قضايا وآراء

في غَزَل الشاعر الياسري (1) قول في الغزل/ خالد جواد شبيل

وبدونه يصبح الشعر جافا فاقع اللون لا نضرة فيه، بل يغدو معزوفة مملة، مهما راقت معانيه وجاشت عواطفه ورق لفظه وخصبت مخيلته، ولا ادلَّ على كلامي هذا من أن الشعراء الجاهليين ولا سيما أصحاب المعلقات منهم، كانوا يستهلون قصائدهم بالغزل، حتى وإن لم يكن هو الغرض الأساسي فيها، ثم ينتقلون بانسياب من الغزل الى مواضيع أخرى دون أن يشعر السامع بهوّة أوفجوة تخدش نسيج الشعر أو تُخلُّ بتماسكة، وهذا ما يصطلح عليه في البلاغة بحُسن التخلص.

جاء في المعجم الوسيط جذر: "غَزَلَ، يَغْزَل،غَزَلا: شغف بمحادثة النساء والتودد اليهن، أو شغف بالوصف لهن ولشعوره نحوهن". والكلمة انتقلت من العربية الى اللغات الشرقية كالفارسية والأردية والتركية، كما أن الكلمة شاعت واستخدمت في المعنى ذاته  مع اللفظ العربي محرفا قليلا في اللغة الإنكليزية.

بل أن في باكستان والهند لاسيما كشمير سمعت نوعا من الغناء الروحاني يطلق عليه "غزل".

على أن الغزل في أكثره كان بفتقد صدق العواطف وحرارة الإنفعال، ويعتمد على وصف المرأة الخارجي ، وذِكر محاسنها وجمال وجهها وجسمها، وقد يسفُّ الشاعر في الوصف الى حد الابتذال في ذكر صفاتها الجسمية في ضرب من التشبيب أطلق عليه الغزل الماجن. وزعيم هذا المنحى ورائده امرؤ القيس وتلاه معظم الشعراء الذين مارسوا الغزل شعرا أوشعرا وتجربة، حتى أن الرسول الكريم استمع لقصيدة كعب بن زهير التي بدأها بالغزل "بانت سعاد" واتى فيها على وصف جسمها مقبلة ومدبرة بالبيت الشهير:

هيفاء مقبلةٌ عجزاء مدبرةٌ*** لا يشتكي قِصَرٌ منها ولا طولُ

وكان الرسول يستمع اليه مستبشرا به وبقصيدته وأجزل له العطاء.

وبعد وفاة النبي الكريم برز أتجاهان في النظر الى الغزل وتقويمه، اتجاه يتفهمه ويشجعه ويطرب له، وهو امتداد لموقف الرسول الكريم الذي اشرنا اليه آنفا، مثله ابن عباس المحدث الفقية وابن عم الرسول، والمعروف بسعة علمه حتى لُقب ب"حَبر الأمة"، و أشهر من اعتمد الشعر في تفسير القرآن، وهو القائل: إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه بالشعر، فإن الشعر ديوان العرب...

ومن أوائل من مارس الغزل من الشعراء الفقهاء ومن التابعين، فقيه المدينة وشاعرها الرقيق عروة بن أذينة (؟-130ه/؟-747م)، الذي قال :

إن التي زعمت فؤادك ملَّها***خلقت هواك كما خُلقت هوىً لها

بيضاء باكرها النعيم فصاغها***بلباقة فأدَقها وأحلّها

لما عرضتُ مسلِّما في حاجة***أرجو معونتها وأخشى ذُلها

حجبت تحيتها فقلت لصاحبي***ما كان أكثرها لنا وأقلّها

ويبيتُ بين جوانحي حبٌّ لها***لو كان تحت فراشها لأقلّها

ولَعمرُها لو كان حبكَ فوقها***يوما وقد ضحِيَتْ إذاً لأظلها

فانظر ما ارق هذه الأبيات!

