قضايا وآراء

من هي فيسوافا شيمبورسكا ؟.. / صالح الرزوق

وتأثرت بمجموعة من العوامل التي كانت مسؤولة عن التوجه في صوتها ومضامينها. وأخص بالذكر هنا المدرسة الواقعية الاشتنراكية، ولكن ليس وفق المقاييس التي وضعها جدانوف السكرتير الأول المرعب لستالين، وإنما بمفهوم غوركي المتحرر من التوجيهات والخطابات.

ومن هذه النقطة يمكن أن نفسر لماذا اهتمت في مطلع شبابها بكل القضايا المصيرية التي تهم الدولة وليس الأفراد. لقد كانت تركز في مجمل كتاباتها على موضوعات عامة خانقة وذات أبعاد كونية ، ومنها الحرب والمجاعة والهزيمة والروتين الذي قالت عنه : إنه أهم من غير المهم  ( 1 ).

وفوق ذلك التنديد بالنازية العدو التاريخي الأول لدولة البروليتاريا. ويصعب في هذه المرحلة أن تجد قصيدة واحدة تستخدم فيها مفردات من قاموس الحياة الشخصية. حتى أنها رفعت في قصيدتها المبكرة ( استذكار ) ( 2 ) شعار تلازم الذات مع الموضوع بقولها :

أيتها السنونوة يا ليتنا

 ما نسينا قضايانا.

في هذه المرحلة لم يكن هناك لدى شيمبورسكا اهتمام بعلبة المكياج التي لجأ إليها زملاؤها البولنديون الآخرون في المنفى وفي مقدمتهم جيسواف ميوش، رائد الحداثة المتعصب لسرياليته ولفوضى أفكاره ولكل أنواع الصدام مع عقدة الطبائع.

ومن هذا الباب يمكن أن نقول إن شيمبورسكا شاعرة علنية ومكشوفة ، شاعرة شفافة، إن لم تكتب حول الحب والوجدان الفردي وقلق الذهن المصدوم بوفرة الممنوعات، فقد استفاضت في المسائل الوجودية التي وضعت تجربة المجتمع وخباياه تحت المجهر.

وغالبا ما كان الرعب والخشية من الدمار والتوجس من الموت يفرض نفسه على مفردات قصائدها. ومن ذلك قولها في مجموعتها ( النهاية والبداية ) الصادرة عام 1993 : نحن نخاف من الحرب لأنه علينا أن ننظف بعدها ، ولأن ثمة من يجب أن يزيل الحطام.

ولكن هذا لا يعني أنها كانت مباشرة في طبيعة تداولها للحساسية الشعرية. لقد حاولت منذ البداية أن تؤكد على قانون البداهة وأن تعتمد على الموهبة. وبنفس الوقت أن تأخذ الغطاء المشروع والقانوني من رموز الحداثة والرومنس في بولندا وبالأخص الشاعر السلافي القومي آدم ميسكيفيتش.

لقد كانت في تراكيبها ملتزمة بأهم قوانين المرحلة وهي الكتابة عما يهم الناس ويحرضهم، ضمن إطار رقيق وعاطفي وبعيد عن الجمود.  وكانت مولعة بكل تفاصيل الماضي ومصابة بنوستالجيا الأشياء والأماكن والعادات القديمة. وعلى الأغلب تقف وراء ذلك قناعة خاصة تتقاطع مع نظرية برغسون في الحدس، حيث أن العالم متصل ولا يمكن تجزئته. ولا بد من ربط الحاضر بالماضي عن طريق الذكريات .

وبهذا المعنى تقول :

هل هناك عالم

لأحكمه بالقدر الغاشم؟

أو زمن أحكم وثاقة بسلسلة من الرموز؟

أو وجود أراهن عليه حتى يكون بلا نهاية؟..( 3 )

وفي الفترة الثانية من سيرتها فعلت شيمبورسكا بالضبط ما يمليه عليها الواجب الفني وضرورة الواقع.

واقتربت مثل النظام من خريف العمر، وشرعت بالانكفاء على عناصر التمرد والتحدي وعلى أنين وفجيعة الذات وإحباطاتها.

