قضايا وآراء

المِعمارُ الشعريّ لدى الشاعر المختار بن إسماعيل / سُوف عبيد

منجي الشملي – أحمد الحمروني – جمعة شيخة – الشاذلي القرواشي – عبد العزيز شبيل – زبيدة بشير وغيرهم

وقد تنوّعت المناهج والزّوايا التي نظروا بها إلى شعره لكنّهم أكّدوا جميعا على أهميّة المدوّنة الشعريّة باعتبارها صادرة عن طبيب حاذق للفنّ الشعريّ فهو بحقّ شاعر الأطبّاء وطبيب الشعراء بلا منازع

ويمكن اِعتبار الحوار المنشور بجريدة العرب بتاريخ 16 ديسمبر 2011 الذي أجراه عبد المجيد دقنيش مدخلا مهمّا  لمعرفة الأسس الفكريّة والأدبيّة والفنّية للشاعر بالإضافة إلى بعض التفاصيل التي تشمل السيرة الشخصية

ونقترح هذا المدخل في بعض ما تيسر لنا من المتن الشعري لمختار بن إسماعيل لنستشفّ خصائص المعمار الشعري الذي يجمع المبنى والمعنى ضمن جدلية متماسكة بعضُها يفضي إلى بعض وبعضها يدل على بعض أيضا

و نحن نعني بالمعمار الشعريّ الفضاءَ الوجدانيّ المُعبّرَ عنه بالأدوات الفنّية التي اِعتمدها الشّاعر في صياغة المعاني بالرّغم من يقيننا الباتّ أنّ توليفةً منصهرة متماسكة منسجمة تلك التي لا يمكن فصلها بين المبنى والمعنى بحيث أنّ المبنى يدّل على المعنى أيضا فعندما يختار الشاعر القصيدة الخليليّة فإنّما يعني اِنخراطه ضمن التيّار التقليدي ذي المحامل التراثية ولو في بعض منطلقاته وحدوده. وعندما لا نجد قصيدا واحدا –على حدّ علمي - للشاعر على صياغة الشعر المتحرّر، فإنّ ذلك يؤكّد أنّ الذائقةَ التقليديّة لدى الشاعر وسلوكَه المنهج القديم في المبنى و لم يكن عائقا أيضا للولوج في القضايا المعاصرة

إنّنا نسوق هذه الملاحظة مؤكّدين على أنّ الشّعر البديع يمكن أن يتأتّى في أكثر من صياغة فنّية وما تاريخُ الشعر العربيّ، من الجاهليّة إلى اليوم، إلاّ مراحلُ متنوّعة ومختلفةُ لأنواع متعدّدةٍ من الصّياغات الفنّية للقصيدة العربيّة المتوالية عبر مختلف الأمصار والأعصار

 

صــدى القديــم

لكأنّي بالشّاعر المختار بن إسماعيل يعود بالشّعر إلى مصادره الأولى تلك التي عرف فيها الإنسانُ الخرافةَ والأساطير وهي الفترة الحالمة من تاريخ الوجود الإنساني وما الشّعر في جوهره إلاّ عَود إلى الهواجس الباطنة بما تزخر به من خيال وكوامن النّفس في رحلتها الأبديّة وما اِستبطانه لشهرزاد وشهريار والسّندباد إلاّ توق من الشاعر لأسطرة اللّحظة الشعريّة وجعلها ضاربة في الماضي منبثقة منه ورانية إلى المستقبل خالدة في الوجود حيث يقول من قصيد – كان حلما – من ديوانه – وصايا القمر ص 26

كان أنسا من ليالي شهرزاد

خلت أنّي صرت فيها شهريار    

عبر أحلام وخلف السندباد

جبت طوعا كلّ أصقاع القفار              

جبت في التّرحال للهند البعيد

ما اِعترى الأنفاس أفّ أو طحار           

من أقاصي الشّرق جمّعت الطّيوب

من حرير الدّود طرّزت الخمار    

من نسيج الصّين وشّحت القباء

أحمر الدّيباج يحكي الجلّنار              

 

وإذا كان صدى القديم الخرافيّ الأسطوريّ واضحا في هذه القصيدة فإنّ صدى التاريخ يتردّد في قصائد أخرى مثل قصيدة " حلم أندلسيّ " بديوان –تحت دوح الياسمين- ص16. تلك التي ترجعنا إلى قافية لسان الدّين بن الخطيب واِبن سهيل الإسرائيلي وما صدى هذه القصيدة في وجدان المختار بن إسماعيل إلاّ حنينُه إلى جذوره الأندلسيّة الراسخة في مدينة تستور التونسيّة حيث يقول

 

يا فجر بشّر بمرأى يومنا الشّمس

               فالغيم يؤتي لهاث الصّدر والنّفس                 

ما طاب عيش بمنأى عنك قرطبة

               أو دام عشق رماه الهجر بالفلس                  

سيمات جدّي غدت بالذّهن عالقة

               كم بات يهذي برسم بائد درس               

 

