قضايا وآراء

مقالة في إنفعالات الحب (2) / حسين عجة

قلب الإنسان واسع وفي قوته تطوف الأشياء الصغيرة؛ ليس هناك منْ غير الكبار من يتوقف عندها ويقيمون فيها.

يكتب البعض غالباً أشياء لا يبرهن عليها إلا بعد إرغامه للجميع على التأمل في ذواتهم والعثور على الحقيقة التي يتكلمون عنها. هنا تكمن الدلائل على قوة ما أقول.

إذا كان رجل ما حساساً في منطقة من عقله، فهو عاشق. وإذا ما كان ثمة من شيء تَنفرُ منه أفكاره، يدركه ومن ثم يهرب منه، فذلك لأن شيئاً ما خارج نفسه قد هزه. ترتكز رهافة كهذه على العقل المحض raison pur، النبيل والسامي noble et sublime. وهكذا يمكن للمرء التصور بأنه مرهف، فيما هو ليس كذلك فعلياً، ولذا يحق للآخرين الحكم علينا؛ بالمقابل لكل واحد منا معياره السيادي règle souveraine فيما يتعلّق بالجمال الذي لا يعتمد على آراء الآخرين. ومع ذلك، ما بين أن يكون المرء مرهفاً أو لا، علينا الإتفاق بأنه إذا ما كان يرغب أن يكون مرهفاً، فهو ليس بعيداً إطلاقاً عن أن يكون كذلك. تحب النساء رؤية الرهافة عند الرجال؛ ذلك هو المكان الأكثر رقةَ، كما أظن، الذي يتمكنون فيه الحصول عليهن : يفرحنا رؤية ألف واحد غيرنا يتمّ أهماله، فيما نحضى نحن على التقدير.

لا تُجنى خصائص العقل بالعادة، كل ما نقوم به هو جعلها أكثر كمالاً؛ من هنا، يمكن إدراك أن الرهافة عطية طبيعية don de nature، وليست من مكتبسات الفن.

كلما أتسع عقلنا، كلما عثرنا على العديد من أشكال الجمال الأصلية؛ لكن في هذه الحالة لا ينبغي على المرء أن يكون عاشقاً، فحينما يحب سوف لن يجد إلا واحداً من تلك الأشكال.

إلا يبدو أنه كلما خرجت المرأة من نفسها لكي تتجسد في قلوب آخرين، فأنها تخلق فراغاً في قلبها من أجل الآخرين ؟ وبالرغم من ذلك، أعرف بعض الناس منْ يقول هذا ليس حقيقياً. أيمكننا تسمية ذلك لا عدالة ؟ من الطبيعي أن يعطي المرء بالقدر الذي يأخذ فيه.

الإلتصاق بفكرة واحدة يُتعب ويدمر عقل الإنسان. لذا يجب علينا، لكي تكون لذة الحب أقوى وتدوم أكثر، نسيان بأننا نحب؛ وهذا لا يعني ارتكابنا خيانة، ما دمنا لا نعشق إلا واحدة، لكن ذلك يعني بأننا نضاعف قوانا لكي نحب بصورة أفضل. وذلك ما يحدث دون أن نفكر فيه؛ فالعقل يميل إليه من تلقاء ذاته، وترغب فيه الطبيعة؛ بل تأمرنا عليه. ومع ذلك، علينا الإعتراف بأن تلك نهاية بائسة للطبيعة الإنسانية، فالمرء سيكون أكثر سعادة لو لم يُرغم على تغيّير فكره؛ بيد أنه ليس ثمة من شفاء لهذا.

للذة العشق دون التصريح به أشواكها؛ غير أن لها حلاواتها أيضاً. كم هو عظيم الفرح الذي يدفع المرء على القيام بأفعاله وهو يرى الشخص الذي يكن له تقديراً كبيراً ؟ كل يوم يفحص المرء نفسه بغية العثور على الوسائل التي بفضلها يكتشف نفسه، كما يستخدم مثلها من الوقت للإحتفاظ بتلك التي يعشقها. تتوقد العينان وتنطفأن في ذات اللحظةِ، وحتى لو أننا لا نرى سوى تلك التي سببت مثل ذلك الإضطراب، يتولد لدينا رضا بالإحساس بتلك الهزات من أجل الشخص الجدير بها. يرغب المرء بامتلاك مائة لغة لكي يحصل على الإعتراف به؛ فلأنه لا يستطيع استخدام الكلام يجد نفسه مجبراً على القيام بأفعال أنيقة.

