قضايا وآراء

"بلقيس ملحم" تكشف "ما قاله الماء للقصب" / حسين سرمك حسن

للشاعرة "بلقيس ملحم"، يلفت انتباهك فيها – وهي السعودية منبتا كما نعرف – هذه الروح المتعلقة بحرقة بالعراق ومحنته الفاجعة، وذلك عبر نصوص كثيرة . ففي قصيدة (مبشّرة بالعراق) تقول  

(بينما كانت السماء تمطر ندى

والفرحة تغمرني

سألته: يا عمّ وطنك جميل

لكن أين تدفنون موتاكم ؟

أشار إلى النهر

-هنا ندفنهم

-في النهر؟!

-نهرنا وافر المياه .. إنه يبتلعهم فورا

-يبدو ذلك .. فأنا لا اشم رائحة للموت عندكم

نزلت من الجنة عندما استيقظتُ

سألت طفلا من بابل

فردّ عليّ قائلا:

مبشّرةً أنت بالعراق

مخدّرة به

بالنطق به

على صدرك – ص 112 و113)

وتلاحظ فيها استخدام تقنية السرد في الحوار .. واللمسة الميثولوجية عن النهر كرمز للعودة إلى الرحم الأمومي . أمّا في قصيدة (كائن حي من بلاد سومر) فهي تغوص في أعماق المكوّن العاطفي الشفيف والآسر لكائن تلك البلاد والذي طمرت بهاءه حوادث الزمان الخانقة:

(في اليباب الداكن

في حضرة النشور

قبيل غفوة الحقول

في المهد المبلل

يتسلق وحيدا معي

يسرقني كتفاحة طائرة

يقضمني بلذة باء الحب

فتنعس سمرتي

حنطة على سرير المسافة- ص126).

ويبدو أن بلقيس قد عاشت في بغداد زمنا ما ، واقعا أو حلما ، فهي تستدعي تفصيلات المكان البغدادي بحرارة لائبة في الذاكرة كمن كان في رحم المكان وخلع منه . في قصيدة (تفّاحة باب الشيخ) تقول:

(أشتهي

أن أتسمر في باب الشيخ

أتصيّد لأنفي روائح تلك الحارة

أقرأ لها

.......

فأنهمر بكاء

.............

..............

أقرأ

أقرأ

وعائشة –اللذيذة- تسأل:

أتشتهين عراقا

من تفاحة بيضاء

في حارة باب الشيخ؟

نعم

بيضاء

ومع ذلك ملوّنة !- ص 88 و89).

ومن الدلائل على هذه المعايشة اللصيقة بالمكان هي كثرة المفردات "الحربيّة" التي تستخدمها بلقيس في نصوصها، هذه المفردات التي صارت من سمات الخطاب الشعري "العراقي" بامتياز، حيث تتكرر مفردات مثل: القصف، المفخخات، الشظايا، الحروب، الجماجم، التوابيت، الجريح ، القذائف.. وغيرها، والتي تمتد حتى على جسد النصوص الغنائية. كما أن هناك استخدام اللغة العامية العراقية بصورة موفقة ومؤثرة :

(أتسلل إلى فستانك الأنيق

أنفض حضنك

ألتصق بصمغك

السواران ضاعا ؟

والقذائف "ما تقبل تعوفنا"

نعم ضاعا

يوم كانا

يضغطان بشدة

على نهديك – قصيدة "لماذا تموتين؟"- ص 109 و110).

أو :

(أنظري

ذاك بخور يتلاشى

يفقد رائحة الصوف الدافىء

القمح الذي وعدوه بمباركته

الحلم ذو الصوت الممتليء "إي ولك يابه عيوني" – قصيدة "خاص جدا"- ص 37). 

ومما لا يقل أهمية من محاور هذه المجموعة هي هذا الهم الذاتي المشتعل، والخيبة التي تحاصر بقبضتها الخانقة روح الشاعرة وتمزق بمخالبها الباشطة نسيج وجودها الهش، في حياة جائرة مقومها الفردانية والأنانية الموصلة إلى عزلة الجزر البشرية الطافية على بحيرة المجتمع السوداء :

( أعترف بأنني كثيرة البكاء

وبأنني أثقل على من يفتح لي قلبه

لذا

لا يكترث المطر على من يسقط

سريعا ما أفقد أصدقائي

وينحسر عني

من كان يسمعني تحت بطانات القصف

..........

لا أحد يتسع لأحد – ص 98- قصيدة "الكمان المقدس").

ولا يجد الفرد المنخذل والمخذول من جفاء الأرواح البشرية البائسة المحيطة به، تلك "النفوس الميتة" التي تنطوي على مصيرها الفج باكتفاء مغث في الظاهر سوى أن يلتمّ على ذاته ويتصالح مع خساراته الباهضة بيأس عزوم :

(أعرف أن الله لا يهرب من صلواتي

أنا أيضا لا أهرب من همومي

لأنني أحبّها

وأنسجم معها كإسرافي في الخطايا

تلك مطاياي على الصراط

وعليّ أن أتحمل ذلك وحدي – ص 99) 

وفي كل زاوية من المجموعة ثمة وجه الموت الذي يهمس به – بخشية - فم ماء الروح المستغيثة في اذن قصب الوجود المكلوم..

وقد حمل الغلاف الاخير للمجموعة رأيا للشاعر "يحيى السماوي" قال فيه:

(تقدم لنا بلقيس الملحم دليلا جديدا على حقيقة أن الشعر أكبر من أن يبتلعه فم الشكل، وأصغر من أن تجزّئه التعاريف.. هو بالنسبة لها مئذنة الروح وبلالها في محراب وجودها المحاصر بالمراثي، لذا سيكون من الصواب القول أن قصائد "ما قاله الماء للقصب" هي تراتيل قلب أشقاه شقاء الإنسان فنسج من نبضه منديلا يمسد به جراح المهمشين والفقراء والطفولة والأمومة والعشاق، بل وجراح الأرض العربية الممتدة من خليج دموع الشاعرة حتى محيط حلمها بالغد البهي)  

 

قراءة : حسين سرمك حسن - دمشق

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2045 الاربعاء 29 / 02 / 2012)

في المثقف اليوم