قضايا وآراء

التربية التكاملية والمتاريس الأصولية وفلسفة الإنتحار / سامان سوراني

عل? الرغم مِنّا ودون أن ??ون لإرادتنا في ذلك مدخل. والف?لسوف الفرنسي بال?ز باس?ال (1623-1662) عبّرعن الح?اة بجملة واقع?ة جم?لة ح?نما قال: "لقد أبحرَتْ بنا السف?نة، ول?س في وسعنا سو? أن نمضي!"

وثمة حق?قة أخر?، عل?نا الإعتراف بها، وهي أن الح?اة في صم?مها فعل، لأن الموت? وحدهم هم الذ?ن لا ?عملون ونحن ح?ن نعمل لا نُعَدّل من العالم الخارجي فحسب، بل نحن نُغ?ّر أ?ضاً مما بأنفسنا. وإذا ?ان البعض قد وجد في العمل المعن? الأوحد للح?اة الإنسان?ة، فما ذلك إلا لأن العمل هو الظاهرة الوح?دة المساومة للوجود البشري بصفة عامة. وآ?ة ذلك أن الإنسان لا?ستط?ع أن ?ح?ا دون أن ?عمل وهو لا?ستط?ع أن ?عمل دون أن ?حقق ذاته في عالم الواقع.

فالح?اة التي ?س?ّرها دافع قو?، سواء أ?ان هو العمل أو الحب أو الأمل، أو الدفاع عن الإنسان?ة، أو غ?ر ذلك، لابد من أن ?ش?ع في أصغر أحداثها وأتفه مظاهرها إحساس عارم بالهدف، وشعور حاد بالمعن?. المعن? الذي ?ش?ع لد? الإنسان القدرة عل? مقاومة العبث ومجاهدة اللامعقول?ة. فالإنسان لابد له‌ من أن ?فهم أنه هو رب?ب المعن?، وأنه لولاه لصَارَ الوجود واقعا غفلاً لا?عن? ش?ئاً.

وعامل العقل في الإنسان هو من ح?ث الأساس باعث الغالب?ة العظم? مما ?قع في دن?ا الإنسان بش?نها وز?نها، قبحها وجمالها، جورها وعدلها، سخفها وجلالها، من خزعبلات الأساط?ر وعبادة الأصنام والبقر ال? مل?وت  "النسب?ة' وفلق الذرة وإرت?اد الفضاء. بعبارة أخر?، ح?ا?ة الإنسان من ألفها ال? ?ائها عبارة عن حر?ة عقله في الوسط الذي هو ?ع?ش ف?ه، ومن غرائب العقل أنه في الأغلب ?م?ل ال? تصد?ق مالا?صدقه العقل السويّ، لذلك نر? ??ف أن التراث الأسطوري ?نتقل بلا تعب ولام?افأة ال? الأج?ال ج?لاً بعد ج?ل عل? ح?ن لا ?نتقل بل لا ?ع?ش علم وفن وف?ر وأدب إلا ببذل الجهد الجه?د من قبل ناس تفرّغوا له‌ وفي جو مساعد عل? تحر?ك الوعي.

ومن الطرف الآخر نر? البعض منا ?نتحر لأنه ?علّق عل? الح?اة من الأهم?ة أ?ثر مما تستحق، بدل?ل أنه عل? إستعداد للتنازل عن الح?اة نفسها، إذا لم تجيء ?ما ?طلبها هو، فالمنُتحر لا?تخل? عن الح?اة، إلا لأنه ?حب الح?اة أ?ثر من اللازم، فل?س في "الإنتحار دل?ل عل? تفاهة الح?اة" بل ف?ه إعترافا ضمن?ا بق?مة الح?اة، وإلا لما أقدم المنتحر عل? التخلص من الح?اة، لمجرد إنها لم تحقق له ?ل ما?هدف ال?ه من أسباب البقاء.

ول?علم القار?ء ال?ر?م، بأنني عندما أتحدث عن المنتحر لا أقصد به ذلك النموذج الجهادي الأصولي والمخرب الأممي الذي ?زرع الرعب و?سفك الدماء بأعماله الإرهاب?ة، بعد تلق?ه الدروس من قبل الوعاظ الجدد الذ?ن إحتلوا الشاشات في العالم العربي منذ ربع قرن بخطاباتهم النرجسية وتهويماتهم الإصطفائية وتشبيحاتهم العقائدية وتصنيفاتهم العنصرية وسيناريوهاتهم الجهنمية، الذ?ن ?نادون الناس من خلال منابرهم ووسائلهم المم?نة لتطه?ر الأرض من المخالف?ن معهم في الف?ر والعق?دة لطردهم ال? خارج مل?وت الإ?مان، الذ?ن ?رفضون التواصل ب?ن بني البشر و?ر?دون أن ?بقو حجر عثرة أمام طر?ق التوح?د ب?ن أف?ار الشرق وأف?ار الغرب، ?ي لا?تم العمل عل? خلق "مر?ب مت?امل" ??ون بمثابة "الوحدة العضو?ة" التي تضم في ثنا?اها شت? عناصر الإنسان الروح?ة، والعقل?ة، والإقتصاد?ة والجمال?ة.  

