قضايا وآراء

في غَزَل الياسري (2) / خالد جواد شبيل

 

 

طَلَعت ليلى ما أحلاها!*** سَكرى ببهاء مُحيّاها

يتغنى الطير بطلعتها *** ويضوع الوردُ بِرَيّاها

سيماءُ الظبيِّ بِلَفتتها***وتلوّي الغصنِ بمَمشاها

تترنحُ تيْها يُطربها*** في الدرب مدامعُ قتلاها

 

لم يُعرف عن الشاعر عبد الإله الياسري أنه شاعرُ غزل، بل اشتُهِر بقصائده الوطنية المعارِضة - للطُغَم الحاكمة بدءً من عام 1968- الغاضبة منها والمتهكمة، تصريحا تارة وتلميحا تارة أخرى، حتى كادت قصائده هذه أن توديَ بمستقبله أيام كان طالبا في جامعة بغداد. ورغم معرفتي به لفترة طويلة لم اسمع منه شيئا من قصائد الغزل، إنما كان يحفظ لشعراءَ آخرين، ويردد روائع المتنبي:

كم قتيل كما قُتلتُ شهيدِ*** ببياض الطُلى ووردِ الخدودِ

و:

لا تعذلِ المشتاقَ في أشواقهِ***حتى تكون حشاك في أحشائهِ

إن القتيلَ مضرجا بدموعه***مثلُ القتيلِ مضرجا بدمائهِ

كما كان يردد غزليات الحبوبي الشهيرة، تشفع له في ذلك حافظة اختزنت روائع الشعر العربي قديمَه وحديثه... حتى قُيِّض لذاكرة الأستاذ رحمن خضر عباس الكريمة أن تجود بمقالة عن شاعرنا الياسري أتى فيها على ذكر قصيدته موضوع اليوم، التي لاقت قبولا حسَنا لدى الطلاب والأساتذة، يوم كان الشاعر ذو الثمانية عشر ربيعا في عام 1968 طالبا في السنة الأولى من كلية التربية في قسم اللغة العربية، مما حدا بالأستاذ الدكتور عناد غزوان أن " يُطري على القصيدة وشاعرها بعد أن عقد مقارنة بين موسيقى الشعر وإيقاع الرقص..." راجع(جرح ومنفى..ومرارة النأي- الحوار المتمدن 14-7-2011).

  بهذه القصيدة إذن واجه الشاعر الياسري الجمهور الجامعي لأول مرة في مهرجان شعري أقامته اللجنة الثقافية في كلية التربية التي كان يشرف عليها الأستاذان الدكتوران علي عباس علوان وهادي الحمداني – قبل أن يصادرها النظام البعثي الجديد يومئذ-. لقد كانت هذه القصيدة بمثابة إعلان ولادة شاعر متميز في سنته الدراسية الأولى رغم ما تحفل به الجامعة من شعراء متمرسين شاركوا الشاعر في المناسبة نفسها من قبيل سعد الرماحي ونبيل ياسين ولفتة مهدي بنيان وعبد الجبار السماوي وسلمان هادي طعمة وخليل إبراهيم الجبوري، وحميد الخاقاني، وحسين السوداني  وسهر العامري ومن الشواعر سلوى إبراهيم وسلاف شاكرالجودي وآخرين من شعراء السنوات المتقدمة الرابعة والثالثة والثانية.(أعتذر لمن فاتني ذكر أسمائهم من الشعراء).

 

في أواسط ستينات القرن الماضي كانت تصدر في إعدادية النجف مجلة "البراعم"، يشرف عليها أستاذان مرموقان وشاعران، هما زهير غازي زاهد مدرس العربية للصفوف الأدبية المنتهية، والأستاذ شاكر أحمد السبع مدرس العربية للصفوف العلمية المنتهية، وكلاهما كان ينشر في المجلة - التي يحررها الطلاب بالاساس- نتاجهما الشعري، ويشرفان على إبداعات الطلاب وتوجيههم الوجهة الصحيحة بتقويم أبداعاتهم ومناقشتها أمام الطلاب. وقد نشر الشاعر المرهف زهير غازي زاهد قصيدته في "البراعم"، وقد وقعت موقعا طيبا في خاطر الطالب عبد الإله الياسري الشعري فراح يعارض أستاذه بقصيدة من الوزن ذاته والقافية ذاتها، كان ذلك في عام 1967حتى حان القاؤها في المهرجان الشعري المذكور آنفا.( جاء ذلك في رسالة من الشاعر جوابا على سؤال لي عن نص القصيدة ومناسبتها).

