تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا وآراء

التشيع وظاهرة السمو الروحي للشخصية العلوية (2-2)

مع ما ترتب عليه من سم يرتقي إلى مصاف المقدس، أي المنزه عن الابتذال. وليبس مصادفة أن تسعى الأموية منذ البدء إلى إرجاع صورته إلى أوطأ واشد الحالات "ابتذالا" بمعايير الأموية نفسها. عندما أخذت تعيره بكنية "أبي تراب". وهي "كنية" أطلقه النبي محمد عليه عندما وجده مرة نائما في الكعبة ووجه مغمورا بالتراب.

فالأموية الولعة منذ عقود وعهود سحيقة بالذهب والفضة، أي بالمال والثروة بوصفه الوجه "المتسامي" الذي يقابل "تراب الأرض" قد أرادت بوعي أو دون وعي إنزال هذه الهيبة الآخذة في البروز والانتشار عن الإمام علي إلى حضيض الأرض! لكنها لم تفعل في الواقع إلا على تفعيل المفارقة التاريخية للتاريخ نفسه. بمعنى "تهذيبها" دون وعي للحقيقة القائلة، بان الارتقاء إلى "السماء" يفترض الرجوع إلى الأرض لكي لا تتناثر تجربة الوجود الإنساني في هباء الزمن. ومن ثم عملت دون إرادتها على تقريبه من جسد التاريخ والبشر عندما ألحت على انه مجرد "أبو تراب". إذ اخذ هذا اللقب يقترب أكثر فأكثر من عقول وأفئدة الناس كلما ابتعدت واختبأت السلطة وراء أسوار استبدادها بالثروة والقوة. الأمر الذي وضعها في دوامة لم يكن بإمكانها الخلاص منها، أي دواة الإثارة الدائمة لنفسية الكراهية وضغينة الاتهام الأيديولوجي (العقائدي) ضده بشكل عام وضد "فقيهه للناس" و"تجرئهم على السلطان" بشكل خاص.

لهذا ليس مصادفة أن تسعى السلطة الأموية في كل أعمالها على إثارة الكراهية العمياء تجاهه وشتمه على المنابر مع تشديد القمع ضد هذه الجرأة التي أراد معاوية فطام الناس عنها. ولم يكن ذلك في أعمق أعماقه معزولاً عن صدفة صعود الأمويين للسلطة. فقد كان صعود معاوية لسدة الحكم نتاجاً للغيلة التي قتل بها الإمام علي. فالسلطة التي سقطت كثمرة يانعة في أحضان معاوية كان لابد وان تثير فيه شهية استحواذها الكلي. ولم يكن ذلك ممكناً دون انتزاع كل إمكانية لحقّ المطالبة بها، أي انه نظر إلى هذا "السقوط" على انه دليل على صعوده، وإلى مقتل علي على انه دليل على قوته وفوزه. ووجد ذلك طريقه الخفي إلى خبايا تفكيره السياسي. لكن محاولته فطم الناس عن الجرأة على السلطان قد أدت إلى استثارة الشعور بالغبن أولاً والتحدي ثانيا. ولعل في الحادثة المروية عن بكارة الهلالية في حضورها عند معاوية وما جرى لها، نموذجاً رمزياً أصيلاً. بهذا الصدد. فعندما دخلت عليه وكان بحضرته مروان وعمرو بن العاص وغيرهم، فأخذ كل منهم يروى شعرها في مدحها علياً يوم صفين. حيث أورد الأول شعرها القائل :

أترى ابن هند للخلافة مالكا  هيهات ذاك وما أراد ببعيد

بينما أورد الثاني شعرها القائل :

قد كنت آمل أن أموت ولا أرى

                      فوق المنابر من أمية خاطب

وعندما سكت القوم قالت: نبحتني كلابك يا أمير المؤمنين! أنا والله قائلة ما قالوا. لا أدفع ذلك بتكذيب فامض لشانك. فلا خير في العيش بعد أمير المؤمنين1 .

