قضايا وآراء

النقد الادبي: الصحراء تتكلم .. التاريخ يشهد / حميد الحريزي

 

في قصته الرائعة (المستحمات في حمام زبيدة) التي جمع فيها بين التراث البعيد وعصر الحداثة والتجديد وألف بينهما ببراعة وحنكة سردية رائعة، يبعث الحياة في الصحراء، و يتمكن من إلباسها رداء الحركة والجمال، يكتشف مخابئ أسرارها، يفك طلاسم غموضها...

مقدمة مسجوعة لتحضير مسرح مطارحة الغرام ببين الرشيد رمز الاستبداد، مالك(السيف- القلب و العقل والقضيب) وموطن السحر والمكر وموطن ضعف الرجال ف (بنات حواء في لجة الليل يكشفن عن سيقانهن، فيخوض أبناء ادم في سواقي من مُزنِّ العطر، ضوء الشموع، حيث تتمزق أوشحة الحرير – تتكسر مرايا الغلالات – يتصدع خشب الأبنوس ن تحت ثقل أجسادهن، وأجساده) ... هن وهم والليل ثالثهم هذا الذي يجرد أسلحة النساء ويرفع الرجال راياتهم فتؤد (اللا) قبل ولادتها، وتولد في لحظة الاشتعال (نعم) .

يقدم الكاتب هذا الوصف دون ان يخل بالسرد، الى ما بعده حيث يُصنع مفتاح قصته بطلب الست(زبيدة) رمز الجمال والغنج والدلال في التاريخ العربي الإسلامي في زمن ازدهاره، طلبت من الرشيد ان يبتني لها حمام في طريق الحج فيأتي الجواب ب (ن ن ن ع ع مــــــــــ) تظهر براعة الكاتب في وصف حالة الرجل وهو يذوب في وهج الحب ويلقي بكل أسلحته لحظة النشوة في ذروة الشهوة والمتعة هذه اللحظة التي تعرف النساء مقدار سطوتها على الرجال مهما بلغ سلطانهم وجبروتهم فالتاريخ يحدثنا عن الجنائن المعلقة التي بناها نبو خذ نصر لزوجته، وعن قصور أسطورية المبنية من الذهب والفضة والزعفران والمزينة بأغلى واثمن الجواهر ارضاءا لزوجاتهم ومعشوقاتهم وجواريهم .......

طبعا لا يغفل الكاتب الإشارة الى حالة الاستلاب والاستعباد التي تعرضت لها المرأة في عهد الملوك والسلاطين(سيد القصر كان يرعى قطيعا من المحضيات) حيث يعامل العشرات لا بل مئات النساء من الجواري والمحضيات والمسبيات كمعاملة القطيع الحيواني المجرد من العواطف والمشاعر الإنسانية ممسوخ الذات والوجود لأهم له الا إسعاد وإرضاء السلطان وتلبية رغباته بأي شكل وفي أي وقت ...

 

المكان

لكي يجسد الكاتب للقارئ مسرح الأحداث ادخل الراوي العليم أسماء الأماكن وأبعادها وتواريخها وفصل بالأرقام المسافات بين المنازل من مدينة النجف لغاية البيت المعمور في مكة المكرمة- الوصل بين مقدسين-... كما انه رسم لنا معمار الحمامات وأشكالها وأبعادها، فجعلنا نشم رائحة النساء العباسيات المستحمات في هذه الحمامات وطقوس السباحة وما يتعلق بها من رموز ايروسية مثيرة ... حالة تعري المرأة وكشف موطن أسرارها وانكشافها على ذاتها وتأملها لمفاتن جسدها ومواطن إغراءها للجنس الآخر... حيث تعمل النساء على جليها ونقشها وتنعيمها وتعطيرها لتظهر بأجمل مظهر من حيث اللدانة والنعومة والعطر كي تسلب لب الرجال وتحكم سيطرتها على عقولهم وترويض خشونتهم وفضاضتهم، لا انبهارهم لمشهد أجسادا بيضاء كبياض الحليب ونعومة الحرير وعطر خلاب وساحر وشعر منسدل كجناح الغراب او كخيوط الشمس .....