حتى الآن ليس ثمة من شيء آخر غير الغبطة، ونحن منشغلين بها بشكل عظيم. وهكذا نكون سعداء؛ لأن سر الإحتفاظ دائماً بإنفعال واحد يكمن في أن لا يدع المرء فراغاً يتولد في عقله، وذلك بإرغامه على العمل بلا توقف على ما يمسه بسرور كبير. لكن إذا ما وجد نفسه في الحالة التي وصفتها تواً، فسوف لن يكون بمقدوره البقاء فيها لوقت طويل، بسبب من أنه الممثل الوحيد seul acteur لإنفعال واحد، فيما كان ينبغي بالضرورة أن يكون هناك اثنان، وسيكون عليه من الصعب تماماً أن لا يستنفذ جميع الإنشغالات التي تهزه.

لكن، وإن كان الأمر يتعلق بنفس الإنفعال الواحد، لا بد من التجديد، فذلك ما يرتاح له العقل، ومنْ يعرفُ الحصول عليه يعرف كيف يجعل نفسه محبوباً.

بعد قطع ذلك الدرب، يتناقص أحياناً  هذا الأمتلاء cette plénitude، ما دامت لا تصله مصادر من ذلك المنبع la source، حينئذ يهزل المرء بصورة بائسة، فيما تمسك الإنفعالات العدوة على قلبه وتمزقه أرباً. ومع ذلك، ثمة من شعاع أمل، فمهما كان إنحطاط المرء، سيرفع رأسه كما كان عليه سابقاً. تلك أحياناً لعبة تتلذلذ بها النساء؛ لكن في أحيان أخرى، حينما يتظاهرن بالحنو compassion، سيكونن حنينات بالرغم من هذا. كيف سيكون المرء سعيداً حينما يحدث ذلك!

الحب الأكيد والقوي يبدأ دائماً بإناقة الفعل éloquence d’action؛ للعيون الحصة الأفضل من ذلك. ومع هذا، ينبغي عليه التنبأ deviner به، والتنبأ به بصورة جيدة.

حين يكون لشخصان نفس العاطفة le même sentiment، لا يتنبأن أبداً، أو أن واحد منهما منْ يتنبأ على الأقل بما يرغب الآخر قوله دون أن يسمعه ذلك الآخر أو لا يجرأ على سماعه.

عندما نحب، نظهر لأنفسنا على غير ما كنا عليه من قبل. وهكذا نتخيل بأن الجميع يرانا مثلما نرى أنفسنا؛ وبالرغم من ذلك ليس هناك ما هو أكثر زيفاً من هذا. لكن ولأن الإنفعال يحدُ من قوة العقل، لا يمكن للمرء التيقن، وسيظل دائماً ضمن ذلك العجز défaillance.

عندما يحب المرء يُقنع نفسه بأنه في إمكانه أكتشاف إنفعال الآخر : وهكذا سيكون خائفاً.

كلما طال درب الحب، كلما تمكن العقل المرهف الشعور باللذةِ.

هناك عقول بعينها علينا منحها الآمال لوقت طويل، وهي العقول المرهفةِ. وثمة غيرها منْ ليس بمقدوره الصمود طويلاً حيال المصاعب، وتلك هي العقول الفظةِ. الأولى تحب لأطول وقت وتتمتع أكثر، أما العقول الأخرى فتعشق بسرعة، وبحرية أكبر، وها أنها تتوقف فجأة.

أثر الحب الأول هو الإيحاء بإحترام كبير؛ يبجل المرء ما يحب. أنه محق تماماً : ليس ثمة ما هو أكبر من هذا في العالم.

لا يستطيع المؤلفون أن يقولوا لنا الكثيرعن الإنشغالات العشقية في قلوب أبطالهم : قد يقتضي ذلك أن يكونوا هم أنفسهم الأبطال.

ضياع العشق في أماكن عديدة يشبه بإنمساخه اللاعدالة في العقل.

في الحب الصمت أفضل من الكلام. من المفيد أن يُمنع المرء؛ فاللصمت فصاحته، التي تنفذ أبعد مما تستطيع عليه اللغة. على العاشق أن يقنع عشيقته متى هو ممنوع، ومن ناحية أخرى ما زال يتمتع بعقله! مهما كانت حيوية أحدنا، هناك لقاءات من الأجدى أن تخمد فيها. كل هذا يحدث بلا قاعدة ومن  دون تفكرنا به؛ وحينما يُفكَرْ به العقل، فذلك لأنه لم يفكر به من قبل. يحدث ذلك وفقاً لضرورة.

نعبد adore غالباً منْ لا يحسب نفسه معبوداً، ولا يمنعنا هذا من الوفاء له بوفاء لا يُثلَمْ، حتى وإن لم يكن يعرف هو أي شيء عن ذلك. لكن ينبغي أن يكون هنا الحب غاية في الرهافة والنقاوة.