وهي حادثة تكشف عن إذا كان يمكن فطم شرائح عريضة من الأمة عن الجرأة على السلطان، فان من المستحيل على السلطان فطم الأمة عن الجرأة في حب وتعظيم رموزها الكبرى. فالسلطة الأموية لم تجد في علي سوى أبي تراب، بينما الجماهير لم تجد في أبي تراب سوى علي2 . والمفارقة التاريخية العميقة تقوم في أن ما بدا للأمويين نقيصة اتخذ في أعين الشيعة هيئة الرفعة والسمو. فالسلطة عادة ما تفتقد القدرة على إدراك القيمة الرمزية للأشياء والأسماء. فهي غير مستعدة لوعي هذه القيمة بمعزل عن "منطق القهر والمصلحة". إلا أن التقييم الإيديولوجي، الذي عادة ما ينبع من مكونات الروح الخائن في حالة انتصاره المغامر كان ينبغي له أن يخوض غمار صراع طويل من أجل أن يقنع أتباعه الأقربين أولا ومن ثم الحصول على أتباع أخر.

إلا أن هذه العملية لم تكن واسعة النطاق وفاعلة الحجم. فقد بقت الأمة بما في ذلك أشد الناس رغبة في الانتقام منه يكنون له في أعماقهم احتراماً عميقا. فعندما حاول معاوية على سبيل المثال، استمالة عمرو بن العاص إلى جانبه، فان الأخير حاول استشارة ولديه، فنصحه الأول (عبد الله) بالكف عن الصراع والبقاء في حيز الدين فيما اقترح عليه الآخر (محمد) أن يلحق بمعاوية والطلب بدم عثمان. وقد أدرك عمرو بن العاص مضمون كلامهما عندما أجابهما بان الأول يأمره بما هو خير له في دينه، أما الثاني فيأمره بما هو خير له في دنياه. وقد أقلقه ذلك، أو لنقل بصورة أدق، إنه كان يعاني، شأن أغلب دهاة السياسة من تناقض القول والعمل، والسياسة والأخلاق. وعندما دعا غلاماً داهية له يقال له وردان للتحدث معه قال له الغلام:

- إن شئت أنبأتك ما في نفسك!

- هات يا وردان!

-  اعتركت الدنيا والآخرة على قلبك. فقلت مع علي الآخرة بلا دنيا، ومع معاوية الدنيا بلا آخرة. فأنت واقف بينهما.

- ما أخطأت ما في نفسي، فما ترى يا وردان؟3

وإذا كانت النتائج معلومة الآن فإنها في وقتها كانت مثار القلق الداخلي، الذي عبّر دون شك عن إدراك وجداني لشخصية علي باعتباره الممثل الحقيقي للدين والآخرة. بينما ردّ على استفسار ابن أخيه عندما وصل إلى مصر بعد حصوله على موافقة معاوية على إعطائه إياه مصراً طعمة له مقابل تضامنه معه، واستغراب ابن أخيه من موقفه هذا فأجابه عمرو:

- ابن أخي لو كنت مع علي وسعني بيتي ولكني مع معاوية.

- انك لم ترد معاوية ولكنك تريد دنياه وهو يريد دينك4

ولم يعن الدين هنا سوى الأخلاق الكبرى والسمو الروحي. ولعل الحادثة المروية عن محاورة معاوية لعمرو بن العاص إشارة إلى ذلك. إذ نسمع معاوية يتحدث عما طرقه من أخبار ثلاث ليس له فيها إجابة كاملة منها كسر ابن أبي حذيفة لسجن مصر، وزحف ملك الروم إلى الشام، وتهيؤ علي لمحاربته، وردود عمرو بن العاص التالية: انه يمكن ببضعة رجال قتل ابن أبي حذيفة، وانه يمكن اهداء وصائف الروم ومن الذهب والفضة إلى قيصر فانه سيكون سريعاً إلى الموادعة، وأما ما يخص علي "فان في الحرب لحظاً ما هو لأحد من الناس. وانه لصاحب الأمر"5 . أما بعد مبارزته لعلي ورفعة الأخير عن قتله بعد أن صرعه، فانه لم يكن بإمكانه ألا يكنّ له احتراماً جعله يرد في أحد المرات على معاوية الذي عيّره بذلك، بأنه يكفيه مبارزته ولم يجبن منه (كما فعل معاوية). أما معاوية فاه نطق بعبارات كثيرة تفصح عن إعجابه الشديد بعلي وإدراكه لضعفه مقارنة به6 . كما نرى ذلك في الحادثة الطريفة المروية عن ابن محجن الثقفي، بعد قدومه على معاوية وهو يصرخ:

