قضايا وآراء

قراءة في المشهد التاريخي (لعصر حمورابي) 2000-1595 ق.م / زهير صاحب

منها الرغبة بالاستفادة من خيرات هذه الأرض الطيبة المعطاء، او للتتلمذ وتلقي المعرفة في مراكز الحضارة المتقدمة التي أفاضت بها العواصم الرافدينية المشهورة على الفكر الانساني بكل سخاء.. والاحتمال الاخير، وهو الأسوء ونعني به: القيام بالغزوات المدمرة لاسقاط المراكز الحضارية في بلاد الرافدين.

واذا استثنينا الهدف الأخير.. بوصفه طريقة غير اخلاقية، فان السببين الاول والثاني.. قد فعّلا خاصية التجديد في حراك الاساليب الفنية عبرَ العصور الحضارية المختلفة في بلاد الرافدين.. إذ ان (فعل) الأحتكاك والتأثر والتاثير مع تلك الاقوام.. ساهم بشكل ملفت للنظر في تنوع موضوعات الأعمال الفنية، وتجديد آليات إنتقاء الخامات.. وتقنيات إظهار المنظومات الشكلية للمنجزات التشكيلية: إذ إن اشتراطات البيئة الطبيعية الأم لتلك الاقوام، ما زالت فاعلة في الذاكرة الفكرية لتلك الاقوام.. وتؤدي فعلها بشكل هام في بنيتهم الفكرية اللاشعورية.. عند إظهارهم الرغبة بالتواصل الحضاري مع الأرث الحضاري.. لاعظم حضارة شهدها الفكر الأنساني.

ويُعدّ الآموريون الذين ساهموا بشكل فعال في إقامة الحضارة البابلية على أرض الرافدين، بعد ان قبلوا فكرة التواصل والتتلمذ على ايدي اساتذتهم من السومريين والأكديين.. من اكبر الاقوام السامية التي استوطنت اجزاء مختلفة من بلاد الشام، منذ ابعد العصور التاريخية. "ويميل الباحثون حديثا الى إطلاق اسم الكنعانيين على تلك الاقوام، وتقسيمهم الى كنعانيين شرقيين وهم الآموريون، وكنعانيين غربيين او فينيقيين على الاقوام التي توطنت في الاجزاء الساحلية من بلاد الشام" .

تعني كلمة مارتو MARTU باللغة السومرية جهة الغرب، فيما تشير كلمة AMURRU في اللغة الاكدية الى ذات المعنى. ومنذ العصر الاكدي استعملت هذه الكلمة للدلالة على شعب او قبائل الآموريين.. الذين لقبّوا بالاقوام الغربية". وسيطروا على ادارة الحكم في بلاد الرافدين منذ سقوط سلالة اور-نمو في 2004ق.م إثر الغزو العيلامي، وحتى إنهيار سلالة حمورابي في 1595ق.م بفعل هجوم الاقوام الحثية.

إحتكَ الآموريون بسكان بلاد الرافدين منذ مطلع الالف الثالث ق.م. فقد ذكرتهم الكتابات السومرية: "بصفتهم بدواً مخربين لا يعرفون سكنى البيوت ولا الزراعة، ويعتمدون في قوتهم على استخراج (الكمأ) من البادية، ويأكلون اللحم نيئاً، ولا يعرفون كيف يدفنون موتاهم". ودلالة النص تُدلّل عن فكرة احتقار الحضارة للبداوة. وتلك مظاهر تقابلات دلالية لازمت معنى النصوص الأدبية في معظم الاحيان.. كالصراع بين (انكيدو) القادم من البرية.. مع كلكامش ملك الوركاء مدينة العلم والمعرفة والكتابة.. التي تُقام الافراح في اسواقها كل يوم كالعيد.

بدأت هجرة الآموريين الى ارض الرافدين على هيئة تسلّل من افراد وجماعات صغيرة، عاشوا في بلاد الرافدين جنوداً مرتزقةً أو عمالاً أو أُجراءً، ثم تطور الموقف حين تزايدت اعدادهم، فأمتهنوا مختلف الحرف المدنية والعسكرية، فشكلّوا منذ العصر الاكدي طبقة عاملة مميزة، ووصلَ بعضهم الى مراكز مرموقة في الدولة، وشغلوا مناصب عليا في السلك العسكري.