في إشارة دلالية بالغة التكثيف والإيحاء في منارة (أم القرون) التي يشير الكاتب الى إنها مبنية من قرون الوعول والغزلان .... القرن السلاح الوحيد لهذا الحيوان فائق الجمال والرشاقة، هذا الحيوان الوديع المسالم منتج المسك والطيب، الذي ارتبط اسمه منذ الجاهلية عند العرب بالجن والسحر ("الظباء" ماشية الجن، في زعم بعضهم وهي تسمع وتكلم، ولهم قصص عنها)*

هذا الحيوان الجميل الوديع يقتل بالآلف لا لشيء الا لتشييد منارة من قرون لتكون دالة على السطوة والقوة والغموض والسحر... يقتل الجمال والسلام والعطر والوداعة لبناء منارة ... فااية منارة هذه المشيدة على حساب دمار وفناء حياة الأجمل والأكمل ... نرى إنها إشارة لا تتطلب الشرح الكثير لتكون مثالا لوحشية وطغيان وقبح تاريخ ملوك وسلاطين ماضٍ لا زالت ثقافته تهيمن على عصرنا الحاضر... خصوصا وان هذه المنارة شيدت في زمن سيطرة السلاجقة المتوحشين الغزاة ...هذا هو جوهر الغزاة والمحتلين في الماضي والحاضر

والكاتب المبدع يشير الى واقع الاضطهاد المسلط على أوسع الشرائح المقهورة والمستعبدة من اجل خدمة ورفاه ونزق ومتع السلاطين ونسائهم وجواريهم ومحظياتهم الا وهم الخدم والعبيد (يسحب الماء من البئر بأذرع العبيد، والخدم)....

 

تعدد الـرواة:-

 يمكن تصنيف هذه القصة ضمن الواقعية السحرية ومن الأمثلة الكثيرة على هذا النوع من القص (قصة لبورخيس عنوانها "كتاب الرمل" يحكي فيها قصة تبدو عادية عن رجل يحب الكتب ويهوى جمع النادر منها، الى ان جاء رجل غريب وباعه كتابا عجيبا له بداية وليس له نهاية هو "كتاب الرمل " **

 وقد برع القاص في إلباس قصته وغرائبيتها السحرية ثوب الواقعية حين استحضر شهوده من بيئة وجغرافية الحدث ومنهم البدوي (معجم البادية) (فجاءني كالردم ليزورني بعين كعين الغضنفر) حيث يسائله عن تفكره بزيارة غزالة، مؤكدا له ان غزلان (درب زبيدة انقرضت ولم يعد لها من وجود بفضل البنادق والعربات السريعة ..) في عصر التقدم التكنولوجي الحاضر، موضحا مدى همجية ووحشية قوى الغزو الخارجي المتمترس وراء أسلحته المطورة للقضاء على الموروث الحضاري المجسد ب(الغزالة) (تعال ياصديقي الحكاء تعال وشاركني بذرف الدموع على هذه البادية ...) ... هكذا يقص (معجم الصحراء) الراوي الثاني للراوي الأول الراوي العليم قصة (الغزالة) التي بالكاد أفلتت من أسلحة القتل والمطاردة للحكام والخلفاء والسلاطين (الكلاب السلوقية، والضباع الخبيثة، والذئاب المسعورة، والنسور المحومة، والصقور المدوية، والأفاعي السامة) واصفا له تفردها وجمالها (جنية الحّمام الجميلة، غزالة لم تقع عين، القوافين، القاصين، الصيادين، على غزالة من قبلها ولا من بعدها)...

هذا المخلوق هذا الرمز الحضاري الساحر أمضى حياته تحت كابوس الخوف والتخفي والهلع لا يمتلك حريته وحقه في الحياة الا (عند اعتلال الشمس، ولا ترد الا عند شحوب القمر...)

ثم يأتي دور الراوي الثالث الراوي المتوطن (الراعي العازب) المفتون والمسحور والشاهد الوحيد لهذه الغزالة التي انطلقت من منارة القرون التي (تهتز، تتلوى كامرأة فاجأها الطلق)... يهيم هذا الراوي المتوطن في البوادي ويحضر المجالس ليحكي قصة هذه الغزالة (الجنية) التي رآها بأم عينه منطلقة من المنارة أثناء طلقها الموجع كطلق امرأة وقت المخاض... فيظهر مدى هيامه وعشقه لهذه الغزالة اللغز ولكنه لم يعثر لها على اثر ولم يتمكن منها رغم انه عرف (كل ذرة رمل بدرب زبيدة)..... انه فقدان وضياع حضارة وثقافة معشوقة متخيلة ...

حديث هذا الراعي العازب المتوطن ابن هذه الأرض أثار فضول وغريزة الصيد لدى أبناء قومه للظفر بهذه الغزالة المسحورة (فيهرع اللذين صدقوا والذين لم يصدقوا على الذلول والضوامر لطرق درب زبيدة " ينوجون" على مسافة رؤيا العين من منارة "أم القرون") ولكن كل جهودهم ووسائلهم تذهب سدى دون ان يعثروا لها على اثر... أي إنها استعصت على الصياد (الوطني) الذي طلب رأسها بأساليبه البدائية المتخلفة طاردها وبحث عنها ليس من اجل رعايتها وحمايتها وتكثيرها بل من اجل قتلها والتهامها ...!!!!!!!!

