قضايا وآراء

اللذّة الإستيطيقية في نصوص (سَلوى فرح وجُوزيه حلو).../ بوعبد الله فلاح

تكتنفُ السّرابيةُ عديدَ النصوص النثرية التي تحتلُّ الشعريةُ حيّزا هامّا فيها، فتكونُ بذلكَ ذاتَ لغةٍ فنية، تسمو على العادية وتنأى عن السطحية.تقول سلمى الخضراء الجيوسي:“ إن الشعرية الخاصة بأية لغةٍ، تستلزم انضباطا أدقّ وأكثر عسرا على الشاعر أن يتخطّاه دفعةً واحدة” (1).

لَنْ أُقَبِّلُكَ .. وَأَنتَ تَسرِقُ  كُلَ صَباحٍ  شَقائِقَ النُعمانِ مِن دَمي  وَتَخطِفُ عِطرَ البَخورِ مِن أنفاسيَ..أَيُها الحالِمُ .. لَنْ أَذوبَ مِثلَ الشَهدِ بَينَ شَفتَيكَ .. وَ أَنتَ تَقطِفُ كُلَ مَساءٍ الحَبَقَ مِن بَسَماتي.(ما عادَ لِنعناعِكَ نَكهَةٌ في مَذاقيَ)

في هذا المقطع لسلوى فرح روحٌ نرجسيّةٌ، قد تُنفّرُ المخاطبَ الذكوريّ، غير أنَّ المبرراتِ التي تقضي على ذلك النفور، ترِدُ تباعا، إذ أنَّ حبيبَ الأمس قضى على جوهر الأنوثةِ  وحيويتها، وفتكَ بكلِّ الجسور التي تفصل بين القلبين،ونظرةٌ خاطفة إلى عنوان النص، تجعلُ القارئ يُدرِكُ نكهة النص، وباطنَ الخطاب..

 

ونقرأ لجوزيه حلو :

تترصد موعدك معها.. لن تأتي الليلة لتفرط عقودي.. وأرمي بثيابي تحت قدميكَ.. قبّلني وقبّل معصمي وأساوري.. داعبني دون هَوادة.. وانسَ غانيتك المبرجة بالمساحيق..( عشيقة هذا الليل الحزين).

يمتدُّ خطابُ الشاعرةِ إلى موقفٍ من مواقف التحدي، تحدٍّ ذي توجهَين، الحاضر والغائب، الأنثى الغائبة والحبيب المقصود بالرسالة التي يتضمنها النسقُ السابق،نجدُ اندفاعا قويا إلى القضاء على لحظة الخديعة، بالتماهي مع الحبيب،رجاءَ أن يتركَ الزيفَ، ليواجه الحقيقة، حيث يكون للمعصم وجودٌ، وللأساورِ كينونة. ومن عوامل البراعةِ في المقطع السابق، دقّةُ التصوير وقوة التقرير.وهما منبعا الجمال فيه.يقول أفلاطون :“الجمال هو المسار الذي يأتي من خلال حاستي السمع والبصر“2.  فالجمال يتجلى إذن في سينمائية الخطاب الشعري، الوارد في الصورة الشعرية السابقة. وهو مدعاة للتخيل والتخييل في آن.

تقول سلوى فرح:

آه ما أروع عهد الياسمين والعشق الناضج!!دعني أقبل يديك وأنت تُحيك عقد الياسمين بتلة بتلة..وأوشم به جيدي.. شفافة لمساتك وهي تروي ظمأ السنين..(طالما أنت حبيبي) إذا نحنُ فتشنا عن مصدرِ اللذة في هذا النصّ، يتبيّنُ لنا أنَّه الرغبة، الرغبة التي تُحطمُ المألوفَ بسبكِ العبارة المنتقاة بعناية، لتميّزَ بين الصورةِ المبدَعةِ، ونظيرتها المألوفةِ في الطبيعة .يرى (مالرو) أنَّ الفنان المبدع هو الذي يقوم بدوره في خلق منظر فنيّ، يكون أجمل وأروعَ من مثيله في الطبيعة.يحيك عقد الياسمين، فيعيد عهده، وتؤولُ اللمسة إلى ممحاةٍ تمحو أثرَ السنين، وغدير تنمو على جانبيه الحياة.

قبلاتُكَ سرّ السكارى والوهن.. تسقيني الغرائزَ مدّاً وجزراً.. متوهجة ٌشهواتك .. مسكونة بالارواح.. حنين سنين عارية من جسدي (من أُنثى إلى أُنسي : كيفَ أنسى ؟)  تقول جوزيه حلو: من بين الكائنات التي عرفتها البشرية، ربما المرأة هي أجمل مخلوق .. لا علاقة للكتابات الإيروسية بالأخلاق،إنها الجوهر..

