قضايا وآراء

"افتراق الأمة" بين التاريخ والثقافة / ميثم الجنابي

وهي بديهة لها تاريخها العريق في الثقافة الإسلامية وإبداعها النظري، نعثر عليها بجلاء في علوم التاريخ والملل والنحل وعلم الكلام، بل وحتى في كتب الأدب والطبقات المختلفة. وقد كانت هذه الرؤية عند المفكرين المسلمين القدماء نتاجا لتعمق الوعي السياسي والنظري التجريدي في ظل "افتراق" دائم في الأمة. ذلك يعني أن بدايته الأولية كانت تكمن في الأفعال الملازمة لصيرورة الدولة وصراعاتها الحتمية. أما الفكرة القرآنية القائلة بأن كل شيء عرضة للزوال، فإنها لم تكن صدى التأثير الخفي للرؤية "الجاهلية" في تصوراتها ومواقفها من الموت والمصير، بقدر ما كانت توكيدا على نفيها الشامل في خلود المطلق.

وقد سار الوعي الإسلامي، في محاولته الكشف عن معنى ومضمون الأمة وكيانها السياسي والروحي في هذه "الجدلية الساذجة" التي تشحن الذهن بقدرة البناء المجرد لمختلف النظريات، مع سلبه في الوقت نفسه قدرة تجاهلها. وهي "جدلية" لها مقدماتها في التطابق المستتر والانعكاس غير المباشر بين "نظريات" الوجود التاريخي وبين انعكاسها في الحركة المتناقضة للوجود الاجتماعي. فقد أدى انتصار الإسلام إلى وضع حدود لفوران الفكر ضمن شموليته العقائدية. وهي صيغة تاريخية وثقافية لعلاقة الشكل بالمضمون المميزة لكل إبداع أصيل. وهي علاقة جوهرية في الإسلام أثرت على مجمل التطور اللاحق للأفكار والقيم، وذلك بفعل تحول الشمولية العقائدية إلى خلفية روحية للوعي النظري. لهذا لم تضعف التجزئة التي لازمت التطور السياسي والفكري للامة وحدة انتمائها الروحي ـ العقائدي، على العكس، إنها ساهمت في تمتين أواصر هذا الانتماء و"التنازع السلفي" من أجل إثبات حق تمثيلها "الشرعي".

لقد كان حديث افتراق الأمة في صيغته المجردة التعبير الموضوعي عن واقع الأمة المجزأة فكريا ـ سياسيا والموحدة في انتمائها لعالم الخلافة والأمة والإسلام. وليس مصادفة أن تناقش كتب الملل والنحل الإسلامية إلى جانب الحديث النبوي، قضية الإسلام والإيمان. وباستثناء النوبختي، ولحد ما الملطي (ت ـ 377)، فإن هذه القضية تخللت كافة الكتابات الكبرى. ويمكن تفسير غياب هذه القضية عند النوبختي والملطي على أساس مساعي النوبختي لحصر فرق الشيعة وآرائها فقط، بينما يحتمل أن تكون في حالة الملطي، نتاجا لفقدان الأجزاء الأولى من كتابه (التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع).

أما الأشعري (ت ـ 324) فقد اختصر أحكامه بصدد هذه القضية بوضوح بالغ في معرض انتقاده للممارسة الفكرية في شقيها الجدلي والمذهبي، عندما أشار إلى ضيق ولا أخلاقية التشويه والاتهام والتضليل المتبادل بين الفرق. وكتب بهذا الصدد يقول على "أن الناس اختلفت بعد موت نبيهم في أشياء كثيرة ضلل فيها بعضهم بعضا وبرئ بعضهم من بعض، فصاروا فرقا متباينين وأحزابا متشتتين، إلا أن الإسلام يجمعهم ويشتمل عليهم".  ولم يكن موقف الإشعري هذا نتاجا لضعف الجدل الفكري واللاهوتي وعدم بلوغه آنذاك عوالم الروح وخلجاتها، بقدر ما يكشف إلى أي حد مذهل وصلت إليه ذهنية التفريقات والتفريعات الكلامية. بعبارة أخرى، لم يكن اختصار الإشعري لهذه القضية معزولا عن توجهه الاجتماعي والأخلاقي ونمط تفكيره. فهو لم يكن متكلما محترفا، بل وإماما للفكر العلمي والعملي جمع في ذاته وحدة العقيدة والأخلاق. وسعى في خضم الصراعات الحادة، للبحث عن سبيل وسط، شأن كل أئمة الفكر الكبار.

