قضايا وآراء

الأنثى وثقافتنا الذكورية (2) / سردار محمد سعيد

بيد الذكر فبات أبويا ً وذلك للعامل الرئيس وهو الإقتصاد، ووظف المجتمع الذكوري وما يزال طاقاته وجهوده لإبعاد الأنثى عن الحياة وعن سوق العمل وعن الإمكانات التي تستطيع بوساطتها ابرازقدراتها وملكتها الفكرية وابداعاتها العلمية والعملية .

في أولى الحضارات كانت بقايا لسلطة المرأة متجسدة في الآلهة فعمل الفكر الذكوري على إسقاط مكانتها من خلال إبراز تفوق الذكورة وتحطيم منزلة الأنثى الدينية فألف الأساطيروأعطاها قدسيّة تجعل العامة تؤمن وتصدق بماجاءت به.

الأساطير العراقية القديمة وهي أقدم ما اكتشف لغاية الآن كوثائق يمكن الإتكاء عليها كمصادر للبحث والنأي عن التقدير الإنشائي والأفكار والأقوال المنقولة شفاها ً

 أهم مايمكن ملاحظته أن الأنثى هي أم الوجود :

(ففي البدء كانت الآلهة " نمو " ولا أحد معها، وهي المياه الأولى التي انبثق عنها كل شيء(1) .

الخلق في المرحلة الثانية تم عن طريق الإنجاب وعلى قدر واحد كان هناك ذكر اسمه (ان) إله السماء والأنثى (كي) آلهة الأرض،وكانا ملتصقين ببعضهما، أي أن الأسطورة لم تجعل من أولوية خلق الذكر مسألة مهمة كما في خلق آدم ومن ثم حواء من جزء منه بل كانا على قدر واحد وملتصقين وفكرة الأولوية جاء بها الفكر التوراتي بأن جعل حواء تأتي ثانيا ً ومن جزء منه وهو الضلع على أنه في الفكر الديني الإسلامي الموثق لا يوجد أي دليل نصي على ذلك وإنما تفسيرات وأقوال .

إذا سألنا أنفسنا عن أهمية فكرة الأولوية نجد أنها لاتعني التفوق أبدا ً، وليست  سبيلا ً لإنكارحقوق الأنثى ورغبة السيطرة عليها،وليست المسألة مسألة تسابق في جانب حياتي أو مهني أو علمي .

المشكلة في الأساطير الأولى أنها تتحدث عن خلق الكون من مخلوق، فقد كانت هناك (تعامة) وهناك (آبسو) ولا نعرف كيف خُلقا، وهما على قدر معرفة وفكر الناس في ذلك الدهر أنهما كانا موجودين وهما بمقام الآلهة الأولى المؤنسنة بدليل أنها تستطيع المناكحة والإنجاب، فأقروا بوجودهما سلفا ً .

اعتقدت الأسطورة :إن في الكون أرض واحدة وسماء مبهمة كما هي مبهمة اليوم بفارق أن البشر توغل فيها وحصل على معلومات ومعارف ثرة وفرها التطور الفكري والعلمي .

أفلحت الأسطورة في إقصاء الزمان إذ بدأت بلفظة (عندما) وبإقصاء المكان من خلال لفظة (في الأعالي) فأول عبارة في أسطورة بدء الخليقة البابلية هي :

عندما في الأعالي .

استند كاتب الأسطورة على الوحي الشعوري في إقصاء الزمان والمكان وهما شيء عياني (فإن الشيء الزماني – المكاني بكل تعيناته هو عيني) 2).

الذي نحتاجه من الأسطورة ما يتوافق مع بحثنا في الأنثى فهي الأساس في الخلق والذي جاء في عبارة (ولدتهم جميعا ً) وكذلك في أساطير أخرى فإن (نمو) هي الأصل ولا نعرف إن كانت خلقت نفسها بنفسها في وجود غير موجود .

لنذكر نصوصا ً من أسطورة الخلق البابلية للتعرف على جوانب وجود الأنثى ومنزلتها في المجتمع :

(عندما في الأعالي لم يكن هناك سماء،

وفي الأسفل لم يكن هناك أرض

لم يكن من " الآلهة " سوى آبسو أبوهم

وممو وتعامة التي حملت بهم جميعا ً) .

 

ورد في الأسطورة تفصيلات عن محاربة تعامة والقضاء عليها وتمزيقها فيتبين أن الفكر الذكوري ارتأى الإيحاء بأن سلطة المرأة قد قضي عليها في بدء الخليقة،فورد في اللوح الأول منها:

(أي الرجال قدأشهر سلاحه ضدك

أم تراها تعامة، وهي أنثى، قد فعلت ذلك بك

أبي أيها الإله الخالق، لتسعد وتبتهج

فقريبا ً ستطأ عنق تعلمة) .

إذاً سيطأ الذكرعنق الأنثى، والسبب هو أنها كانت تتحكم :

(نافذة أحكام تعامة، لا يقاومها أحد) .