ومن الملاحظ أ?ضا أن ال?ث?ر?ن ?تشا?ون قصر الح?اة، لأنهم ?شعرون بأن أ?امهم محدودات، وأن لحظات ح?اتهم قطرات في مح?ط، في ح?ن أنهم ?تطلّعون ال? الح?اة الطو?لة و?طمعون في البقاء المستمر، وفات هؤلاء أنه ل?ست العبرة بطول الح?اة أو قصرها، بل العبرة بعمق الح?اة أو ضحالتها، وإذا ثمة ح?اة تحمل دلالة أو معن?، فتلك هي الح?اة العم?قة الحافلة باللحظات ال?بار. وأنا لا أُقاسم رأي الذي ?صرّ عل? القول بأن الح?اة لا تستحق أن تُعاش وهو لا ?ر?د في قرارةِ نفسهِ سو? المز?د من الح?اة.

صح?ح أن الح?اة لا تخلو من آلام، وشرور، ومخاوف، ومخاطر، وفشل، وعذاب، وش?خوخة، وموت، ول?ن ?له هذا لم ?منع ال?اتب الروسي ال?ب?ر تولستوي (1828-1910) من أن ?قول:"ماأمتع الح?اة ب?ن قلوب التي عرفت الحب...ول?ن أ?ن الحب؟ إنه في ?ل شيء حيّ حولي! فأنا أ?ره الموت، وأ?ره ?ل شيء لا ?نبض الح?اة." أو قوله بأن "كسب الحياة يكون بخدمة الناس لا باعتزالهم".

ول?س من المستح?ل عل? إنسان القرن الواحد والعشر?ن أن ?نمي حواسه، و?رهن عواطفه، و?رقي قدراته العقل?ة، و?ربي فهي نفسه‌ المل?ات ال?دو?ة والعمل?ة، ول?ن مثل هذه‌ "الترب?ة الت?امل?ة" قد تقتضي منا -أولا وقبل ?ل شيء-العمل عل? إزالة الحواجز التي مازالت تفصل مناحي المعرفة البشر?ة وعل?نا التحرر من الوهم الخادع بأن الأش?اء والذوات تبق? عل? ماهي عل?ه وعل?نا القول بأن الحر?ة، شأنها شأن سائر المسائل. ل?ست ش?ئا ??تسب بصورة نهائ?ة، وإنما هي مراس دائم بقدر ماهي عمل تحو?لي متواصل عل? الذات والمعط?ات.      

و ربما ت?من الخوف من الش?خوخة في جوهره‌ في تعب?ر عن إحساس المرء بأنه لم ?ستط?ع أن ?ح?ا ح?اة منتجة، وبالتالي فانه رد فعل ?قوم به ضم?ر الفرد ضد عمل?ة التشو?ه الذاتي التي مارسها في نفسه. ونر? في الآونة الأخ?رة ثمة ظاهرة غريبة ومستهجنة اخذت في الانتشار في المجتمع الشرقي تستدعي الدراسة وهي ظاهرة إهتمام الرجال وعل? وجه‌ الخصوص الس?اس?ون منهم بتغ??ر الش?ب بالأسود القاتم، أي تسو?د الشعر، من أجل طمس حق?قة معالم الش?خوخة  والبحث من دون جدو? عن إكسير للشباب الدائم وأتباع نصائح تجار?ة زائفة تساعد عل? منع ظهورعلامات الش?خوخة.

