قضايا وآراء

الكلمة وملكوت الله العرب المعاصرون أنموذجا / صالح الطائي

تغدق على الإنسان فضيلة التواصل وفردانية التمايز عن باقي المخلوقات رحمة سماوية من الخالق المتعال. يكفي الكلمة عظمة أن بها يدخل الإنسان إلى ملكوت الله ودينه الذي ارتضاه، ويكفيها خطورة أن بها يخرج الإنسان من دائرة الرحمة ليسقط في حضيض الخسران. قال رسول الله (ص): "من يتكفل لي بما بين لحييه ورجليه أتكفل له بالجنة"

الكلمة مجرد حرف أو بضعة أحرف ولكنها كانت البدء " في البدء كانت الكلمة" وكانت المعاد وكانت العماد الذي قامت عليه حضارة الإنسان وهمجيته أيضا، بني بها ومن خلالها عقل الإنسان وتفكيره ورؤاه وطغيانه وجبروته، وبها سمت إلى العلياء أخلاقه، أو رذلت إلى الحضيض سلوكياته. فهي الميزان الذي يراقب دون إنقطاع، قال الله عز وجل: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}

  

بالكلمة بنى الإنسان حصونه، وسخر المادة والحيوان والجماد لخدمته، وأخرج الأفعى من جحرها. وبها دمر حصون الآخرين وشن الحروب وسفك الدم وعاث في الأرض فسادا، وتحول إلى إنسان مفترس. ولذا قال حكماؤنا الأقدمون: "إن الحرب أولها كلام"

 

الكلمة بالكسر عند النحاة: اللفظة الواحدة الدالة على معنى مفرد بالوضع سواء أكانت حرفا واحدا أم أكثر. وهي بالفتح: جرح، تقول: جرحه فهو: مكلوم.

وكلمة الله: حُكمُه وإرادته وقوانينه وسننه وقضائه.

والتكالم: الحديث بعد الهجران.

والكلام بمجمله: الأصوات المفيدة.

 

يكفي الكلمة فخرا أن القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والكتب السماوية الأخرى كلها إنما هي كلمة وكلمات الله سبحانه وتعالى.

وردت مفردة (كلمة) مع جذرها وأصلها وتفعيلها وصيغها في القرآن الكريم أكثر من (58) مرة، لخصت كل أنواع الحوار والأمر والنهي والحكم فكانت قانون الوجود وسر الخلود.

فالكلمة هي الميزان الأوفى والحَكمْ العدل الذي يقود الإنسان ليضعه إما في الجنة والنعيم أو في النار والهشيم، لأن بالكلمة وعليها يؤاخذ المرء ويحاسب فيثاب أو يعاقب، ولذا كان الحكماء يزنون كلماتهم قبل أن تخرج إلى الناس وقد روي عن أبي الحسن علي (ع) انه قال: "ليت لي رقبة كرقبة البعير" لكي تأخذ كلمته مدى طويلا قبل أن تخرج إلى السامعين، مع أن كلامه كان تحت كلام الخالق وفوق كلام المخلوق. وفي الحديث أن معاذ بن جبل قال لرسول الله (ص): "أوإنا لنؤاخذ بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك، وهل يَكبُ الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم"

 

وقد جاءت تعاليم الإسلام توصي الإنسان بحفظ الكلمة وعدم طرقها والبوح بها إلا في وقتها، جاء عقبة بن عامر يطلب الوصية من النبي (ص) فقال له: "أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك" وسأل أحد الصحابة رسول الله (ص): "ما أتقي؟ فأومأ رسول الله (ص) إلى لسانه" وطلب النبي (ص) من صحابته أن لا يتكلموا إلا فيما هو خير، فقال لهم معلما: "من كان يؤمن بالله واليوم والآخر فليقل خيراً أو ليصمت" ولهذا السبب قال ابن مسعود: "والله الذي لا إله إلا هو ما من شيء أحوج إلى طول سجن من لسان" وقال التابعي الحسن البصري: "ما عَقلَ دينه من لم يحفظ لسانه"

كل ذلك لأن الكلمة تتبعها حسرة التفريط غالبا، قال حكيم: "أنا على رد ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت" وقال حكيم آخر: "إذا تكلمت بكلمة ملكتني ولم أملكها، وإذا لم أتكلم بها ملكتها ولم تملكني" ولهذا السبب أوصى ابن عباس رجلا بقوله: "لا تتكلم بما لا يعنيك فإن ذلك فضل، ولست آمن عليك الوزر، ودع الكلام في كثير مما يعنيك حتى تجد له موضعاً، فرب متكلم في غير موضعه قد عنت"

وقد حذر النبي (ص) من قول كلمة الزور وتخوف منها على أمته حتى أنه يوم كان متكأ يتحدث مع صحابته الكرام بحميمية في الأخلاق والقيم، جلس واعتدل في جلسته ليلفت انتباههم إلى خطورة ما سيلقيه على أسماعهم، فقال:"ألا وقول الزور .. ألا وقول الزور .. ألا وقول الزور"

وحذر الكتاب العزيز أمة الإسلام من التكلم بالغيبة وبأعراض الآخرين، ووصف هذا الفعل القبيح بأنه كمن يأكل لحم أخيه الإنسان الميت حيث قال تعالى: "أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه"