رغم المحاولات الدفاعية المتنوعة التي قام بها الملوك الاكديين وملوك عصر النهضة السومرية، لمنع تدفق القبائل الامورية الى ارض الرافدين، إلا ان الفرصة لهذا (القدوم) الجديد، قد حانت بعد ان اسقط العيلاميون حكم آخر ملوك عصر النهضة السومرية في 2004ق.م، فساعد مثل هذا الفراغ السياسي، الأموريون بأن يَشنّوا هجرتهم الكبيرة الأولى الى بلاد الرافدين ـ ارض الفن والابداع ـ ليؤسسوا عدداً من الممالك المتعاصرة، فقدت بفعلها البلاد وحدتها السياسية، ودخلت حالة سياسية جديدة يمكن تسميتها بفدرالية المحافظات: اذ تقاسمت القبائل الآمورية ارض الحضارة والمعرفة مؤسسةً عدداً من الممالك الصغيرة المتناحرة أهمها:

 

1ـ إيسن: احتلت مملكة إيسن بقعة جغرافية من الأراضي الخصبة، تعرف حالياً بأسم (إيشان بحريات)، على بعد 16 ميل الى الجنوب الغربي من الحاضرة السومرية الذائعة الصيت مدينة (نفرّ) في قضاء عفك بمحافظة القادسية. واستطاع مؤسسها الملك (إشبي ـ إيرا) ان يَمدّ نفوذ مملكتهِ بوقت قصير الى اقطار الخليج العربي، مؤسساً علاقات تجارية نشطة معها، وبالأخص البحرين (دلمون).

أظهر ملوك (إيسن) اعتزازهم وتعلقهم المميز بالثقافة السومرية، ولقبّوا أنفسهم بلقب (ملك اور) او (ملك سومر واكد)، كما كانت اللغة السومرية هي اللغة الرسمية لهذه المملكة. التي شهدت ازدهارا ثقافيا ملحوظاً.. فقد نسخت في عهدها العديد من الكتابات الادبية وعلى الاخص الأساطير والأشعار السومرية المشهورة، وحفظت في مكتبة مدينة (نفّر) المشهورة، ويعد الملك (لبث ـ عشتار) اشهر ملوكها، اذ اصدر شريعتهِ المعروفة في تاريخ القانون على ارض الرافدين، التي تسبق في تاريخها شريعة حمورابي بقرنين من الزمن.

2ـ لارسة: تعرف بقاياها الآن باسم (السنّكَرة) على بعد نحو 30 ميلاً الى الشمال الغربي من الديوانية. وكان مؤسسها الملك (نبلانم) شيخ احدى القبائل الآمورية. وقد دخلت في نزاع دائم مع مملكة (أيسن) المجاورة، وتمكنت من اسقاطها والسيطرة عليها في العام 1794ق.م.

3ـ اشنونا: تُعد من الدويلات الهامة في العصر البابلي القديم، وتقع في مثلث الاراضي الخصبة المحصورة بين نهري دجلة وديالى.. وصولاً الى سفوح جبال زاجروس شرقاً، وعرفت بهذا الاسم نسبة الى عاصمتها المشهورة(اشنونا) التي تغوص جذورها التاريخية قدماً حتى العصر السومري في الالف الثالث ق.م، وامتدت ضواحيها حتى حدود بغداد الحالية، اذ اكتشفت احدى مدنها الهامة المعروفة باسم (تل حرمل) في منطقة بغداد الجديدة.. التي كانت بمثابة (الاكاديمية) لدراسة العلوم المختلفة.. واكتشف فيها زهاء (5000) لوح كتابي ترتبط بموضوعات مختلفة مثل العقود والوثائق التجارية والقانونية والاقتصادية والرسائل الهامة والخاصة، وعدد من الالواح في مجال علم الرياضيات، واشهر ملوكها هو الملك (بلالاما) صاحب الشريعة القانونية المشهورة.