تضعُ الشاعرة حدًّا منيعا بين الكتابة الجنسية والأخلاق، فلكلّ منهما مجاله الحيوي، فللأخلاق النص التقريري المباشر، وللأيروسية مجالها العقلي الذهني التصوري، بعيدا عن الفيزيائية والبيولوجية، فالجنس في الواقع برأيِ (زولا) هو المعنى البيولوجي لجسد الأنثى، وهو محور كل تطور يطرأ على المجتمع( 4). بيدَ أنهُ في النصّ انسجامٌ لروحينِ، تتوقان إلى الانصهار، فتكون الغريزة بذاك غايةً لا وسيلة، وذلك لعمري، ترجمة لعواطف العامةِ، وطموحاتِ الجنسِ مع الآخر.

حبيبي .. ابحر في عيني ..وأطعم نوارسي الحالمة..والثم شفتيّ الناهمة.

شهب الشفاه أسرار..(قبطان شطآني)..

 

الشفاهُ في المقطع السابق لسلوى، مطيةٌ سيكولوجية للدفاع عن الطهر، حين تُفرّقُ بين اللذةِ الكائنة، واللذة الميتافيزيقية، حقّا إن لثمَ الشفة الناهمة، ما هو إلا إقرار بأنَّ “ مفهوم الجنسية مرادف لمفهوم الحب بأوسعِ معانيه (5).فالشاعرة لا تتنصلُ من الواقع، إلا لتتعمق فيه،وما دلالة الإبحار في العينين إلا إرادةُ جذبِ انتباه الحبيب، وشدّه إلى الجسدِ الذي يكتنزُ عديد الأسرار التي لا تتكشفُ إلا له.يقول عز الدين إسماعيل:“ فالحقيقة أنّ الشاعر يحتالُ على الواقع بالخيال...إنهث إنما يحاول الهروب من حالة إحساسه الحاد بالواقع.(6) تقول جوزيه:

أرتجفُ في رعشة خانقة.. لأن السماء سوداء.. وقبلتك سوداء.. والضباب الآتي فوق جسدك أسود(قصائد قلقة كحواء)...

لا هدوءَ على مِخدَّتِكَ الفضيّةُ الألوانِ ... وبِأصابِعِكَ تجرحُ دماً ... يسيل على الشراشِفِ البيضاءِ ... لذَّةُ حُلُم ٍ متروك ٍ للآهاتِ ...

مديون ٍ للجنون ِ ... بالرقص... بالحوضِ ... بالسيقانِ ... حَريرٌ لمسةُ شِفاهِكَ كالولادة ...(سقَطَتْ كلِماتُكَ رغبات ٍ في الليالي) وتقول سلوى:

وَانْهَلْ  مِنْ عِنْابِيَ  كَيْ تَسْكُنَ اِرْتِعاشْاتِ اَلحَنْينِ عَلىْ شَفَتَيْكَ..( وللعِشْق ِ جُنْونَــهُ) أحتاج إلى قبلة لؤلؤية .. من عذب روحك تموز.. لتروي شقائق النعمان بين شفاهي الظمأى لرحيق العشق.. (نــداء الـــروح) الجدير بالذكر، أننا انتقينا نصوصا تنبعُ من سراجٍ واحد، فالمبدعتان تلتقيان في جوانبَ مختلفة، وعلى الرغمِ من احتواء النصوص المنتقاة على التيمةِ ذاتها، والتي تتمثل في القبلة مفعولا شعريا، وعلى الشفاهِ مرتكزا فنيا،إلا أنّ ثمةَ تباينا، في شدةِ التماهي، وفي انسيابية العشق، فيبدو في نصوص سلوى فرح، أكثر تحفظا، وذلك لاختلاف المشروعين الشعريين والنسقينِ لدى كلّ واحدةٍ منهما، غير أنَّ النزعة الصوفية تتجلى بوضوح عند كليهما في إطار (حب الآخر- حب الذات) .“إذا كان حبّ الآخر هو في نهاية الأمر حبا ذاتيا، فمن الطبيعي أن ينحصر الحبّ في شخصٍ واحد..وأن يكون المُحبُّ تابعا كليةً للمحبوب.(7).

في ختام هذه النظرةِ الخاطفة في نصوص الشاعرتين القديريتين، سلوى فرح وجوزيه حلو، أرى أنه من الصعوبةِ بمكان، أن نُحاصر جميع القضايا المتعلقة باللذة في إبداعهما، لذلك ارتأينا أن نميط بعضا من ضبابية المشهد الشعري النسوي الحالي.والذي صار ينضح بما يُستحسنُ وبما يُستهجنُ كذلك..

 

الجزائر/27/02/2012

1 - جهاد فاضل.أسئلة الشعر، حوارات مع الشعراء العرب.د ع ك .ص126.

2 - مجاهد عبد النعم مجاهد.جدل الجمال والاغتراب.د.ث.ن.ت ص.19

3 - نص وحوار..مع جوزيه حلو .المثقف (التعليقات)..

4 - غالي شكري.أزمة الجنس في القصة العربية.دار الشروق.ص40 5 - ثيودور رايك.سيكولوجيا العلاقات الجنسية.ت.ثائر ديب .د.م.ث.ن ص30 6/  عز الدين إسماعيل.التفسير النفسي للأدب .م.غريب ص37 7 - يوسف مراد.سيكولوجيا الجنس.دار المعارف.ص72

  

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2044 الثلاثاء 28 / 02 / 2012) 


في المثقف اليوم