد بعد أن شاهدوا الجموع الغفيرة تلوذ بأوداجه الشاخبة ليحموا أوداجهم من مقصلة الحقد والطائفية، رآه حيا، وشهيدا، ومقتولا برصاص الختل والغدر يقف سدا منيعا بين قذارة شهوة الموت الحيواني ونقاوة وطهر الحب العرفاني، فيمنع تلك من غزو هذه ويحجبها عن الاختلاط

ما زلتَ رغمَ رصاصِهم            وعداً وشمساً لا تغيبُ

ما زالَ منبرُكَ الصدوقُ            يكادُ من شوقِ يُجيبُ

في الجمعةِ الغراءِ والــ             ــمحرابِ ما هدأ الوجيبُ

وعصاكَ تحفرُ في الزمانِ          نشيدَ وعيٍ لا يُريبُ

إن ألم الفراق والتهجير بقدر ما يزرع في النفس من ألم مرير، يزرع فيها أملا واعدا بغد مفعم بالتحدي الرجولي، فالشهداء عند مصطفى المهاجر كما هم أحياء عند ربهم يرزقون، هم منارات هدى وفنارات دلالة وإرشاد يبقى فعلها في موتها كما هو في حياتها

ما زالَ سيدَ ثورةٍ               يشدو فيُنصتُ عندليبُ

ويلمُ أشتاتَ التشرذمِ            والجموعُ لهُ تؤوبُ

فيصوغُ عِقدَ صَلاتِها           وصلاً لجنَّاتٍ تطيبُ

ويردُّ كيدَ عِداتها                صدراً تزاحمهُ الخطوبُ

ويفيضُ رغم جراحهِ           حُباً تلاقفَهُ الشعوبُ

ولأن المهاجر رأى السكوت الذي أطبق على عقول الأمة وقادتها ممن سكتوا عن جريمة محاربة ألله فإنه عد الجميع مقصرون في موضع يكره التقصبر فيه فقال لا يستثني أحدا:

هذي دماهُ توزعتْ             كلٌّ لهُ فيها نصيبُ

ولكنه أفرد للقائمين بالجريمة النكراء منزلة في الدناءة فوق منزلة الساكتين، حيث فضحتهم أوصافهم وشحوب وجوههم من خوفهم من انتقام المقتول وبارئه، لكونهم ممن قال عنهم رسول الله (ص): " إياكم وصفر الوجوه من دون علة" فقال:

القاتلونَ عصابةٌ                والحاقدون بهم شحوبُ

ولكي لا تختلط الأوراق فيدعي مدع أن المهاجر يتكلم في العموميات بعيدا عن التخصيص والخصوصيات، انبرى ليخاطب القتلة المجرمين وشيخهم (المهيب)

يا قاتليهِ رويدَكم                جُنَّ الغرورُ و لم تُثيبوا

ما زالَ حقدُ كبيرِكم            ناراً يؤججها الغريبُ

ما زالَ يُذكي حقدَهُ             زيتاً فتشتعلُ الحروبُ

والشعبُ يدفعُ من دما          ه ضرائباً أين الحسيبُ .. ؟!

ويظلُ يولغُ في الدماءِ          كأنهُ بالفتكِ (ذيبُ)

حاشا الذئابَ تنزهتْ           عن مثلِ ما فعلَ (المُهيبُ)

من أين يأتيه الوفاءُ؟!          ومالَهُ فيهِ نصيبُ

ما أنجبتهُ (نجيبةٌ)              كلا ولا نسبٌ نجيبُ

ما علَّمتهُ مكارماً               أمٌ ولا خالٌ لبيبُ

وتلقفتهُ شوارعٌ                  فنما تُزّينهُ العيوبُ

ومع ذكريات الوجع التاريخي يأبى المهاجر إلا أن لا يستذكر وجع العراقيين اليوم ويستذكر الجراح التي يلحقها بهم أعداؤهم من الداخل والخارج، من البعيدين والقريبين، من العرب وغيرهم، فتختلط دمعته الساخنة هذه بتلك الدمعة التي ذرفها وجدا على السبط الشهيد وحبا لبطل الجمعة السعيد

إني لأبكي للعراقِ              ففيهِ طاعونٌ رهيبُ

ونزيفُهُ كالرافدين               بجرحِهِ يَعيى الطبيبُ

وبنوه آهٍ من بنيهِ                فقد تملكهم لُغوبُ

وتناهبتْ أهواءَهم              شتى ملونةً دروبُ

الظلمُ يسحقُ أهلَنا              والشعبُ من جوعٍ يلوبُ

ومع تلك الدموع والآهات والزفرات الساخنات، مع كل وجع السنين يأبى المهاجر أن يخنع أو ينهزم أمام اليأس فيعود ليذكرنا بكل تلك القيم النبيلة التي أمدتنا عبر السنين بالقوة والعزم على المضي في طريق الشهادة لتحقيق النصر وتحمل درب الآلام لتحقيق السعادة في الدنيين، ولكنك لا تعي المخاطب ولا تتمكن من تشخيصه، فلا تكاد تعرف فيما إذا ما كان يخاطب السبط الشهيد أم شهيد الجمعة السعيد، أم كل الشهداء الطاهرين

يا سيدَ النخلِ المضمخِ                  جَنيُهُ حبٌّ و طيبُ

ذكراكَ تبقى في القلوبِ                 وإن تناهبها القطوبُ

وإلى خطاكَ سينتهي                     دربٌ و أقدامٌ تجوبُ

وعلى الضفافِ سيلتقي                  شعبٌ و منبرك السليبُ

ليقيمَ فرضَ صلاتِهِ                      ويُجددَ العهدُ الخصيبُ

ويعودُ ذكرُك شامخاً                     ويلفُ طُغياناً غروبُ

 يا أيها الصوتُ المحــ                  ــببُ أيها الليثُ الغضوبُ

 يا أيها النبويُ و العـــ                 ـــلويُ و السبطُ الخضيبُ

في هذا العمل الكبير صنع مصطفى المهاجر ملحمة من سنخ تلك الملاحم التاريخية الخالدة التي لا زال صداها يتردد في ضمائرنا، وهي حتما ستجد طريقها إلى الخلود لو وجدت من يهتم بها كما اهتم السابقون بتلك الملاحم.

  

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2043 الأثنين 27 / 02 / 2012)

 

في المثقف اليوم