- إني أتيتك من عند الغبي الجبان البخيل ابن أبي طالب!

- لله أنت! أتدري ما قلت؟ أما قولك الغبي فوالله لو أن ألسُن الناس جمعت فجعلت لساناً واحداً لكفاها لسان علي7 . أما قولك انه جبان فثكلتك أمك وهل رأيت أحداً بارزه إلا وقتله؟ وأما قولك انه بخيل فوالله لو كان له بيتان أحدهما من تبر والآخر من تبن لأنفذ تبره قبل تبنه!

-  علام تقاتله إذا؟

-  لأجل دم عثمان!

وهي إجابة دفعت الثقفي إلى اللحاق بمعسكر علي8 . ومن الممكن القول بان التقييم الايجابي العام كان مميزاً لكل أولئك الذين خاضوا صراعاً ضده أو اعتزلوه. ففي جوابه على كتاب معاوية رد عبد الله بن عمر من بين ما كتبه:"أما قولك إني طعنت على علي، فلعمري ما أنا كعلي في الإسلام والهجرة ومكانه من الرسول. ولكن أحدث أمراً لم يكن لنا فيه من رسول الله عهد"9 . أما سعد بن أبي وقاص فقد رد فيما رد على كتاب معاوية قائلاً:"إن أهل الشورى ليس فيهم أحق بها من صاحبه. غير أن عليا كان من السابقة ولم يكن فينا ما فيه. فشاركنا في محاسننا ولم نشاركه في محاسنه. وكان أحقنا بالخلافة ولكن مقادير الله التي صرفتها عنه. وقد علمنا أنه أحق بها منا، ولكن لم يكن بد من الكلام في ذلك والتشاجر"10 .

أن الماضي حالما يتحول إلى جزء من الذاكرة الحية، فإن من الصعب حصر فعاليته في مجرى واحد. فإدراك السلطة الأموية لعمق تأثيره الروحي في إمكانية صنع "الجرأة على السلطان"، اضطرها إلى دفع مهمة فطام الناس عنها كضرورة أولية، بينما أدت ممارستها هذه بالإتباع الشيعة إلى الاستثارة الدائمة للماضي باعتباره الجزء الأكثر حيوية في ذاكرتها الكلية. فالسلطة الأموية التي استطاعت أن تقهر الجرأة العلنية للناس، فإنها لم تنجح في قمع روح التحدي الدفين. ذلك يعني أن سياسة الفطام أدت إلى صيرورة الانفطام عن الطفولة. وقد رافق هذه العملية المعقدة صياغة أساليب جديدة في الموقف من السلطة والتراث السالف. فلم تعد الجرأة المباشرة والخروج على السلطان أسلوب التعبير الوحيد عن الانتماء المباشر والروحي للكيان العلوي، بل والتقية الباطنية أيضاً. فإذا كان إسهام التقية السياسية يقوم في إبداع قواعد ضبط النفس، فان باطنيتها قد ألهمت العقول والخيال في إبداع قواعد تحررهما غير المتناهي11 .