وهكذا دخلت إلى قصائدها مفردات تتحدث عن المرض وعن القصائد الباردة و القلب الحزين وضرورة الحرية. وبذلك تكون قد اقتربت من الفن الشعري بواسطة الرموز البسيطة. وهذا هو نفسه أسلوب الموضوعات التي تضع المعنى أمام الشكل وبموازاة الإيقاع والبنية.

ومع ذلك يمكن لنا القول إنها احتفظت بفرادتها وتميزها. ولم تسرف في استعمال العلاقات الغامضة التي هيمنت على الساحة في شرق أوروبا بعد عام 1980.

ولم تضغط كثيرا على ما يسمى بالرموز الذهنية كما كان يفعل مواطنها المتميز زبيجنيف هيربيرت مؤلف الملحمة الشعرية الطويلة والشيقة التي حملت عنوان السيد كوجيتو، والتي عكست مخاض الثورة الثقافية في ذلك البلد.

وحتى اللحظات الأخيرة من عمرها حاولت شيمبورسكا الاحتفاظ بذلك التوازن المدهش واللطيف بين خصائص العاطفة العامة وخصائص الروح القلقة المنهمكة بالبحث عن هدنة مع الواقع الغاشم وغير الواضح.

حصلت شيمبورسكا على جائزة نوبل في الأدب عام 1996. ومن أهم أعمالها : لهذا نحيا ( 1952 )، الملح ( 1962 )، كل حال ( 1972 )، ناس على الجسر ( 1986 )، النهاية والبداية ( 1993 )، منظر بحبة رمل ( 1996 ). مع ترجمة عن الفرنسية لأشعار مختارة من دي موسيه ( 1957 ) ومن شارل بودلير ( 1970).

وقد ترجم لها هاتف الجنابي مختارات من القصائد التي تغطي كل نتاجها.

و فيما يلي قصيدة ظهرت مؤخرا في مجلة نيويورك للمتابعات الأدبية.

 

- الحياة الشاقة مع الذاكرة لفيسوافا شيمبورسكا

 

أنا لا أواظب على الحضور مع ذاكرتي

هي تريد أن لا أنقطع عن الإصغاء لصوتها،

ولكن أنا مترددة وحائرة

أصغي لها ولا أصغي،

أذهب بعيدا، وأعود أدراجي ، ثم أغادر مجددا.

هي تريد كل وقتي وانتباهي.

ولا توجد لديها مشكلة عندما أغط بالنوم.

في النهار المسألة مختلفة، وهذا يغضبها.

فتضربني بالرسائل القديمة، وتأخذ لي الصور باهتمام.

وتحرك الأحداث الهامة و الصغيرة،

وتجر عيوني لمشاهد تغاضيت عنها،

وتضع الأحياء مع أمواتي.

في كل قصصها أنا شابة.

هذا ممتاز، ولكن لماذا نفس القصة،

كل مرآة تعكس أخبارا جديدة عندي.

وهي تشعر بالغضب لو أهز كتفي.

وتأخذ بثأرها وتنادي بالأخطاء القديمة،

وإن كانت ذات وزن يمكن نسيانها ببساطة.

تنظر في عيني وتفحص ردة فعلي.

ثم تطمئنني، وهذا هو الاحتمال الأسوأ.

تريد مني أن أكرس حياتي لها وبرفقتها.

والأفضل في الظلام، في غرفة مغلقة،

ولكن في خطتي صورة لا تأفل لشمس النهار،

والسحب التي تتراكم، والطرقات الممتدة.

أحيانا أشعر بالسأم.

وأطلب أن نفترق ، من هذه اللحظة وحتى الأبد.

فتبتسم بشفقة.

إنها تعلم : هذا يعني أن وقت النهاية قد حان.

 

................

هوامش :

1 - قصيدة من الممكن بلا عنوان – ترجمة هاتف الجنابي.

2 - من مجموعة مناداة بيتي الصادرة عام  1957 بترجمة لهاتف الجنابي.

3 -  قصيدة متعة الكتابة.  ترجمة صالح الرزوق. موقع مجلة ألف. 2009.

 

آذار – 2012

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2054 الجمعة 09 / 03 / 2012)

في المثقف اليوم