وبقوة السلاح الذي يقضي على الأعداء هُدر دم تعامة :

(وأعطوه سلاحا ً ماضيا ًيقضي على الأعداء قائلين :

إمض واسلب تعامة الحياة

ولتحمل الريح دماءها للأماكن القصية) .

لم تكن الأنثى المتمثلة بتعامة ضعيفة بل من القوة التي تحتاج تسخير قوى هائلة للقضاء عليها وقد استعان " مردوخ " بـ (الباطش) الذي وضعه في يمينه، و(الفاتك) الذي وضعه عن يساره .

فكرة القضاء على الأنثى في بدء الخليقة في الأسطورة من المساهمات في تحول المجتمع من أمومي إلى أبوي، ومن ثم تحجيم دور الأنثى،وأبعدت عن القيام بدورها في مجالات العمل، فسادت فكرة أن العمل من تخصص الرجل وعمل الأنثى يكون داخل جدران المنزل  .

حدث طمس وتشويه للموروث الذي يبين حقيقة ذكاء المرأة وابداعاتها في حضارة عريقة أخرى وهي حضارة وادي النيل فقام (تحتمس الثالث) بمحو ما له صلة بـالملكة (حتشبسوت) الذي ورثها بعد حكم دام أكثر من عشرين سنة أثبتت فيه مقدرة وكفاءة، وهذا مثال على انتقام الرجل من المرأة (بسبب تفوقها وذكائها وقوتها) فعمد إلى تدمير تماثيلها و(تشويه رسومها ونقوشها) 3) .

سلطة المرأة تحجم عن طريق منعها من العمل، ومجالات العمل متنوعة، وتوفر دخلا ً للمرأة وللأسرة وبذلك يتقلص دور الرجل في السيطرة، فيقوم الفكر الذكوري بتهييج المشاعر الذكورية،ودغدغةالعواطف الدينية بربط مساوىء ذلك بالجنس، فورد الآتي في نص منها :

(جعلوا من المرأة سلعة للدعاية والإعلان،وخطيبة في البرلمان، تشارك في التجارة وتقاتل الجنود الجرارة، جعلوها جندي شرطة، فوقعت من الإحراج في ورطة، تمتطي الدبابة، وتطارد الكتائب في الغابة، يستدر بهن عطف الجبابرة، وتبرم بهن الخطط الماكرة، ويكفيك في ضلالهم، وسوء أعمالهم، أن الهدهد وهو طائر ممتهن،أنكر على بلقيس حكم اليمن، وامرأة خلقها الله لمهمة، كيف يزج بها في أمور مدلهمة .

ونحن الرجال، أسندت إدارة الحياة إلينا، وكتب القتل والقتال علينا، وأما النساء في الإسلام فمقصورات في الخيام، محفوظات من اللئام، مصونات عن الآثام) 4) ..

لا أدري كيف سيبرر كاتب هذا النص المسجوع بتكلف كيف أن النبي العظيم محمد قد تزوج من تاجرة وهي خديجة ؟لا كيف سيبرر أن زوج النبي عائشة قد ركبت دبابة عصرها وهي الجمل، ولم تقتصر في الخيام، وكانت الرأس الكبير في معركة الجمل ؟

فيما يخص منزلة المرأة وعملها تُذكر أمثلة عن عدد من النساء العاملات

(وتولت المرأة المناصب أيضا ً)  فـ: (لبنى) كانت كاتبة للخليفة الحكم بن عبد الرحمن، و(كزنة) كاتبة الخليفة الناصر لدين الله، وكانت المرأة المسماة (رسيس) مقربة إلى عبد الرحمن الناصر، وتخرج معه في موكبه،و هي تلبس قلنسوة وتتقلد سيفا ً 5) .

 هذا يذكرني بـ (البانوقة أو الباقونة) ابنة الخليفة المهدي التي كانت تسير مع أبيها في موكبه في هيئة الفتيان، عليها قباء أسود ومنطقة وشاشية، متقلدة السيف، و (إني لأرى ثدييها قد رفعا القباء لنهودهما) 6)، ويلاحظ التفكير الذكوري في هذا النص فقد ركز الراوي على النهود وليس على السيف أو الحالة عامة، وقد يكون طبيعيا ًفي ذلك الزمان، ولكن المضحك في النص :

(وقد عمّت البلوى في زماننا هذا بما هو أشد من ذلك وهو أن المرأة تضع على رأسها شيئا ً يقال له الطاقية والقبعة فيصير كالطبق أو كالصومعة) .

أية شدة هذه، يالله، وتفكروا في شدة الكاتب لحين اللقاء في القسم الثالث .

 

.............................

المصادر والمراجع

1 – مغامرة العقل الأولى / فراس السواح .

2 – الوجود والعدم / سارتر .

3 – الأنثى هي الأصل / نوال السعداوي

4 - مقامات القرني / القرني .

5- تاريخ الأدب الأندلسي (عصر سيادة قرطبة) / إحسان عباس .

6 – تاريخ الرسل والملوك / الطبري .

7– سلوة الأحزان للإجتناب عن محادثة الصبيان والنسوان / المشتولي .

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2050 الاثنين 05 / 03 / 2012)

 

في المثقف اليوم