قضايا وآراء

قراءة في فقه الغيب / محمد تقي جون

أو الأئمة او الصحابة وحتى الناس الاعتياديين، بل تجد ان بعضهم صار الغيب له اشبه بالهوس فهو يتكلفه ويدَّعيه كبعض المتصوفة في شطحاتهم، واستعمله رجالات السياسة في استغفال الناس البسطاء الى زماننا هذا، اذ ادعى الأتراك العثمانيون أن الرسول (ص) بشر بدولتهم بأحاديث ثلاثة مروية. واستعملوا مصطلحا او أكثر للدلالة على معرفة الغيب القادم ومنها (فتحت وكشفت وخرقت له الحجب) كأحد العلماء المعروف بالكاشف فقد ادعى انه خرقت له الحجب وانكشفت له الحقائق فرآها عيانا كما انكشفت لموسى (ع) على طور سيناء، والفت كتب تضمنت غيبيات ما انزل الله بها من سلطان بل قامت كتب على الغيبيات بشكل كامل، واقترنت غيبيات كثيرة بالمنامات والأطياف. وفي العصر الحديث عرفت قراءة الطالع والأمل أو العمل  على تغيير القدر، وعلم الباراسايكولوجي، والتبؤ بالمستقبل إذ تنبأ الروائي (أج. جي ويلز) ببناء الغواصة والمركبة الفضائية ووصول الإنسان إلى القمر قبل تحقق ذلك بعقود، وكتب الروائي (جورجي أورول) روايته المعنونة (1984) تنبأ فيها بما سيقع في تلك السنة وذلك سنة (1943)، وتنبأ (جول فيرن) الروائي الفرنسي بأمور كثيرة وقعت بالفعل أهمها اكتشاف التصوير الفوتوغرافي. ووضع نوستردامس (1503- 1566م) نبوءات تنبأ فيها بما سيحدث لسبعة قرون تالية "وجاءت تنبؤاته صادقة في كثير من الأمور وأكدتها الأحداث التاريخية".

وإذا راجعنا القرآن الكريم فسنجد أن للغيب معاني كثيرة ليس فيها (ما سيقع مستقبلا)، فالغيب هو (يوم القيامة) (قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ(النمل:65)) فالله وحده (عالم الغيب والشهادة). وجاء في القرآن الكريم الغيب بمعنى ما غاب عن الناس في الماضي (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (آل عمران:44))، كما جاء بمعنى تصرفات الناس في خلواتهم (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) وفسر الطبري الغيب بالقرآن في قوله تعالى (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ(التكوير24)) فضنين بالغيب: أي بتعليم القرآن فهو الغيب وليس الأمور التي ستقع.

والغيب هو عدم الظاهر او الشيء الخفي في الماضي او الحاضر، وعدم معرفة الغيب مشترك فيه الإنسان (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (سورة الجن:26)) والجن (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (سبأ: 14)). إلا أن الله سبحانه يقر بإعطائه بعض الغيبيات بقدر لأنبيائه (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا* إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (الجن27)). ومن هذا القبيل قول الرسول (ص) لعمار بن ياسر (تقتل عماراً الفئة الباغية).

على أن أخذ هذا الأمر مقياساً فيه جنوح كبير عن الحقيقة، ذلك ان الله (سبحانه) أقام الحياة وفق قانون ثابت وعلَّم الإنسان بالعقل والمنطق، وسنَّ له بالدين طريق المعرفة. فهل يقدِّر الله الأمور كالرزق والعمر مرة واحدة للإنسان عند مولده؟ حتماً لا، فالإنسان يسهم في ذلك التقدير وفق المنطوق الإسلامي؛ فالذي يصل رحمه ويتقي الله سيزيد عمره ورزقه والذي يقطع الرحم ويصنع الموبقات يقلل رزقه وعمره. وان الله لا يقرر امراً ويبقى على حالة خمسين او سبعين او ما يزيد من السنين دون أن ينظر فيه حتى يقع لقوله تعالى (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (الرحمن:29)) والتفكير في هكذا قضية لا يعدو اتهاما لله بما اتهمته به اليهود (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء (المائدة64)) فقد ذكر الشيخ الصدوق أن هذه الآية تؤيد صحة (البداء) وهي رد على اليهود لأنهم قالوا: إن الله قد فرغ من الأمر فقلنا: إن الله كل يوم في شان، يحيي ويميت ويرزق ويفعل ما يشاء. بل هو في كل يوم وساعة ولحظة يعيد ما قدر او يبقيه بإرادته (يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ(الرعد39)). وجاء في رسائل لطف الله الصافي أن الإمام جعفر الصادق (ع) فسر (ليلة القدر) بأنها الليلة التي يقدر فيها الله ما يكتبه للعباد في سنة وتكون محتومة الحدوث. ومن هنا يتبين لنا ضرورة الحذر الشديد من الغيبيات وعدم التعويل عليها كثيراً في الدرس الأكاديمي، فان الله (جلَّ وعلا) جعل الأيام دوله، ففي كل يوم يقيم دولة ويغرب دولة، ويقرر حال الناس جماعات وافراداً فيصعدون محلقين ويهبطون من حالق. وقد فتح الله الدعاء ليدعوه الإنسان أي يقدم عريضته وترفع إلى رحمته في الملكوت العرائض أولا بأول، ولو كان الأمر كما في تصور الناس عن الغيب لأغلق باب الدعاء لأنه لن ينفع وما كان الله (عز وجل) ليخدع الإنسان أو يكذبه بطلبه أن يدعوه (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ (غافر60)) ولما قال الرسول الذي يفترض به أن يكون عالماً بالغيب ومعلماً إياه حوارييه (قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (الأعراف188)) فهل مع إرادة الله اليومية بل الآنية سيقتنع المرء بأن قدره قد حسم، وحتى الذين بشروا بخير أو شر هل سيركنون إلى ذلك فلا يتخيلون أن الله سيغير قدرهم؟ لقد جاء الإمام الحسين (ع) إلى كربلاء ليقيم دولة على أساس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الرغم من علمه بنبوءة انه سيذبح في كربلاء، وحين ثار زيد الشهيد قيل له أعلمك أبوك السجاد (ع) بأنك ستصلب في الكناسة فلماذا تثور؟ فأجابهم: إن الله يمحو ما يشاء ويثبت، وقد ينصرني الله ويجعل الأمر لي. ربما قالا ذلك لمعرفتهما بإرادة الله الحرة وجبروته غير المحكوم بشيء، وربما أرادا أن يقولا: إن الإنسان يفعل ما يمليه عليه الواجب فقط، وأمر الغيب متروك لله لأنه قراره الأخير وحكمه الصارم.

  

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2057 الأثنين 12 / 03 / 2012)


في المثقف اليوم