قضايا وآراء

تعالوا نتصارح: لوحة بغداد .. هل عبّرت عن فاجعة العراق؟ / حسين سرمك حسن

التي تحكمها فلسفة مادية بدأت بإعلان موت الله على لسان نيتشه في مرحلة حداثتها، لتنتهي بإعلان موت الإنسان على لسان فوكو في مرحلة ما بعد حداثتها. في أي لوحة حديثة ستجد كل شيء من ألوان وأضواء ومنظور وظلال واشكال هندسية وأحذية وملابس وغيرها، ولكنك لن تجد الإنسان. الفلسفة الغربية المادية في مرحلة ما بعد الحداثة تؤمن بمبدأ "التسوية" أي اعتبار الإنسان جزءا من الطبيعة ومساويا لأي مكون آخر منها وليس كثغرة في النظام الطبيعي بتعقيده وقدسيته.

أقف أمام لوحة الغورنيكا منذ عقود وأبتسم .. هل هذه هي مأساة الشعب الإسباني؟ رأس حمار ورأس حصان وثور؟ وأشكال ووجوه بشرية كاريكاتورية لا تظهر عليها أدنى أشكال الإنفعال الإنساني الفاجع؟

ستقولون أنت ساذج لا تفهم في الفن التشكيلي، وأقول لكم منذ ثلاثين عاما وأنا أتابع نتاجات الفنانين التشكيليين وأحللها وأنشر المقالات عنها . ستقولون لي في لوحة الجورنيكا :

اللون الاحمر الذي ملأ اللوحة هو لون الدماء البريئة التي سالت بسبب هذه الحرب الهمجية
في وسط اللوحة نرى رأس فصل من جسده ويسيل من الرأس الدماغ الذي رسم فيه (الفانوس) وهو يمثل النور ويمثل الرجل العاقل الذي يريد ان يهدي المتقاتلين وينير دربهم لكنهم لا يلتفتون اليه وقتلوه وقطعوه اربا اربا نرى حصان يصرخ من شدة الرماح والالم والهمجية
نرى اشخاص قتلوا ويسحقهم الناس بارجلهم نرى امرأة تحاول الهرب
نرى مصباحا كهربائيا وكأنه ينير الظلام ليرى هؤلاء المتقاتلون ماذا يفعلون في ظلامهم
نرى جوع وحرمان رسم على افواه مفتوحة بالكامل تطلب العون والنجدة
نرى مقاتلين قاتلوا وقتلوا حتى تكسرت سيوفهم
نرى على الجانب الايمن وحشا شريرا بهيئة حمار يضحك ويرفع يديه للاعلى فرحا بهذه الحرب
ومن الجانب الايسر نرى وحشا اخر يرتدي عباءة سوداء يسحق الناس بقدمه القذرة ولا يبالي

وأقول لكم هذا صحيح بالنسبة لكم أنتم الذين تعرفون معاني المأساة الإسبانية، ولكن خذوا شابا من أولادكم وقدموا له اللوحة .. واسمعوا حكمه؟ سندخل في معضلة الفن للنخبة .. والفنان ليس مسؤولا عن عدم الاستيعاب .. إلخ من ألعاب نقاد الحداثة.

793-sarالآن أقف أمام لوحة (بغداد) للرسام العراقي (أحمد السوداني) وأعلن أولا أنني أفخر ببيع لوحته بهذا المبلغ الذي هو الأول الذي يناله فنان عراقي وعربي في تاريخ الفن التشكيلي العربي (نصف مليون دولار) .. لكن هل عبرت عن المأساة العراقية أم مسختها ؟

لقد قال النقاد عنها أنها كذا وكذا .. الديك يمثل كذا .. وكيس البيض كذا .. والمسامير والمهرج ... إلخ

وكل هذا تلفيق لا صلة له بالفاجعة المدمرة التي نعيشها

خرجت أنا وابني عمر لنشتري الصمون صباحا فوجدنا شابا مقتولا مفقوء العينين مربوطا بعمود الكهرباء .. ذهبنا لاستلام جثة صديق من الطب العدلي في عام 2006 فشاهدنا جثث ثلاثة شباب مذهلين من الصليخ مبتوري الأعضاء التناسلية .. وفي الحلة ابتكر اهلها المفجوعين شيئا غير موجود في تاريخ البشرية هو "طشت الخردة" .. هل اشرحه لكم ؟ في أبي غريب اغتصب العراقيون والعراقيات بتخطيط مقصود .. الطفل البصراوي علي عباس قتل الأميركان كل أفراد عائلته وقطعوا ذراعيه مثل العبّاس ثم ركبوا له ذراعين فولاذيتين لا يستطيع بهما تنظيف جسمه الصغير !!

والآن نطبّل للوحة اسمها بغداد ونندهش لأنها فازت بنصف مليون دولار .. ونزعم أنها تعبر عن المأساة العراقية وهي لا تزيد عن مجموعة من شخصيات والت ديزني ..

لقد تحولت المأساة العراقية .. مأساة العصر إلى مسخرة .. وهذا ما تريده الولايات المتحدة والفن الغربي الحديث ..

تحمّلوا صراحتي وانظروا إلى اللوحة وأتحداكم إذا وجدتم فيها أي شيء له علاقة بمحنة العراق كضحية وبالأميركان كخنازير قتلة .. اللوحة تلطّف كل هذه المعاني وتحولها إلى فيلم كارتون لكن بألوان عظيمة ..

أفتونا مأجورين

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2047 الجمعة 02 / 03 / 2012)

في المثقف اليوم