نحن نعرف عقول البشر، ومن ثم نعرف إنفعالاتهم، وذلك عن طريق مقارنتنا لأنفسنا بالغير.

تتوافق وجهة نظري مع ذلك الرأي القائل بأن المرء يفقد ثروته في الحب، وكذلك والديه وأصدقائه، فالصداقات العظيمة تتوقف هناك. ما يجعلنا نذهب أبعد في العشق يكمن في أننا لا نعتقد بأنه ستكون لنا من حاجة أخرى لأي شيء غير ذلك الذي نعشق : العقل مُمتلأ l’esprit est plein؛ لا مجال فيه لا للهم soin ولا للقلق inquiétude. إذ لا يمكن للإنفعال أن يكون جميلاً من دون الفراطة excès؛ من هنا لا يعبأ المرء on ne se souci pas بما يقوله العالم بأنه يعرف سلفاً بأننا لا نحكم على سلوكه، ما دام أن ذلك السلوك يصدر عن العقل. ثمة امتلاء في الإنفعال، ولا يمكن أن يكون نقطة إنطلاق للتأمل.

أن يحاول الرجال الحصول على صداقة سيدة ليس بالنتيجة المتولدةِ عن العادة، بل إرغام طبيعي.

يُوَلدْ النسيان الذي يسببه العشق، والإرتباط بمنْ نحبه خصائل لم يكن يتمتع بها المرء من قبل. يصبح رائعاً، وذلك ما لم يكن عليه أبداً. فحتى الشحيح avaricieux، عندما يحب، يغدو حراً، ولن يتذكر بأنه كان يتمسك بعادة مناقضةٍ للحريةِ. في ذلك النسيان نرى العقل raison على أساس من أن هناك إنفعالات تضغط على الروح âme وتشلها، فيما هناك منها ما يوسعها ويجعلها ترد على الخارج répandre au dehors.

لقد أخطأنا بإزالة اسم العقل عن الحب، وجعلناهما يتعارضان فيما بينهما دون أساس، ذلك لأن العقل والحب شيء واحد une même chose. تلك هي عجالة الأفكار التي تميل نحو جهة واحدة دون أن تفحص جيداً الكل bien examiner le tout، بيد أن ذلك هو دائماً العقل، وليس علينا ولا يجب أن نتمنى أن يكون الأمر عكس هذا، ذلك لأننا سنصبح مكائن ثقيلة للغاية . لا يجب علينا إذاً إقصاء العقل عن الحب، ما دام لا يمكننا فصلهما عن بعضهما.

لذا يجانب الحق الشعراء حين يرسمون لنا الحب وكأنه أعمى؛ ينبغي علينا رفع عصابته، son bandeau، وإعادة متعة عينيه إليه من الآن فصاعداً.

تحتاج الأرواح الميالة نحو الحب حياة فاعلة تنفجر بالوقائع الجديدة éclate en événements nouveaux. فمثلما أن الداخل حركة، ينبغي أن يكون الخارج كذلك، وطريقة العيش هذه هي توجه رائع نحو الإنفعال. من هنا يحظى أولئك الذين يعيشون في البلاط الملكي على فرص الحب أكثر من أولئك الذين يسكنون المدينة، ذلك لأن الأوائل يتوقدون ناراً، فيما يواصل الآخرون حياة تخلو رتابتها مما يُثير : مباغتةٌ هي حياة العاصفة vie de tempête، تضرب وتنفذ frappe et pénètre.

يبدو أننا نتمتع بروح أخرى مغايرة تماماً حين نحب عنها عندما لا نحب، فهذا الإنفعال يُرفعنا، ونصبح نحن أنفسنا العظمة بكاملها؛ لذا ينبغي أن يكون للبقية le reste حصته، وإلا لن يغدو ذلك لائقاً، أي ثقيل.

اللطيف والجميل شيء واحد، لكل واحد منا له فكرته عنه. أتحدث عن الجمال الإخلاقي، الذي يكمن في الأقوال والأفعال التي نقوم بها في الخارج. للمرء قاعدته لكي يصبح لطيفاً؛ ومع ذلك تظل وضعية الجسد ضرورية؛ وهذا ما لا يمكن الحصول عليه.

يشعر البشر باللذة حين يشكلون لأنفسهم فكرة عن اللطف السامق، الذي لا يمكن لأي أحد بلوغه. لنحكم على ذلك بصورة أفضل، ولنقول بأنه ليس الطبيعي le naturel بما فيه من يسر وحيوية عقلية ما هو مُباغت. فهاتان الخصلتان ضروريتان في الحب : كما لا ينبغي وجود شيء خاضعاً للإرغام، لا ينبغي أيضاً التباطىء. كل ما تبقى يعتمد على العادة.