لقد كان هذا التناقض بين ضبط النفس الظاهري وتحررها الباطني من إبداع الأحكام المنطقية. وذلك لأنه حالما يلتقي ضبط النفس الظاهري بالتحرر الباطني، فانه يصنع بالضرورة أسلوب رؤيته للظاهرية والباطنية على أسس أخرى عادة ما ترتقي إلى مصاف البحث عن الصلة الممكنة والدائمة والنسبية بين المطلق والعابر، والإلهي والإنساني، والكلي والجزئي، والروحي والمادي. وإذا كان ذلك واضحاً في اغلب اتجاهات التشيع، فإن أحد نماذجه الراقية تجلت في إبداع الفكر الاسماعيلي. فقد حصل الإمام علي في هذه النماذج على إحدى صوره الخاصة التي لا يمكن تحديد هويتها بتلك السهولة البادية للعيان في آراء وأحكام المدارس الشيعية الأخرى12 .

فقد جرى النظر إليه ضمن إطار منظومة مترابطة في أبعادها الميتافيزيقية والوجودية والمعرفية والتشريعية والسياسية. إلا أنها ظلت محصورة في الإطار العام، بين أقطاب ما أسميته بالضبط الظاهري والتحرر الباطني. وليس مصادفة أن تستشهد الإسماعيلية دوماً بالكلمات المنسوبة للإمام الصادق، القائلة بان "ظاهرنا إمامة وباطننا غيب لا يدرك"، أي أنها دفعت بهذه العلاقة إلى أقصى قدر ممكن لها في مجال الفكر. وبهذا تكون قد مهدت أرضية التأويل غير المتناهي. من هنا قدرتها على تأويل الماضي والحاضر والمستقبل، والنفس والآخرين بهاجس واحد، كما لو انه محصور في قناعاته بين "العزة واليقين". فعندما يتناول إبراهيم بن الحسن الحامدي (ت- 557هـ) على سبيل المثال مقارنة الإمام علي بالنبي محمد ضمن مفاهيم"ناطق الدور" و"الوصي"13 ، فانه يأخذ بإيراد "المعجزات" النبوية التي أبدعها خيال اللاهوتية الإسلامية من حمل آمنة به وغيرها من"المعجزات"14  وما يقابلها من فضائل الولي (الإمام علي) و"معجزاته" التي تبدأ هي الأخرى من حضور أمه المخاض مروراً بغيرها من "المعجزات"15 . وهي مقارنة ظاهرية لها أسسها الباطنية القائمة في طبيعة العلاقة بين "ناطق الدور ووصيه"، أي استكفال محمد لعلي بالوصاية والإمامة كأمر الهي. فالإمام علي يظهر هنا باعتباره القيمة القائمة على قوائم السر الذي يعطي معنى عميقاً (غيبياً) لكل ما هو موجود. فهو مستقر الباطن ومركزه. وباحتلاله لهذا الموقع يكون قد قام، حسب عبارة الحامدي، "مقام النور و الحجاب المشهور والباب المستور، الذي اسمه في العصور والدهور، ونهاية النهايات وغاية الغايات، صاحب الظهور اللطيف، المتسلسل معناه من أول السلالة الشرعية إلى ظهوره مع الرتبة المحمدية"16 . فالشخصية العلوية تتحول هنا إلى جزء جوهري في خطة العلم الإلهي، أو أنها الكيان الفاعل في تجانس الأزل، الذي يؤدي تجاهل الإقرار به إلى محق الانسجام الحقيقي مع حقائق الشريعة الجسمانية والروحية، أي تلك النهاية التي مثلتها وحدة النبوة والوصاية في النبي(محمد) والوصي (علي).