4ـ ماري: تعرف بقاياها الآن باسم (تل الحريري) وتقع على ضفة نهر الفرات، بالقرب من (آلبو كمال) على الحدود العراقية ـ السورية. وامتد نفوذها غرباً الى سواحل البحر المتوسط، والى الجنوب نحو مدينتي (عنه وهيت) في بلاد الرافدين، وامتلكت موقعاً جغرافيا هاماً باشرافها على خطوط التجارة الصاعدة من الخليج العربي الى موانىء البحر المتوسط. واشهر ملوكها هو الملك (زمري ـ لم) الذي اشتهر بقصره العظيم الذي ضم اكثر من 360 غرفة، واكتشفت فيه الآلاف من الرسائل والوثائق الملكية، التي توضح خاصية النظم الاجتماعية والادارية والاقتصادية والعلاقات الدولية في العصر البابلي القديم، بالأضافة الى نماذج من الرسوم الجدارية الجميلة التي زينت جدران الساحات الفسيحة في القصر.

أتاحت الظروف السياسية المرتبكة، والنزاعات العسكرية التي نشبت بين الممالك الآمورية المتعددة المنتشرة في اجزاء مختلفة من بلاد الرافدين، التي أستغرقت ما يزيد على القرن من الزمن: الفرصة لتدفق الهجرة الآمورية الكبيرة الثانية بتاريخ 1894ق.م. إذ تمكن احد شيوخ القبائل الآمورية من قطع تلك المسافة الطويلة من بادية الشام ومناطق غرب الفرات، والاستقرار مع قبيلتهٍ في مدينة بابل، وعرف باسم (سومو ـ آبم)، مؤسساً (سلالة بابل الاولى) التي حكمها سلسلة طويلة من الملوك، أشهرهم الملك السادس (حمورابي) (1792-1750) ق.م.

كانت مدينة بابل مدينة صغيرة ابان العصر السومري (3500-2370)ق.م. وعرفت باسم (ka-Dinger-Ra-Ki). في حين حملت (بابل) أسم "بوابة الآلهة" في العصر البابلي القديم. ورغم الجهود العلمية الكبيرة التي بذلتها بعثات الاكتشاف العراقية والاجنبية، لم يتم اكتشاف عاصمة (حمورابي) حتى الآن، بسبب ارتفاع مستوى المياه الجوفية لنهر الفرات المجاور لها من الجهة الغربية، فهي تُشكّل بذلك العاصمة الرافدينية المفقودة الثانية، إضافة لمدينة (اكد) عاصمة الاكديين: فما أفدح الخسارة لمثل هذا التخَفّي: الذي ارجو ان يكون مؤقتاً.

أثبتَ (حمورابي) على انه رجل المرحلة.. ويشير اسمه على انه من الاسماء الامورية الجديدة، اذ كتب اسمه في شريعتهِ المشهورة على هيئة (Ha-am-mu-ra-pi) واوضح المرحوم الاستاذ (طه باقر): "ان اسم حمورابي مركب من كلمتين : "حمو" وهو اسم اله آموري من الآلهة الشمسية، ويعني الحرارة، و"رابي" ومعناها كبير او عظيم" ، وبذلك يكون معنى الكلمة الحرارة العظيمة او الدفء العظيم.

تمكن حمورابي بفعل ما تَميزَ به من سمات شخصية مميزة في إدارة الدولة، ان يحقق مشروع وحدة البلاد، فقد أسقط السلطة السياسية للممالك الامورية الصغيرة المنتشرة على ارض الرافدين، واحدةً تلو الاخرى، ليعلن في نهاية حكمه الذي استغرق (42) سنة وحدة البلاد السياسية، بل ومدَّ نفوذه الى اجزاء من بلاد الشام، ووسع سيطرة امبراطوريته الى الخليج العربي. فاصدر شريعتهِ العظيمة في اواخر سني حكمهِ، ليعيش الناس بسعادة وسلام. فحقَّ له ان يلقّب نفسه: حمورابي الامير، الملك القوي، ملك مدينة بابل، ملك الجهات الاربع، ملك سومر واكد، باني البلاد، اول الملوك، الذي أنهى المعارك، بطل الابطال، داحر الاشرار، الذي حقق وحدة البلاد، محبوب الآلهة العظام.. وغيرها الكثير.