 

بالكلمة نقل الرسل والأنبياء تعاليم السماء إلى البشر ونزهوهم عن الدونية والحيوانية ليرفعوهم مكانا عليا، وبها حكم الحكام وقضى القضاة وسارت الحياة وتحققت الأمنيات وخابت الرجاءات وقطعت الرقاب وشدت الأطناب وتحزبت الجماعات وتجذرت العداوات وتوحدت القلوب وتعاطف الناس أو تحاربوا، وإذا ما كان البحر قادرا على استيعاب ما لا يعد ولا يحصى من الكائنات دون أن تؤثر عليه، فإن للكلمة الواحدة قدرة خلط البحار كلها وتغيير طبيعتها، وفي الحديث أن رسول الله (ص) قال لأم المؤمنين عائشة (رض) بعد أن سمع حديثا لها في أم المؤمنين صفية (رض): "لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته"

الكلمة محور الحياة وحياة المحاور والدوائر، سر الوجود وطريق الخلود، كيف لا وقد قال رسول الله (ص) عنها: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة"

وإذا ما كانت بعض الحيوانات البكماء الخرساء تفهم القول الملقى إليها فتطيع أمر المتكلم فإن بين الناس الناطقين من لا يفهم حتى كلمة الأنبياء والصالحين، ففي طف كربلاء استخدم الإمام الحسين (ع) سحر ونعومة وقوة الكلمة ليقابل بها نبالهم ورماحهم وسيوفهم المتوحشة وهو على يقين أنهم لا يعرفون وزن الكلمة كما يراها هو، فالكلمة عند الحسين كما يصورها عبد الرحمن الشرقاوي: "مفتاح الجنة في كلمة، دخول النار على كلمه، وقضاء الله هو كلمه، الكلمة زاد مذخور، الكلمة نور، وبعض الكلمات قبور وبعض الكلمات قلاع شامخة يعتصم بها النبل البشري، الكلمة فرقان بين نبي وبغي، بالكلمة تنكشف الغمة"

الكلمة زلزلت عروش الظالمين وهدت قلاع المتكبرين على مر التاريخ، وعبر التاريخ كانت  الكلمة حصن الحرية، ومنتهى المسؤولية، فحينما كان للرجولة وزنها كان الرجل كلمة.

شرَّفَ الله الكلمة بقوله تعالى: {ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون}

وشرَّفَ رسول الله (ص) الكلمة فقال: "الكلمة الطيبة صدقة"

وجعلها النبي مفتاحا لأبواب الجنة،عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله (ص): "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة"

 

الكلمة مصدر العلم ومنها يتحقق الخلود، خلود الإنسان الفاني، قال (ص): "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جاريه، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"

الكلمة مفتاح علم التنزيل، ومدخرات طالب الشفاعة، قال (ص): "إقرأوا القران فانه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه"

وقال (ص): "من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنه. والحسنه بعشر أمثالها، لا قول: الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف"

الكلمة طلسم باب التأويل الذي تتقى به النار، عن عدي بن حاتم (رض) قال: "ذكر النبي (ص) النار فتعوذ منها وأشاح بوجهه، ثم ذكر النار فتعوذ منها وأشاح بوجهه، ثم قال: اتق النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجد فبكلمة طيبة"      

الكلمة واسطة النجوى والجدال بين البشر، وقد حذر الله عباده من كثرة المجادلة، ومن التناجي بالإثم فقال:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ} لا ليحرم النجوى عليهم وإنما ليرشدهم إلى مباديء النجوى الصحيحة فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ}

 

بالكلمة خرج العرب من جهالتهم إلى دنيا الإيمان، وما سيدهم على الأمم في ماضيهم التليد إلا الكلمة. وما فرق وحدتهم وشتت شملهم في عصر التأخر والأمية والظلام إلا الكلمة. وذلك أنهم نسوا قوله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إلا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا}

 

وإذا ما كان العراقيون في غابر عصرهم قد اخترعوا كتابة الكلمة، وكان العرب في سابق عهدهم قد سادوا العالم بالكلمة، فإنهم في حاضرهم أذلوا الكلمة واحتقروها فلحق بهم الذل وتسلط عليهم أراذلهم.

وإذا ما كان العالم المتحضر قد حقق كل مشاريعه التقدمية والتمدنية بالكلمة، فإن ما يربطنا نحن العرب بالكلمة عداء ليس تاريخيا ولكنه يطغى على كل مشاعرنا بسبب ما ضخه في معناها الحقد والكراهية وتفضيل المصلحة الشخصية. فانشغلنا عن الكلمة الطيبة السواء وما يخصها بالمشاغل الفرعية، تجمعت الكلمات في جعبتنا فولدت مبدعين ومثقفين، وتجمع المبدعون والمثقفون فصنعوا ثقافات، وتجمعت الثقافات فزادت في همومنا حتى بات لكل محور من محاور حياتنا أنموذجا فيه الكثير من الشجون. وهو ما سنتحدث عنه في القسمين الثاني من هذا الموضوع المتسلسل.

تحت عنوان: المبدع العراقي وأشياء أخرى، إتحاد أدباء واسط أنموذجا

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2060 الخميس 15 / 03 / 2012)


في المثقف اليوم