ففي هذه الوحدة التي تحتل في مجرى الشريعة منذ آدم ووصيه حتى النبي محمد ووصيه حسب رمزية العبارة الإسماعيلية، مقام اللحم الذي هو تمام الخلقة الجسمانية، ظهر أمير المؤمنين (علي) كظهور النفس التي لا قوام للجسم إلا بها، ولا يعرف إلا بها ولا يتحرك إلا بها، صح أن تلك العناية الإلهية انسلّت من حد القوة إلى الفعل، ومن الكمون إلى الظهور، ومن العدم إلى الوجود، فكان (علي) للشرائع الموضوعة من عصر ادم إلى محمد يقوم مقام الحياة المحيية المميتة، الحاسة الداركة، الناطقة العاقلة والعاملة، حجة الله وآيته ومعجزاته، وسيف نقمته لأعدائه، ونعمته الكاملة لأوليائه. وبسببه دارت الأفلاك، وتناظرت الأملاك، وتمخضت الطبائع الأمهات. انه إذن الله الواعية، ويده المبسوطة، وعينه الناظرة، مولى المؤمنين، وعلم الدين، وقبلة الموحدين، السميع العليم المشتق اسمه من العلي العظيم، ولي المؤمنين، المخرج لهم من الظلمات إلى النور، من أقرّ بولايته سلم وغنم ومن أنكرها غرم وحرم17 . لقد رفعته الإسماعيلية بهذا المعنى إلى مصاف الإلوهية المؤنسنة. إلا أنها لم تقع في الحلول ولم تسر في طريق الإنسان الكامل الصوفي.

لقد أبدعت طريقها الخاص في التعامل معه كنموذج يمثل في وحدانيته الإنسانية ما يمثله الله في وحدانيته الإلهية. فالحامدي يستند هنا إلى الفكرة التي طرحها جعفر بن منصور (اليمن) القائل، بان من أتى بغير ولاية علي بن أبي طالب أسقطت نبوته ووصايته وولايته وصالح عمله، ولم يقبل الله منه ولا زكى عمله، ليختصر جملة آرائه على خلفية المقارنة التالية: "فكما أن الله واحد أحد فرد صمد لا شريك معه في ملكه ولا له صاحب ولا له ولد، كذلك مولانا علي عليه السلام، واحد في فضله، أحد فرد صمد لا شريك له فيه ليس له كفواً أحد"18 . لقد جعل من الإمام علي بن أبي طالب خميرة الوجود القائم بين الظاهر والباطن، وحوّله إلى الجزء الأكثر فاعلية في كينونة المطلق الوجودي والميتافيزيقي والأخلاقي والعملي، ومستوياته العديدة في القوة والفعل والكمون والظهور. ففي تأويله للآية (فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب)19 ، يستند الحامدي إلى آراء جعفر بن منصور، القائلة بان ذلك يعني أنه "أوجد لهم الباب عياناً وعرّفهم به تبياناً، وأقام عليه الدلائل والبراهين بالرمز والإشارات والتلويحات والكشف بالمقامات، فجعل تحت الاستتار في جميع الأدوار إلا بالإشارة إليه والتوجه نحوه وإظهار آياته في آخر دور وخاتم كور"20 . وإذا كانت هذه الصياغة تعكس المضامين الكبرى للفلسفة الإسماعيلية في موقفها من الأئمة بشكل عام، فإن الإمام علي قد احتل فيها موقع المركز، الذي تكشف عنه الكلمات المنسوبة إليه والقائلة:"لي منزلة لم تخطر على قلب بشر، وحدّ لم يبلغ معرفته أحد. وان الربوبية لتخطر على قلوب البشر فيعرفها أهل الحقائق منهم. وأن الخلق بأجمعهم يعرفون الله بإقرارهم بظاهر المعرفة، وأهل الحقائق يعرفون الله بحقيقة معرفته، ويوحدونه من وجه توحيده. وان علياً لم يعرفه أحد بالجملة من حقيقة معرفته إلا رسول الله والأئمة من ولده، بل عرفه أهل اليقين بظاهر المعرفة. واثبات الآيات والمعجزات التي أظهرها لهم مرة بعد مرة"21 .

لقد انتزعت هذه الصيغة من الإمام علي بن أبي طالب بعد أن جعلته مادة التأمل الفلسفي والديني، كل حيثياته الواقعية. وحولته إلى "معبود" من طراز آخر، اتخذ هيئة الصيغة المؤنسنة للمطلق، أو الكامل في تجليه الأول، الذي يؤدي بالبعض إلى الغلو فيه. بحيث يصوره الحامدي بعبارة يقول فيها "تأله النفوس له وتتحير في معجزاته وظهور آياته، وهو خالق صور الدين، وباريها ومحييها ومنشئها، ومصوّرها بالصورة الأبدية السرمدية من الكمال الثاني المحيي للعقول والنفوس، والمقوم لها بالفعل بالإكسير الأعظم الذي لا يستحيل،  لذلك غلا فيه من غلا وهلك فيه الزائد والناقص"22 .