فالقصيدة حنين وذكرى لمواطن الأندلس ومدنها وشعرائها لكنّ الشاعر ,على وفائه للزّمن الأندلسي الماضي ,نراه يشيد أيضا بوطنه الحاضر في مدينة تستور وبعلاماتها المميّزة من وادي مجردة والمالوف وغيرهما حيث يقول

 

إليك تستور شدّت كلّ أرحلة

               وبرّ أهل سما عن قسوة الضّرس         

مثل "الكبير" سخاء نهر مجردة

               أوفى اِخضرارا أديم الأرض بالورس              

بالزّهو همنا وبالمالوف عن ترف

 واللّهو إن فات حدّا بات بالتّعس                       

بالذّكر نؤتي لهاث الصّدر والنّفس

            والحلم يبقى مرايا عهدنا الشمّس                                 

 

والقصيدة تنتهي من حيث بدأت بتكرار عناصر البيت الأوّل فيها ضمن البت الأخير ويعرف هذا بردّ العجز على الصّدر لكنّ الشاعر ردّ آخر بيت على أوّل بيت في القصيدة وهي بدعة طريفة في الشعر لا تتأتّى إلاّ للشعراء الأفذاذ

 

مـرآة الحاضـر

لئن كانت ظلال القديم واضحة في شعر المختار بن إسماعيل على عديد المستويات المتراوحة من المستوى الفنّي واللّغوي إلى المستوى الذّوقي والجمالي فإنّ الشاعر نراه في عديد القصائد اِبن عصره وبيئته بما يختلج في وجدانه من قضايا وهموم نراه باسطا لها وناقدا إيّاها ومقترحا حينا الحلول منخرطا في سياق الإصلاح الاجتماعي ومتحمّلا أوزار المثقّف العضوي كقوله في قصيدة " أبكيك شعبا " في ديوانه –تحت دوح الياسمين- ص 58

أبكيك شعبا للدّجى إذ تلجأ

والنّور في عينيك جهلا تخبئ       

كيف اِبتلى جهل مرير أمّتي

               وهي التي في قصر عاج تهنأ      

بل كيف أفنت ضاد عرب مجدها

               والعلم يدري أين كان المنشأ       

 

والقصيدة دعوة إلى الأخذ بالعلم مع اِستعراض لبعض الأعلام العرب في الطبّ والجبر وغيرهما وهي اِنخراط واضح في المنهج الإصلاحي الذي دعا إليه المثقّفون العرب منذ القرن التاسع عشر

والشاعر في قصيدة " أتعبتني صراحتي " ص 36، في ديوان ـ تحت دوح الياسمين ـ  نراه يتحسّر على فقدان القيم الإنسانيّة النّبيلة من محيطه قائلا

 

يا لَقلبٍ تقاذفته الأماني

               ما جنى غير خيبتي وهواني       

بئس عصر سناه غيم شتاء

               ألحق البؤس والأسى بزماني    

إن ورودا وهبتهم وزهورا

               بالأذى أذبلوا ورود جناني          

 

وفي قصيد " لا تخنق الصّوت " ص 53، يدعو الشاعر إلى الإصداع بالرّأي وإلى حريّة التعبير تلك الحريّة التي اُفتقدت على مدى عصور وأجيال في الأوطان العربيّة حيث يقول

 

تكلّم وجاهر بما صرت تعلم

ولا تخنق الصّوت جبنا تكلّم          

وأعتقه حرّا طليق العنان

فمن صوتك الكون غيظا تألّم        

فلا خير في من يغضّ اللّسان

وإن جاء في القول حقّا تلعثم        

 

ونرى الشّاعر في هذا السّياق يعبّر عن ألمه وسخطه عند الحرب على العراق في قصيدة " ليلة الإثم " ص 72 من ديوان –تحت دوح الياسمين- التي ورد فيها قوله

ليلة الآثـام ظلّـت في خيالـي مستمـرّه

ذكرها بالخزي يوحـي ما رأت عيني أمره

خلت أنّي يوم بعث قبل موتي عشت حشره

بثّ فينا النّذل دعوى تفتري تخصيـب ذرّه

واِدّعى زورا ومكرا حوزنا ما رام حضره

واِستباح الوحش قمعا حطّ في بغـداد وزره

شنّ فيها الحرب يمحو ما رعى التاريخ ذكره

 

وتنتهي القصيدة باللحظات الأخيرة في حياة صدّام حسين وهو يعتلي المشنقة

 

إن طغى الجبّار حكما واِرتأى في الشّنق نشره

سوف يجني في عراق المجد إصرارا وثوره

شيمة الصدّام عَزَّ مَوْصـلا يَفدي و بَصـره

في خضمّ الشنق أدلى : عشت يا بغداد حـرّه

 