في حين يأتي الصياد الأجنبي ليطاردها بوسائله وأسلحته العصرية المتطورة ويتمكن من رصدها بوسائله المتطورة يلمح الغزالة المسحورة - حضارة الشرق اللغز والسحر- وهذه المرة ليس في الليل عند غياب الشمس او عند شحوب القمر وإنما في عز الظهيرة التي شبهها الراعي العازب بجهنم ... من اجل ان تروي عطشها وظمأها الذي لا يطاق وهي (تتجه الى الحمام لرتق شروخ كبدها) المنفطر عطشا(يتفطر كبدها الان كبئر جافة) إشارة معبرة ودلالة عميقة كما نرى لحنين الرمز الى مهد وموضع وزمن ازدهاره ونماءه وتطوره....

لاحقها الصيادون الغرباء بسياراتهم البالغة السرعة التي استطاعت إطاراتها ان تمسح حتى آثار حوافر الغزالة من على رمال الصحراء التي لم تعد تبعد عنهم أكثر من (مرمى عصا)..

ثم يضيف الراعي العازب حالة الفزع والخوف والهلع الذي انتاب الغزالة الشاردة من هذه القوى الضاربة الفتاكة التي تطلب رأسها قائلا (الغزالة كالردم، تخبط، تنحدر، تلتف، تركض، تقفز، تسرع، تناور والسيرة تسرع في أثرها، الصيادون مبتهجين يصرخون ونظرة الظفر في أعينهم التي لم تبصر غير الطريدة).

وهنا إشارة الى مدى وحشية وهمجية وعدوانية هؤلاء الغرباء القتلة صوبوا نحوها البنادق دون إمهالها لتروي عطشها، يهوي جسد (الغزالة) الذي ترفعه قوة دفع أطلاقات القتلة في حوض سباحة (زبيدة) تستقبلها (زبيدة) لتكون أخر المستحمات في حوضها الذي اصطبغ بلون دماء الغزالة المقتولة ... كما يروي الراوي العازب .... وهنا تظهر مدى اللوعة والفاجعة والألم لدى (زبيدة) رمز الرقة والجمال والرفعة وهي تتلقى جثة (الغزالة) المضجر بالدماء لتكون أخر المستحمات في حوض الطهارة والنظافة والخيال.....

بهذه الطريقة الفجة والوحشية يقتل الجمال والسحر والرمز الحضاري للأمة العربية الإسلامية وفي مولد حضارتها الصحراء حاملة الأسرار ومنطلق حركة الإصلاح الكبرى التي شيدت إمبراطورية عظمى في تاريخ البشرية حتى إنها تسحق وتمحو كل اثر لها في رحم أمها صحراء العرب التي تحف بها رموز القداسة ودوال الحضارة العريقة .....

وهكذا بأسلوب ممتع يشير الكاتب الى ما تشهده الحضارة العربية والإسلامية من وحشية وهمجية الرأسمالية المتوحشة في مرحلتها ما بعد الامبريالية حيث دخلت أخر مراحلها الا وهي الامبريالية الإرهابية المسلحة والمسعورة لتستولي على ثروات الشعوب وتقتل وتطمس رموزها الحضارية وتدمر ثقافاتها وتشوه او تستولي على كل رأسمالها الرمزي سر بقائها وتطورها وضمان مقاومتها لقوى الشر والاستغلال والاحتلال .....

 

الشعرية في الســرد

 تميزت اللغة السردية للكاتبللها ندىرائعة كما في الشواهد التالية لتبقي على جو القصة مزيدا من الجمالية والإمتاع واتساع فضاء خيال القارئ العادي والقارئ الناقد، ليرسم صورة هذا الماضي المزدهر الجميل الساحر واغتياله على يد قوى الشر والقبح والغلظة ...

(الربيع ينشر ثيابه التي بللها ندى الصباح: تنسج الحكايات بنول الكلام، وجوه البنات حين تدهم قلاعهن خيول الخجل، تكفكف الغيوم دموعها في موسم الصيف، قافلة غيوم الشتاء ......)..

 فقد ضمن متن القصة السجع البديع المعبر البليغ، والشعر المنثور، فأنطق الحجارة والزهور، وكذا هو جمال السرد الرشيق المتماسك الرقيق، المحمل بعبق التاريخ والحضارة والسحر والإمتاع........

إنها حقا قصة باذخة الجمال ثرية المضمون والدلالة جعلت الصحراء تتكلم والتاريخ يشهد ....

 

الحريزي حميد

28-2-2012

 

للاطلاع

 آخر المستحمات في حمام زبيدة .. مرأى من كتاب: مرائي الصحراء المسفوحة 

......................

* ص641 المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام الجزء السادس الدكتور مكتبة جرير ط1 2006جواد علي

**دليل الناقد الأدبي د. ميجان الرويلي و د.سعد البازعي ص 348 ط4 2005 المركز الثقافي العربي -المغرب

  

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2045 الاربعاء 29 / 02 / 2012)

في المثقف اليوم