ولا ينبغي فهم هذه العبارات على أساس صيغتها المباشرة. وإلا لأدى ذلك إلى إثارة رائحة الحلول النصرانية. لهذا السبب حذّر الحامدي من أن التأليه لشخصه (علي) هو نتاج عدم استيعاب، أو استحالة إدراك حقيقته كما هو. فالمعرفة تبقى هنا في حدود الظاهر، كما هو الحال بالنسبة للكلمة المنسوبة للإمام الصادق والقائلة، بان ظاهرنا إمامة وباطننا غيب، أو العبارة المذكورة أعلاه عن انه في "منزلة لم تخطر على قلب بشر". لهذا السبب، كما يقول الحامدي، حذر الإمام علي نفسه في إحدى خطبه قائلاً "هلك فيّ اثنان محب مفرط ومبغض مفرط"، أو كما ينسب للنبي محمد قوله:"يا علي! والله لولا أن تدعي فيك أمتي ما ادعته النصارى في أخي عيسى، لفرضت عليهم أن يتمسحوا بالتراب من تحت قدميك. هلك والله فيك اثنان، غال مفرط ومقصر مفرط، وليس هذا ولا ذاك. وخير الأمور أوسطها".

إن الصيغة الغالية في مظهرها للفكر الاسماعيلي هي التعبير النموذجي عن احد نماذج الرؤية الفلسفية وليست اللاهوتية عن موقع الإنسان المثال، أو "الولد التام"، أو "الإنسان الكامل"، أو الإمام، التي تقترب من صورة المسيح النصرانية، لكنها تفترق عنها في بنيتها ومقدماتها وغاياتها. وهذا ما ينطق أيضاً على إمكانية مقارنتها بالفكر الصوفي في موقفه من الإنسان الكامل. فبغض النظر عن استنادهما إلى فكرة الأسماء الحسنى (الإسلامية) إلا أن وراء وحدتهما الظاهرية مقدمات مختلفة، وطرق متباينة في إدراك حقائقها وأسلوب تمثلها. وبهذا المعنى يمكن القول بان مغالاة الإسماعيلية في الصيغة المذكورة أعلاه عن الإمام علي، هي مغالاة العرفانية المتطرفة في أنْسَنَة أطروحاتها الوجودية والمعرفية وتجسيد تصوراتها وأحكامها الدينية. إضافة إلى تلك الخصوصية التي احتلها موقع الإمامة باعتبارها البؤرة التي التفّت حولها أغلب تأملات الحركات الشيعية و"منطق" بنائها النظري وصروحها اللاهوتية المختلفة. وإذا كان تقييم الإسماعيلية قد ظل في الإطار العام رافضاً للغلو، بمعنى رافضاً إلوهيته أو التقصير المفرط بحقه، فان ذلك لا يفعل في الواقع إلا على جعله كياناً كاملاً لا معنى لأي إقرار به خارج الإقرار بولايته.