إهتم (حمورابي) إهتماماً كبيراً باعداد جيش منظم قوي، يتألف من المتطوعين من ابناء البلاد، واعتمد عليه في توحيد بلاد الرافدين، ودرء الأخطار الخارجية عنها، والقضاء على محاولات التفرقة والانفصالات السياسية. "وعمل على تقوية نفوذه، وسعى الى توحيد ادارة البلاد، عن طريق تشكيلات ادارية محكمة، كان الملك فيها يشرف على كل صغيرة وكبيرة في البلاد، يساعده في ذلك حكام المدن المخلصين له، وعدد كبير من الموظفين الحكوميين، الذين يقومون بتنفيذ المهام الملقاة على عاتقهم من قبل الملك بصورة دقيقة ودؤوبة".

فلم يكن في مدينة بابل ابان عصر حمورابي (شرطة).. فقد كانت عاصمة للحضارة والفن فقط، اشبه بالمدينة الفاضلة.. إذ كان باستطاعة من أختلف على شيء، مراجعة الشريعة المعروضة في معبد الاله (مردوخ) وسط العاصمة، وتعرّف الحل القانوني لمشكلتهِ: "وكان باستطاعة أي مواطن في بلاد (حمورابي) ان يرفع شكواه الى الملك مباشرة، ويعرض عليه الظلم الذي تعرض له.. او الغبن الذي لحقهُ، الذي كان يبادر الى دراسة هذه الشكاوي شخصياً، ويصدر اوامره فيها".

وصرف حمورابي جُلَّ اهتمامهِ بشؤون الري، بغية الارتقاء بالمحصول الزراعي وتحقيق نهضة إقتصادية للبلاد، فقام بشق القنوات الجديدة، وكري وتنظيف القنوات القديمة.. فحق له ان يفتخر في كتاباتهِ بانه "جلبَ مصادر لا تنضب من المياه الى بلاد سومر وأكد. "كما أولى اهتماماً كبيراً بانشاء السدود والنواظم: لدرء الفيضانات او لخزن المياه للاستفادة منها في فصل الصيف.. وجاء في كتاباتهِ التذكارية انه بنى سداً كبيراً عند (فم) احدى القنوات المائية الكبيرة: "في ذلك الوقت، انا حمورابي، الملك القوي، محبوب الآلهة العظام، بنيتُ سداً عظيماً على رأس القناة بالتراب الكثير، واقمتهُ عالياً مثل الجبل".

ونالت الاعمال العمرانية، اهتماماً كبيراً من لدن الملك (حمورابي)، التي شملت عاصمتهِ بابل والمدن الاخرى على حد سواء. وتتلخص منجزاتهِ في مجالات البناء والاعمار، بناء المعابد الجديدة للآلهة، او صيانة المعابد الهامة وتقوية اسوار المدن التابعة له. اما المشاريع العامة التي تصب بالنفع العام للبلاد، فكانت تنجز بجهود (العمل الشعبي) على ان تتحمل الدولة اجور ونفقات اطعام واكساء جميع العاملين..فحقَّ له ان يلقب نفسه في مقدمة شريعته" (انا حمورابي الراعي، المسمى من قبل الأله (إنليل): الذي يجعل الخير فيضاً وكثرة".

بفعل تلك الجهود العظيمة. غدت (بابل) حاضرة الشرق الثقافية العامة، بشوارعها الفسيحة المنظمة تنظيماً حضرياً جميلاً.. وباحيائها السكنية الهامة، التي كان من اشهرها (حي الدبلوماسيين) اذ يلتقي سفراء العالم من كل صوب، لتعرف قيم الثقافة والفن، والتداول في الشؤون السياسية، وبفعل عالمية بابل او لنقل مركز بابل العالمي: اصبحت اللغة البابلية المدونة بالخط المسماري.. لغة المراسلات الدبلوماسية بين عواصم العالم.. وبفعل هذا الزهو الحضاري.. وجدنا ان الحاجة ماسة لدراسة بنية الحضارة البابلية، التي عمل تفاعل عناصرها الثقافية الجدلي الى ازدهار الفن في ذلك الزمن السعيد.

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2053 الخميس 08 / 03 / 2012)

 

في المثقف اليوم