إننا نعرف جيدا، بان سبب الخلاف في الفكر لا يعود للمنطق كما هو، بل لاستحواذ استيعابه الشكلي على ذهنية المرء. وسبب الخطيئة في العمل لا يعود لمساعي الفوز، بل لترجيحه المطلق. أما في الفكر العملي، فان السعي "للوسط الذهبي" ليس تهاونا، بل الإطار الضروري والأسلوب الواقعي للوحدة السياسية والتجانس الروحي ـ الأخلاقي. وفي هذا يكمن سر ابتعاد الأشعري عن ولع التفريق بين الإسلام والإيمان والتفريع في الأحكام المتعلقة بذلك، لاسيما وهو الضليع بها. فقد ظل الأشعري بهذا الصدد معتزليا في طراوة استيعابه لحرية الفكر.

أما الكعبي (ت ـ 317) فقد أشار في مقالاته كما يذكر البغدادي، إلى أن مفهوم "أمة الإسلام" ينطبق على كل من أقر بنبوة محمد وأن كل ما جاء به حق، ولا يغير في انتمائه لأمة الإسلام أي قول يقوله فيهما بعد. وهي فكرة وجد فيها عبد القاهر البغدادي (ت ـ 429) تهافتا لا يمكن الإقرار به. لأنها فكرة تنتقض بالآراء التي تطرحها العيسوية من يهود أصبهان، التي تعترف بنبوة محمد وبأن ما جاء به حق، إلا أنه لا يلزم بني إسرائيل. وينطبق هذا أيضا على قوم من الموشكانية اليهود. إلا أننا مع ذلك لا نجعلهم من أمة الإسلام، كما يقول البغدادي. فأمة الإسلام، حسب نظره، تجمع أولئك الذين يقرون بأن "العالم مخلوق، ويوحدون الله، ويقرون بكونه قديما، إضافة إلى الإقرار بصفاته وعدله وحكمته ونفي التشبيه عنه، وبنبوة محمد ورسالته إلى كافة الخلق وبتأييد شريعته، وبأن كل ما جاء به حق، وبأن القرآن منبع أحكامه الشريعة وأن الكعبة هي القبلة التي يجب الصلاة إليها. وهي شروط تعبر عن تقاطع الذهنية الكلامية والفقهية في تحديدها لهوية الانتماء الإسلامي. بمعنى رفعها نفسية الكلام المذهبية إلى مصاف الأيديولوجيا "الرسمية". بينما لم تكن هوية الانتماء هذه سوى "عقائد" الفرق الكلامية، عبر تحويلها إلى عقيدة ملزمة للجميع.