ففي هذا المقام تنحل كل العلاقات المعارضة والمؤيدة ليجري تأمل حقيقته كما هو باعتباره النموذج الإنساني الأرقى. وبذا تكون الإسماعيلية قد دفعت به إلى أقصى درجة ممكنة بالنسبة لقدرات العقل والخيال. ومن نافل القول خوض الجدل ضد حيثيات الصورة ومقدمات البراهين التي بلورتها الفلسفة الإسماعيلية بالنسبة لنفسها والآخرين عن حقيقة الشخصية العلوية. فهي تعكس في مجمل مسارها كل ما ينبغي قوله عن المثال الإنساني في أحلى وأبهى وأعمق وأدق صورة ممكنة. ذلك يعني أنها حاولت تذليل مصيره المأساوي من خلال إبداع صورة خالدة تستمد مقوماتها من الأزل، ومن ثم إكسابها إياه باعتباره "خالق صور الدين وباريها ومحييها ومنشئها ومصورها بالصورة الأبدية السرمدية". وإذا كانت الفلسفة الإسماعيلية تنظر إلى هذا الإنشاء والإحياء على انه نوع من الكمال المتمم للصورة الإلهية الحقة، فلأنها أرادت أن تبدع صورته التامة الخالصة من كل النواقص الممكنة للكيان الإنساني. وبغض النظر عما في هذه الصورة من جمال وجلال عميقين، إلا أنها تبقى من إبداع ما يمكن دعوته بالبرزخية الشيعية. أما في الواقع، فأن لكل برزخ صورته الواقعية. وقد عبّر علي في كينونته الواقعية والعقائدية التي صنعها محبوه ومبغضوه عن انهزام الحق في ظل سموه الروحي. وبهذا يكون قد مثل التيار الأكثر جاذبية في الوجود والوعي.

 

....................

هوامش

1-  البغدادي: بلاغات النساء، ص35.

2-  أبو تراب هو الاسم المحبب للنبي محمد، أطلقه على علي بن أبي طالب عندما وجده مرة نائما على الأرض وخده بالتراب. وهو لقب كان يحمل في أعماقه موقف النبي محمد من الأرض والتراب وقيمة الإنسان ومحبته لعلي. وهي صيغة تلقائية لا تحتمل في الواقع غير صورة الحياة المباشرة ولطف النفس الإنسانية. بمعنى خلوها من أي اعتبار عقائدي أو فكري مباشر. لكنها تحولت بأثر الصراع الدامي والفتن التي أشعلتها الأموية إلى شعار للسب والشتيمة، شأن شعار "قميص عثمان". وفي كلتا الحالتين هو تعبير عن خواء الأموية وفساد مزاجها التام.

3-  ابن قتيبة: الإمامة والسياسة، ج1، ص144.

 4- ابن قتيبة: الإمامة والسياسة، ج1، ص145-146.

5-  ابن قتيبة: الإمامة والسياسة، ج1، ص146.

 6- إن ذلك مرتبط دون شك بالكفاءة الشخصية لمعاوية. فقد كان معاوية بارعاً، دهائياً سياسياً ماكرا. بل يمكننا القول، بان معاوية ظل حتى في أشد حالات مكره الحياتي رجل "السياسة" الدهائية. ومن الصعب العثور على شبيه له في هذا الجانب. إضافة لذلك تميز معاوية برؤيته السياسية الواقعية وحدسه السياسي ومرونته الجريئة، ولكن بمعايير ومقاييس الانعدام شبه التام لمنظومة القيم الأخلاقية. وهو الأمر الذي طبع مسار الدولة اللاحق. بمعنى تحويل مسارها التاريخي صوب زمن الاستبداد والاحتراب والتفكك الاجتماعي والروحي. أما المحاولات الجزئية التي حاولت بعض التيارات "السنية" المتطرفة والسلفية المتشددة رفع شأنه "الروحي" رغم تقييمها العام إياه باعتباره باغياً، فإنها تتصف بتناقض يجهل حقيقة الدولة والفكرة الإسلامية بحد ذاتها. إذ ينسب على سبيل المثال لابن مهران الأعمش (ت-148هـ) عندما ذكروا عمر بن عبد العزيز وعدله قال: فكيف إذا أدركتم معاوية! وعندما قالوا له: لحلمه؟ فقال: لا والله! بل في عدله! بينما نرى أبو اسحق السبيعي يصفه بعبارة يقول فيها:لو أدركتموه أو أدركتم أيامه لقلتم كان المهدي! وهي الفكرة التي نعثر عليها أيضا عند ابن تيمية. وهو آمر لا غرابة فيه، لأنه يستقيم مع نفسية وذهنية التجريم والتحريم المميزة لهذا النمط من الحراشف الميتة للعقل الثقافي والضمير الإنساني.