يجب موازنة الحب والإحترام لكي يسند أحدهما الآخر من دون أن يخنق الإحترام الحب.

الأرواح العظيمة ليست هي تلك التي تعشق غالباً، فأنا أتحدث عن حب عنيف؛ تحتاج تلك الأرواح لفيضان عاطفة تخضها وتملأها. لكن ما أن تعشق، حتى تعشق أفضل بكثير.

يُقال أن هناك أمم عاشقة أكثر من أمم غيرها، ذلك قول نافل، أو على الأقل ليس حقيقياً بأي معنى. فالحب لا يكمن إلا في رابطة الفكر، ولذا ينبغي أن يكون نفس الشيء في كل مكان من الأرض. صحيح أن الحب قد يكمن في مكان آخر غير الفكر، إذ يمكن للمناخ أن يكون له تأثير عليه، لكن في حالة كهذه فأنه يكمن في الجسد.

ما ينطبق على الحب ينطبق على الحس السليم bon sens : فكما نعتقد بأن كل واحد منا يتمتع بذلك الحس، كذلك نعتقد بأنه يحب من نفس الحب. وبالرغم من هذا، إذا ما تمتع المرء برؤية أكبر، فأنه يحب حتى الأشياء المتناهية الصغر، وذلك ما لا يستطيع عليه الآخرون؛ كما ينبغي أن يكون المرء غاية في الرهافة لكي يلحظ ذلك الفارق cette différence.

لا يمكن للمرء التظاهر بالحب، من دون استعداده في أن يكون محبوباً، أو أنه يحب في مكان آخر، ذلك لأنه ينبغي على المرء التمتع بالعقل وفكر الحب لكي يتظاهر، وما هي الوسيلة التي تمكنه من الحديث عن ذلك دون أن يكونه؟ فحقيقة الإنفعالات ليست أكثر تخفياً عن الحقائق الجدية vérités sérieuses. لا بدّ من النار il faut du feu، الفاعلية واللعبة الطبيعية للعقل والمتلائمة مع تلك الفاعلية : إذا ما تخفى الآخرون خلف التباطىء والليونة، فذلك لأن هذا شيء سهل.

حين نكون بعيدين عن ذلك الذي نعشق، فأننا نتخذ قرارنا بفعل وقول أشياء كثيرة، لكن عندما نكون قريبين منه، نتردد، ما سبب ذلك؟ حين نكون بعيدين لا يكون عقل المرء مهزوزاً بقوة، لكنه يهتز بغرابة عند حضور موضوع الحب، والحالة هذه، لكي يكون هناك من قرار، لا بد من أن يكون ثمة من حسم، كان الإهتزاز قد قضى عليه.

في العشق لا نجازف، ذلك لأننا نخشى خسارة كل شيء؛ ومع ذلك لا بدّ من التقدم، لكن منْ الذي سيقول لنا إلى أي حد؟ سنظل نهتز حتى نعثر على تلك النقطة. وما أن نعثر عليها حتى يستقر فيها الإحتراس دون بذل أي جهد.

ليس هناك ما هو أكثر احراجاً من أن يكون المرء عاشقاً ولديه ما يقف إلى جانبه ومع ذلك لا يجرأ على الإعتقاد به : يَدحرُ الأمل الإنسان كما يَدحرهُ الخوف. لكن، في النهاية، ينتصر الأخير على الأول.

حينما يعشق المرء بقوة، يرى دائماً من يعشقه بصورة جديدة؛ تكفي دقيقة واحدة على غيابه حتى يَجدهُ بسبب من الفراغ الذي تركه في قلبه. أية فرحة بالعثور عليه! فهو سيشعر على الفور بتوقف قلقه. ومع ذلك، لا بد وأن يكون الحب قد تقدم بدءً، لأنه حينما يكون على وشك الولادة ولم يتقدم المرء أبداً على دربه، يشعر بتوقف القلق، بيد أن حالات أخرى من القلق سوف تتولد.

بالرغم من أن الآلام تتعاقب بمثل هذه الطريقة بعضها بعد البعض الآخر، مع ذلك لا يتمنى الرجل سوى حضور عشيقته إلى جانبه من أجل تخفيف عذابه؛ من جانب آخر، ما أن يراها حتى يظن بأنه يتعذب أكثر من قبل. لا توجع الآلام القديمة، أما الحاضرة منها فتمسنا، وعلى ما يمس ينبغي الحكم. ألا يستحق عاشق كهذا الحنو؟


 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2059 الاربعاء 14 / 03 / 2012)


في المثقف اليوم