وسار ابن حزم (ت ـ 456) في نفس تقاليد "الروح الصارمة" للبغدادي، إلا أنه افترق عنه في أسلوب البرهنة وماهية حد الإيمان، الذي سبق وأن بلورته تقاليد الكلام بعبارة "الإيمان هو إقرار باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالأركان". فقد استثار ابن حزم في جدله الشديد، ما اعتبره تهافتا في الفكرة المنتشرة بين أوساط المتكلمين كالأشعري والفقهاء كالطبري من أن المرء لا يكون مسلما إلا في حالة استدلاله المنطقي على حقيقة الإيمان. إن نقطة الضعف عندهم تقوم في كونهم بنوا فكرتهم على أساس الموقف من التقليد، كما يقول ابن حزم. انهم انطلقوا من المقدمة القائلة، بان كل ما لا يعرف بالاستدلال العقلي المستقل هو تقليد مذموم. إذ ليس هناك من إمكانية لمعرفة الحق من الباطل إلا بالدليل، وإن ما لم يكن يصح بدليل فهو مجرد دعوى. فمن لا برهان له فليس صادقا في قوله. من هنا ضرورة العلم الصحيح. فما لم يكن علما فهو شك وظن. بينما العلم هو اعتقاد الشيء على ما هو به عن ضرورة أو استدلال. وبما أنه لا يمكن التوصل إلى صحة الصحيح وبطلان الباطل من الأديان بالحواس، فإن ذلك استلزم ضرورة الاستدلال. بينما حاول ابن حزم البرهنة على أن هذا الاستدلال بحد ذاته عن قضية الإسلام والإيمان، والمسلم والمؤمن، بعيدا كل البعد عن البحث الاستدلالي الصحيح. ووجد في فكرة التقليد الأنفة الذكر مجرد صياغة عامة وغير دقيقة وبعيدة عن الحقيقة، بسبب افتقارها إلى ما أسماه بالتقسيم الصحيح للتقليد. فهناك تقليد مذموم في حالة أخذه من دون الرسول محمد، كما يقول ابن حزم، أما ما جاء به النبي محمد، فإنه يقع في إطار الضرورة والأمر لا التقليد. بالتالي فإن تقليد النبي محمد هو "ليس تقليدا بل هو إيمان وتصديق وإتباع للحق وطاعة الله". وينطبق هذا أيضا على فكرة طلب البرهان. فابن حزم لا يقف بالضد من البرهان، ولكنه لا يرى فيه وسيلة ضرورية للإيمان. وليس ذلك لأنه لا يوصل بالضرورة إلى اليقين، بل ولان الغالبية من الناس يؤمنون دون دليل. فالعامة وهم الأغلبية من الناس عادة ما تسكن قلوبهم إلى الإيمان دون طلب دليل، كما نراه عند النساء والصناع والعباد وأصحاب الحديث وغيرهم. فهؤلاء جميعهم لا يحتاجون إلى برهان ولا إلى تكليف استدلال، كما يقول ابن حزم. وشكلت استنتاجاته اللاهوتية هذه وانتقاداته الكلامية للأفكار المعروضة، مقدمة للبرهان على الفكرة القائلة، بأن المسلم المؤمن هو كل من اعتقد بقلبه اعتقادا لا يشك فيه وقال بلسانه "لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن كل ما جاء به حق وبريء من كل دين سوى دين محمد". وبالتالي فإن كل من اعتقد الإسلام بقلبه ونطق به بلسانه فهو مؤمن سواء كان ذلك عن قبول أو نشأة أو استدلال.

لقد أراد ابن حزم البرهنة على أن مفهوم الإيمان والمؤمن ـ المسلم يقوم أساسا في اتباع الإسلام المحمدي. وبالتالي لا تقليد في إيمان كهذا. على العكس، إن التقليد في اتباع الكفر. فمعرفة القياس والاستدلال توصل إلى أنه لا ضرورة بالاستدلال والقياس كمعيار للإيمان. ولو جعلنا هذا المعيار معيارا وحيدا ونهائيا لأدى بنا إلى أن نضع أغلب أهل الأرض في خانة الكفار، كما يقول ابن حزم. من هنا يتضح بأن آراء ابن حزم بهذا الصدد، هي أحد نماذج "الوسط" الصارم، الذي تطغي عليه العقائدية الدينية المخلوطة بالجدل الكلامي العقلي. وبهذا المعنى يمكن اعتبار منظومته مقدمة منفية من الناحية المجردة في آراء الشهرستاني (ت ـ 548)، الذي أرجع مفهوم المسلم المؤمن إلى نمط التفكير ونموذج الممارسة الأخلاقية ـ المعرفية.

فقد انطلق الشهرستاني هنا من استيعابه الكلامي للحديث المأثور عن النبي محمد حول الإسلام والإيمان والإحسان. وطبقه بالشكل الذي جعل من مفاهيمه درجات تتمثل كل من البداية والوسط والكمال. فالإسلام قد يرد بمعنى الاستسلام ظاهرا، كما يقول الشهرستاني. ذلك يعني انه مفهوم يشترك فيه المؤمن والمنافق، كما جاء في إحدى آيات سورة الحجرات "قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا". وبالتالي، فإذا نظرنا إلى الإسلام بمعنى الانقياد والتسليم ظاهرا، فهو المبدأ (البداية)، وفي حالة ارتباطه بالإخلاص، أي بأن يصدق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويقر عقدا بأن القدر خيره وشره من الله، كان مؤمنا حقا. وفي حالة جمعه بين الإسلام والتصديق، وقرن المجاهدة بالمشاهدة وصار غيبه شهادة فهو الكمال (الإحسان). كل ذلك جعله يستنتج بأن لفظ المسلمين يشمل الناجي والهالك. وعلى هذه الفكرة المصهورة في منهجيته العلمية بنى الشهرستاني تصنيفه للفرق الإسلامية. وجعله ذلك أكثر تساهلا في إدراج الفرق في حضيرة الإسلام، بما في ذلك الغالية منها، على عكس البغدادي وابن حزم. ومن الناحية التاريخية والنظرية، كان أسلوبه الأكثر عقلانية وتجريدا في التعامل مع مادة البحث، مما أضعف الطابع العقائدي ـ المذهبي في دراسته للفرق. 