والشّاعر لا نراه يتألّم لغزو العراق فحسب وإنّما نراه يبدي عدم رضاه عن الوضعيّة الاجتماعيّة المتدهورة الأخلاق في ربوع بلاد "ماليزيا" رغم ما شاهده فيها من نهضة عمرانيّة وقفزة اِقتصاديّة حيث يقف على عدّة مظاهر سلبيّة قائلا

 

فتح مبين طال أمسا آسيا

بالسّلم أرسى رَبعها الإسـلام      

ما حيلتي إن جبت ليلا شارعا

للحشد ضجّت عبره الأنغـام       

كم بات يزهو بالغواني حافلا

بالعري مثلا ما أتت أفـلام         

حانات رجس هنّ فيها سلعة

للنّيل جنسا ما غلت أسـوام        

لا خير في يسر إذا رجسا أتى

بالمال أضحت تشترى الأجسام     

 

تلك هي بعض مواقف مختار بن إسماعيل في خضمّ الواقع المنعكس على مرآة وجدانه حيث تتجلى فيها من القضايا العامّة ظلال ثقيلة لم تمح ما تجلّى فيها من اِنعكاس الأضواء الأخرى كالغزل لذي يتّخذ من النموذج الرّومنطيقي مرجعا للمرأة أحيانا غير أنّ قصيدة ـ عشق تحت الخمار ـ ص ـ13 من ديون ـ تحت دوح الياسمين ـ تمثّل تجربة يمكن أن تكون ممثّلة للعلاقة بين الرّجل والمرأة في هذا العهد من مطلع القرن الحادي والعشرين في تونس الذي شهد عودة الخمار إلى كثير من النّساء بعدما كنّ قد شهدن السّفور بنسبة كبيرة بعد إحراز البلاد على الاستقلال

وقد نقل لنا الشّاعر حميميّة المعاناة في صياغة قصائده ضمن قصيدتين على الأقلّ الأولى هي " وسادتي خليفتي" في ديوان –وصايا القمر- ص 110، التي يصوّر فيها الأرق الذي ألمّ به وهو يكابد اِستنزال القصيدة من الخيال إلى الكلمات وخاصّة منها المطلع الذي يعتبر من أصعب الأمور حيث يقول

في ظلمة اللّيل العصيّ كعادتي

تستدرج الأشواق رؤية غادتـي                  

فلكم يئست من النّهار وشحّه

وغدوت أنشد في الظّلام سعادتي                   

وبباب عرش بتّ أرقب طالعي

بصلاة فجر تستجيـر عبادتـي                

فأبى الكرى أن يستجيب لخاطري

وغدا السّهاد يثير غيظ وسادتي           

 

ويصف مختار بن إسماعيل في قصيد " عسر المخاض " بديوان – تحت دوح الياسمين- ص 20، ولادة القصيدة ذات ليلة حيث يقول

في سكون اللّيل في حلك الدّياجي

               حامت الأطياف بي همسا تناجي          

حان للإعصار أن ينصبّ وحيا

               دثّريني واِمنحي تـوّا علاجـي               

 

فالقصيدة حين تكتب لدى الشاعر مختار بن إسماعيل تكون أشبه بعمليّة المخاض والولادة وترافقها أجواء على غاية من السّمو والصّفاء وما القاموس اللغوي المرافق لهذين القصيدتين إلاّ مقتبس من الأسلوب القدسيّ

بلى... إنما الشّعر إلهام واِبتكار... وما أدراك ما الإبداع ؟

 

يمكن أن نستخلص إذن أن المعمار الشعري لدى الشاعر مختار بن إسماعيل اِستلهام ومواصلة للنّهج القديم على مدى تراكماته وإضافاته المتنوّعة وقد عمد الشاعر إلى تحميله الوجدان المعاصر الحامل لهواجسه الشخصية وللقضايا الوطنية والقوميّة والعالميّة، فهو عندما يقول في قصيد ـ لا للفوارق والحدود ـ ص 104 من ديوان -وصايا القمر-

 

وبالحبّ يقوى رباط الإخاء

وينساق أمن رجاه الجدود                                

فإسلامنا للتّصافي دعا

رعى دين عيسى وشرع اليهود           

وأوصى بنبذ الأذى والإساء

وآيات برّ علينا شهود              

 

فكأنّنا نستمع إلى محي الدّين بن عربي في ترجمان أشواقه عند قوله

لقد صار قلبي قابلا كلّ صورة

               فمرعى لغزلان ودير لرهبان                 

وبيت لأوثان وكعبة طائف

               وألواح توراة ومصحف قرآن                 

أدين بدين الحبّ أنّى توجّهت

ركائبه فالحبّ ديني وإيماني                  

 

ذلك هو الشعر البديع والأصيل توق إلى الحرية والمحبة والجمال

مهما تباعدت الأمصار وتوالت الاعصار ؟

 

سُوف عبيد

رادس 3 مارس 2012

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2056 الأحد 11 / 03 / 2012)

في المثقف اليوم