واتجاه آخر ظهر مع ظهور الفرقة المتشددة وهي الخوارج ولا سيما الأزارقة، نسبة الى زعيمهم نافع بن الأزرق (قُتِل سنة 65 ه، وهو أخطر الخوارج وأكثرهم تطرفا، وكان يرى ردة كل من لم ينتمِ إليهم، بل كان يقتل الناس حتى في المساجد)، رغم أن للخوارج شعراءهم، كقطري بن الفجاءة والطِرمّاح بن حكيم الشيباني وعِمران  بن حِطّان وأم حكيم الذين  مجّدوا الموت في أشعارهم ، ووظفوا الشعر للدعاية لمبادئهم والتحريض على أعدائهم. وقد ظل هذا الإتجاه حاضرا في مختلف العصور والحقب وإن تفاوت تأثيره رغم أندثار مؤسسيه، وهذا ما سنشير إليه لاحقا. (لدراسة شعر الخوارج، راجع كتاب الدكتور إحسان عباس: شعر الخوارج، دار الثقافة ط2 سنة 1974).

ولعل في سَوْق الحادثة التالية -مختصرا- ما يعزز ما ذهبنا إليه، وقد ذكرها أبو الفرج المعافى

بن زكريا النهرواني الجريري(330-390ه) صاحب كتاب "الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي" حقق المجلدين الأولين:محمد موسى الخولي، والمجلدين الآخرين- الثالث والرابع- الدكتور إحسان عباس عن دار عالم الكتب 1993 حيث جاء في المجلس 98: وإذ كان ابن عباس في المسجد الحرام والناس يستفتونه وفيهم نفر من الخوارج وزعيمهم ابن الأزرق، إذ أقبل عمر بن أبي ربيعة بكامل اناقته فسلم وجلس، فأقبل عليه ابن عباس فقال : أنشدنا فأنشده :

أمن آل نُعمٍ أنت غادٍ فمُبكِرُ***غَداةَ غَدٍ أو رائحٌ فمُهجّرُ

حتى اتى على آخرها، فأقبل عليه ابن الأزرق: الله يابن عباس إنا لنضرب إليك أكباد المَطيّ من أقاصي الأرض...، فتتثاقل عنا، ويأتيك مُترِف من مترفي قريش فينشدك:

رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت***فيَخزى وأما في العشيِّ فيَخسَرُ

فصحح له أبن عباس البيت (بعد أن افسده ابن الازرق):

رأت رجلا أما إذا الشمسُ عارضت***فيحضى وأما في العشيّ فيخصَرُ

قال :ما أراك إلا وقد حفظتَ البيت، قال: نعم وإن شئت أنشدك القصيدة، قال: وإني أشاء، قال: فأنشده القصيدة حتى جاء على آخرها....

ولا شك ان المؤلف أبا الفرج المعافى صاحب "الجليس الصالح" إنما أورد هذه الحكاية وغيرها من المناظرات الكثيرة بين ابن عباس وابن الأزرق، إنما أراد أن يدلل على سرعة حافظة ابن عباس التي حفظت الألوف من الأحاديث التي أختزنها من الرسول يوم كان فتى يافعا حيث كان دون سن الحلم حين توفي الرسول الكريم.

أما نحن أردنا أن نشير الى أن هناك اتجاهين في النظر الى الغزل، وهو الأتجاه المتسامح والآخر وهوالمتشدد، ومن الملاحظ أن الفقهاء الشعراء وقف كثير منهم بل مارس الغزل ولا أدلّ على ذلك من الشاعرين الرضيين ، الرضي والمرتضى حيث يحفظ لنا التاريخ الادبي أروع قصائد الغزل، فمن يتصور أن هذا البيت الرقيق هو للشريف الرضي نقيب الطالبيين في القرن الرابع الهجري:

وكم سرقنا على الأيام من قُبَل****خوفَ الرقيب كشَرب الطائر الوجِلِ

أو قوله:

عندي رسائل شوق لست أذكرها***لولا الرقيب لقد بلّغتُها فاكِ

لقد اثّر الشريف الرضي وغزله بالذات بمجموعة كبيرة من الشعراء الكبار اعتبارا من تلميذه مهيار الديلمي الى

الشاعر الفقيه محمد سعيد الحبوبي الذي أدرك عقدا ونصف العقد من القرن العشرين والذي طالما حاربه المتزمتون من الشيوخ الفقهاء حتي توقف عن نظم الشعر وهو ابن الاربعين ، لقد لعب هذا الشاعر الرقيق دورا كبيرا في تجديد الشعر العراقي عموما والشعر النجفي خصوصا، الذي كان يعتمد على الجمل الشعرية الفخمة والمطولات من القصائد على البحور الثقيلة كالطويل مع اقتصار في أغلب الأحيان على الشعر الحسيني الذي يصف واقعة كربلا ورثاء بقية أهل البيت وكذلك على شعر المناسبات التاريخية والدينية... لقد كان الحبوبي جريئا في مضامينه الشعرية التي شملت الخمريات والغزل والتشبيب مستخدما الأعاريض ذات الأصداء الموسيقية العالية كالرمل والسريع والبسيط والوافر ومجزوء الكامل مع رقة في العبارة الشعرية وتنويع في القوافي فهو مجدد الموشح، بل فاق الأندلسيين فيه، حيث تنساب الصور الشعرية بألفاظ عِذاب لاتكلف ولا تصنع ولا نبو صافية المخمل كأنها الماء الزلال، مما جعلها سهلة الحفظ واسعة الأنتشار، كثير الترداد في مجالس الشعر والشعراء أو في مجالس العوام من الناس وعلى تعاقب الأجيال.  إن هذا التجديد وهذه الجرأة جلبت اليه نقمة الشيوخ المتزمتين" حيث عيّره كبير الفقهاء في مجلس ديني عام عندما ذكر الحبوبيُ رأيَه في مسألة دينية قائلا: أين انت من هذا؟ إنما أنت تحسن القول: ياغزال الكرخ"( جريدن البلد البغدادية ع 892 نقلا عن مقالة للأستاذ نبيل الحيدري:الفقيه الحبوبي مع الغزل والنسيب والخمرة، نشرت في أكثر من موقع). تعريضا بقصيدة الحبوبي الذائعة:

ياغزالَ الكرخ وا وجدي عليك***كاد سري فيكَ أن ينهتكا

 

لقد أثر الحبوبي بشعراء جيله، ومن يقرأ لمجايله الشاعر السيد موسى الطالقاني، سيلمس مدى تأثير الحبوبي، حتى أن بعض قصائد الطالقاني ضُمّت خطأ الى ديوان الحبوبي في طبعته الأولى –المطبعة الأهلية ببيروت- بتحقيق وتقديم: عبد العزيز الجواهري، أذكر على سبيل المثال قصيدة الطالقاني:

حتى مَ ياقلبُ وراء الملاح***تصفق من وجدك راحا براح

أما تأثيره على الشعراء الذين جاؤوا بعده فهو واضح جلي، ومن يُرد دليلا فليقرأ للشعراء النجفيين مثالا لا حصرا: باقرالشبيبي، محمد رضا الشبيبي، علي الشرقي، عبد الرزاق محيي الدين، مرتضى فرج الله، مصطفى جمال الدين، زهير غازي زاهد،عبد الإله الياسري في غزلياته والتي سنتوقف عندها في قابل الحلقات ...إن السمة المشتركة لهؤلاء الشعراء هي الرقة والعذوبة اللفظية وتجديد المعاني والأفكار الشعرية والتوسع في الغزل وتحديثة وتلك لعمري تأثيرات الحبوبي.

 

-            - للموضوع صلة -

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2061 الجمعة 16 / 03 / 2012)


 

 

في المثقف اليوم