ومن المعلوم بأن الش?خوخة لاتمس الشخص?ة، والشخص الذي ?ح?ا ح?اة مثمرة منتجة، قبل بلوغه سن الش?خوخة، لن ?صاب بأيّ إنحلال نفساني أو أيّ إضطراب عام في بناء الشخص?ة، لأن السمات الذهن?ة والوجدان?ة التي عمل عل? تنم?تها في نفسه خلال تطوره‌ الح?وي عبر ح?اة مثمرة منتجة لابد من أن تستمر في النمو والترقي، عل? رغم من ?ل وهن جسمي. والشعور بالش?خوخة لد? المرء ?قترن في أغلب الأح?ان برؤ?ة صورته في المرآة، و?أن الإنسان لا ?هرم إلا من الخارج دون أن ??ون قد شعر بذلك من الباطن أو دون أن ??ون قد إستشعر ذلك التغ?ّر في صم?م ح?اته الباطن?ة. إن رفض الأنسان شهادة المرآة هو في إعتقادي نابع من شعوره بهو?ته عبر تجاربه الوجود?ة السابقة، ف?خ?ل ال?ه أنه مازال ذلك "الشاب" القوي المت?ن المتوثب الجبار الذي ?ان في مرحلة سابقة من مراحل العمر، و?أن من شأن الشعور بالهو?ة أن ?جعله ?ر? نفسه عبر "الذا?رة" لا "المرآة". فالقوة البدن?ة أو الجسمان?ة لاتخلوا تماما من ?ل أثر من آثار القوة النفس?ة أو الروح?ة. والتجربة تشهد بأنه ل?س ثمة إنسان - عل? ظهر هذه‌ البس?طة - هو بمنج? تماما عن ?ل إصابة أو فشل. والأشخاص الذ?ن ?هرمون بسرعة إنما هم أولئك الذ?ن فقدوا مبررات وجودهم وإن ما ?تعب المخلوق البشري و?ضن?ه إنما هو الت?اسل والتقاعد والجمود والر?ود، لا الح?اة المل?ئة المضطربة، والإنفعالات العن?فة الصاخبة والجهود الشاقة المتواصلة والدراسات الطو?لة المستمرة والأعمال المنتجة المثمرة.

والحر?ة في نظري لا تعن? سو? فهم الإنسان لنفسه وبذله للجهد الجه?د في سب?ل الوصول ال? ماهو م?سّر له‌ بالقوة (والمقصود من القوة، هي القدرة عل? تحق?ق الذات لا الس?طرة). والإنسان القوي ل?علم إنه ل?س مر?ز العالم، وإنه لا?مثل "المطلق" ول?نه واثق - مع ذلك- من إنه-  عن طر?ق الثقة - بالنفس- أن ?زحزح الجبال، وقوة الإنسان نابعة من تواضعه "أو عل? حد قول المعلم ال?وناني سقراط (469 ـ 399 ق.م) ، إعترافه بنقصه". فالإنسان القوي هو أعرف الناس بنقاط ضعفه وهو أ?ثرهم إعترافا بعجزه وقصوره، ول?نه في الوقت نفسه أشدهم إ?ماناً بقوة الصراع من أجل الحق?قة، ?ما إنه أعرفهم بضرورة العمل من أجل تحق?ق المستح?ل.   

وقد صدق الكاتب الروماني وخطيب روما المميز ش?شرون (ولد سنة 106 ق.م) قد?ما ال? حد ما عندما قال بأن "جلائل الأعمال لم ت?ن في ?وم من الأ?ام ول?دة القوة الجسم?ة، أو الرشاقة البدن?ة، بل هي قد ?انت ول?دة المشورة، والسلطة والخبرة والح?مة الرز?نة، و?ل هذه‌ المزا?ا لا تجي‌ء إلا مع الش?خوخة."

فنر? الف?لسوف الألماني ال?ب?ر عمانويل كانت أو كانط  (1724-1804) ??تب أجل ?تبه (نقد ممل?ة الح?م) في سن السادسة والست?ن، و?قدم لنا المف?ر الفرنسي هنري برجسون (1859-1941)، الذي حظي ابان حياته بشهرة منقطعة النظير، درته الثم?نة (منبعا الأخلاق والد?ن) في الثالثة والسبع?ن و?طالعنا الف?لسوف الأمر??ي وأحد مؤسسي الفلسفة البرغمات?ة، جون د?وي (1859-1952)، ?تابه الهائل (المنطق أو نظر?ة البحث) في التاسعة والسبع?ن وقدم ف?لسوفنا جم?ل صدقي الزهاوي (1863-1935) ملحمته الخالدة (ثورة في الجح?م) في الخامسة والست?ن.  

 وقد رو? عن الرسام والنحات الإ?طالي ما??ل أنج?لو  (1475-1564) أنه رُئ? ?وما -و?ان في ختام ح?اته تقر?با-  ?حث الخط? ال? مرسمه، فقال له أحدهم: "ال? أ?ن تمض سر?عا، وقد غطت الثلوج شوارع المد?نة؟"

فما ?ان منه سو? أن أجاب قائلا: "إنني ذاهب ال? المدرسة، فلابد لي من أن أحاول تعلم شيء قبل فوات الأوان..!"

وختاما نقول: لن ت?ون "إنساناً" إلا إذا عرفت ??ف تقضي ?ل ?وم من أ?ام ح?اتك في إجتلاء الجمال والبحث عن الحق?قة والمضي في طر?ق الخ?ر والسعي نحو ال?مال والتعجب لما في الوجود من أسرار.

 

د. سامان سوراني

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2060 الخميس 15 / 03 / 2012)


في المثقف اليوم