 اعتبر الشهرستاني "المستفيد من غيره مسلما مطيعا"، لان الدين هو الطاعة. وأن المسلم المطيع هو المتدين. وبهذا يكون قد سار في نفس تقاليد الكلام الإسلامي، الذي بلور قضية المسلم ـ المؤمن. وعلى الرغم من جوهرية هذه القضية العقائدية في علم الكلام، فإنها لم تكن في منهجيته أكثر من مقدمة ضرورية لصياغة المبدأ الأكثر شمولية تجاه تصنيف الفرق. إلا أن الشهرستاني لا يضع المسلم بالضد ممن يدعوه بالمستبد برأيه (أهل الأهواء) لاعتبارات دينية. وحالما نتفحص آراءه بعمق فإننا نعثر فيها على تضامن خفي بين مفهومه عن المسلم المطيع والمستبد برأيه في حال اقترابهما من الحقيقة. إذ ليس كل مستفيد من غيره على حق، كما يقول الشهرستاني. فربما "يكون المستفيد من غيره مقلدا قد وجد مذهبا اتفاقا بأن كان أبواه أو معلمه على اعتقاد باطل فيتقلده منه دون أن يتفكر في حقه وباطله. فحينئذ لا يكون مستفيدا، لأنه ما حصل على فائدة وعلم ولا اتبع الأستاذ على بصيرة ويقين". فالاستفادة أو الإسلام أو الطاعة مرتبطة في آراء الشهرستاني، من حيث الجوهر، بمفهوم البصيرة واليقين. أما المستبدين برأيهم (أهل الأهواء)، فربما يكون أحدهم،  "مستنبطا مما استفاده على شرط أن يعلم موضع الاستنباط وكيفيته، فحينئذ لا يكون مستبدا حقيقة، لأنه حصل العلم بقوة تلك الفائدة".

من هنا يتضح بأن الشهرستاني لا يضع تعارضا بين الاتجاهين في حالة اقترابهما من الحقيقة كما هي، بل يضعهما إن أمكن القول في علاقة التضمن (المنطقي)، أو علاقة الأعم والأخص. ويظهر ذلك بجلاء في استنتاجه القائل بأن "من قال بالأحكام الشرعية فقد قال بالحدود العقلية، ولا ينعكس". والشهرستاني مصيب في حكمه الدقيق. فهو لا يصوغ هنا مبدأ الأفضلية التقييمي، بل مبدأ فكريا لتقسيم الاتجاهات والمدارس. فإذا كانت قضية الإسلام والإيمان هي الصيغة اللاهوتية التي أثير حولها الجدل في علم الكلام، فإنها امتدت نظريا وعمليا إلى كافة ميادين الثقافة الإسلامية من الفقه حتى التصوف. ولم تترك للوعي والضمير الإسلاميين مشقة العوم في فضاء الانتماء الروحي فقط، بل وقلق الركون إلى ثوابت الحق، بفعل ما لهذا التحديد من وظيفة عملية خطيرة. فهو تحديد يمكنه أن يشكل نقمة الهلاك الفردي والجماعي، كما يمكنه أن يكون نعمة الغفران الأخلاقي والفكري. إلا أن هذا الاستنتاج الأخير هو نتاج تجزئة التوحيد الفلسفي وليس نتاجا لوقائع التاريخ الفعلية وانعكاسها في تقاليد علم الملل والنحل.

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2054 الجمعة 09 / 03 / 2012)

في المثقف اليوم