 7- ذلك يعكس واقع التطور الفكري آنذاك وخصوصية الثقافة العربية في ملامحها الأولى، التي لعب فيها الكلام (اللسان) دور كبير. بحيث تقاس بمدى طلاقة اللسان وفصاحته عمق الذهنية ومقدراتها. وهو الشيء الذي أعطى لثقافة التصنيف اللاحقة في الإسلام أساسا للاستنتاج القائل بان خصوصية العرب وخصوصية إبداعهم الفكري وطبيعتهم الذهنية تقوم في تمكنهم العميق من ملكة الشعر والأدب واللسان.

 8- ابن قتيبة: الإمامة والسياسة، ج1، ص171-172.

9-  ابن قتيبة: الإمامة والسياسة، ج1،ص169.

10-  ابن قتيبة: الإمامة والسياسة، ج1،ص150.

11-  وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذه الظاهرة أعقد مما يبدو للوهلة الأولى. ومن الصعب حصرها في إطار قاعدة شكلية أو تعبير ضيق يمكن أن يدعي استيعابه الشامل لكل حيثياتها. وليس المقصود هنا بقواعد التحرر غير المتناهي سوى ما يمكنه التطابق مع فكرة وممارسة ونفسية التعويض الفكري عن محدودية التقية السياسية، ولحد ما نفيها في إبداعات الماضي. فإبداع الماضي لم يعد بحد ذاته تياراً مستقلاً، بل عادة ما تحدده الأسس الفكرية الكبرى للباطنية (الإسماعيلية خصوصاً) وثقافة المفكر ومعطيات المرحلة الملموسة في معاركها السياسية والفكرية.

 12- هناك فرق كبير بين الإسماعيلية والتشيع الامامي (الاثني عشري) بما في ذلك في مواقفهما من الإمام علي. فالإسماعيلية أكثر إفراطا في فلسفتها وتفلسفها لموقع الإمام علي، بينما الامامية أكثر لاهوتية وواقعية في أحكامها.

13-  إن المهمة المطروحة أمامي هنا لا تتعدى في الأغلب حدود تصوير بعض الملامح الأساسية للفكر الاسماعيلي في نظرته إلى الإمام علي، وليس دقائق هذا الموقع في منظوماتها الفلسفية. وذلك لان موقعه فيها يتميز بتنوع كبير وخاص. وأكتفي هنا بآراء الحامدي لأنها تشكل نموذجاً كلاسيكياً للفكر الاسماعيلي رغم أن هناك صوراً أخرى عديدة عند أقطاب الإسماعيلية.

 14- إن الإسلام في حقيقته لا يقر بمفهوم المعجزة، على الأقل فيما يخصه. فقد اعتبر الإسلام عقل الأمور والتفكر بها عنصرا جوهريا من عناصر الإيمان. وليس مصادفة أن يخلو القرآن من مفهوم المعجزة. بل يمكننا القول بأنه رفضها باعتبارها فكرة لا ضرورة فيها. فالقرآن يتكلم أساساً عن "الآية" و"البيان". وبالتالي، فان اللاهوت اللاحق وصراع المدارس الكلامية فيما بينها وفي دفاعها عن الإسلام ضد الأديان الأخرى (النصرانية واليهودية والمجوسية) هو الذي أدى إلى "إغواء" فكرة المعجزات (المميزة للنصرانية واليهودية) أي كل ما سيؤدي إلى إبداع ما يقارب الألف معجزة للنبي محمد، بينما لم يتكلم هو عن "مأثرة" تستحق التحدي سوى القرآن.

15-  الحامدي: كنز الولد،بيروت، 1979، ص212-215.

16-  الحامدي: كنز الولد، ص216-217.

17-  الحامدي: كنز الولد، ص217-218.

18-  الحامدي: كنز الولد، ص218.

19-  القرآن: سورة الحديد، الاية13.

20-  الحامدي: كنز الولد، ص218.

21-  الحامدي: كنز الولد، ص219-220.

 22- الحامدي: كنز الولد، ص221.

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1191 الخميس 08/10/2009)

 

 

في المثقف اليوم