جاءت القصيدة راقصة على بحر المتدارك، وهذا البحر استدرك به الأخفش على أستاذه عبقري البصرة الخليل بن أحمد الفراهيدي، فألحِق بالبحور الخليلية، وهذا البحر أحادي التفعيلة (فاعلن) يكون تاما بثمان تفاعيل(فاعلن)،أربع مكررة في كل مصراع، أو مجزوءً بست تفاعيل، ثلاث لكل مصراع، وطالما تُخبَن الى فَعَلن أو تُشَعّث الى فاعِلْ (فَعْلن). إن هذه التفعيلة القصيرة المنتظمة أعطت البحر حركة قصيرة في وحدات زمنية متساوية أو متناسبة سريعة مكررة باتساق مما جعله بحرا ذا أصداء موسيقية سريعة خفيفة راقصة. ومصادر الموسيقى الشعرية تأتي أولا من البحور التي نظمت عليها، بغض النظر عن وجود الجمالية اللفظية للغة أو عدمها، وهذا ما تفتقده قصيدة النثر أو النثر عموما (عدا بعض الآيات القرآنية التي تقترب من البناء الشعري) بل تنعدم فيه بسبب غياب التفعيلات. وثانيا من الإيقاع أو ما يصطلح عليه أحيانا بالموسيقى الداخلية التي تأتي من اللغة ومن نبرات الحروف وأجراس الكلمات وتناسبها وانسجامها وتفاعلها ضمن بنية العبارة جملةً نثريةً كانت أم شعرية، فضلا عمّا تحتوية من جناسات وطباقات وتَكرار وتراكيب لفظية و بلاغية تُغني الجانب الصوتي والفني وتساعد في فهم البنية والدلالة، فالإيقاع يوجد في النثر وفي الشعر وهو من خلق الشاعر أو الناثر يصقل بالمران مع شرط توفرالموهبة. يقول ابن الاصبع: وهو أن يأتي الكلام متحدرا كتحدر الماء المنسجم، سهولة سبك وعذوبة ألفاظ حتى يكون للجملة من المنثور والبيت من الموزون وقع في النفوس وتأثير في القلوب ما ليس لغيره.(تحرير التحبير480).

كنا أطفالا في الصف الثالث الابتدائي عند ما سمعنا بحرَ المتدارك ولم نكن نعرفه! بأبيات هي أقرب الى النظم أي الوزن: عَجَبٌ عجب قِططٌ سودٌ ولها ذَنَبٌ،،، وترى أن لا دلالة هناك بل هي السذاجة بعينها. بينما أروع ما بني على  المتدارك هو قصيدة "ياليل الصب" للحصري القيرواني التي ظلت تتغنى بها الاجيال:

ياليلُ الصبُ متى غدُه؟*** أقيامُ الساعةِ موعدُه؟

 وعارضه فيها كثير من الشعراء زاد عددهم على المئتين من المتقدمين ومن المتأخرين، وغناها المغنون، ومن نافل القول أن من أشهر من عارضها شوقي ومن العراقيين الدكتورة عاتكة الخزرجي، والشاعرأنور شاؤول الحلّي الذي أبدع في قصيدة رائعة لم تنل حظها من الشهرة كصاحبها الشاعر المغبون (رفع عنه بعض الغبن الدكتور عبد الإله الصائغ الذي خصّه مشكورا بمقالة وافية بين فيها شاعريته وإعتزازه بعراقيته):

 الليل تسمّر أسودُه***والصبُّ تناساه غدُهُ

وعودة الى قصيدة الشاعر عبد الإله الياسري نجد أنها تمثل قصيدة نموذجية لموهبة شاعر ذي سبع عشرة سنة يحاول أن يجاري أستاذه، ومن الطبيعي ألا تكون القصيدة صادقة فهي أقرب الى تمرين واختبار لموهبته،رغم ما فيها من قدرة تعبيرية عالية في مواضع اللوعة والحرمان. أراد ان يتعرف فيها على ردود النخب الأدبية النجفية الذوّاقة للشعر في مدينة ارتبطت تارخيا ومصيريا بالشعر، فالنجفيون مجاملون بطبعهم الا في الشعر! في القصيدة هناك انسجام وغنى في المفردات والصور الشعرية المكررة لدى شعراء الغزل وتجد فيها انسجاما وتماسكا في اكثر مواضعها ناهيك عن غناها الصوتي الراقص على مجزوء المتدارك وانسجام مع اللغة الشعرية التي حفلت بها القصيدة. أما قافيتها جاءت مرنة  سهلة التوظيف بسبب من روي الهاء المطلقة بالألف يسبقها حرف المد، فلنسمع:

ظمآن وما فتئت ليلى*** تتدفق حولي أمواها

آهٍ لو تسقيني شيئا***آهٍ لو ذاق فمي فاها

ما أحلاها ما أحلاها***طلعت ليلى ما أحلاها

هطلت بفؤادي مزنتها***فاخضر ربيعا تيّاها

أوقدت لديها آهاتي***مصباح دجىً آها آها

خطفت يدُها قلبي مني***لو كان الخاطف خداها

ومتى ياربي يُفتحُ لي***أبوابَ الجنة نهداها؟

كم فرض صلاة أنستني***مشغول الذهن بذكراها

خالفتُ الله وشرعته***مرتدا صرتُ بمرآها

أنثى لم الق لمطلعها*** بكواكب شعّت أشباها

أو من طين خُلقت ليلى؟***لالا حاشاها حاشاها

إني راض بجهنمها***أوأنتم أم انا أصلاها؟

أنا حرٌ في هذي الدنيا***وكما أختار سأحياها

 

 كما تجد فيها بعض الهبوط أحيانا سببه التكلف في بعض من ابياتها:

لو كان الصخر له شفة***لسعى هيمان وحيّاها

 

أو قوله في عبارة شعرية شاعت في أغنية في ذلك الزمن النائي(صياد رحت أصطاد صادوني):

حاولت الصيد فصادتني***لتزيد رصيد ضحاياها

 

أو الأبيات التالية، التي تقترب من الحس العامي ، دون خطأ في البناء أو خلل في المعنى، سأذكرها على غير تسلسلها، كما أود أن أشير الى كثرة تكرار المفردات في عروض الأبيات من أجل التساوق الصوتي في أكثر من موضع:

ما مرت من قربي يوما***إلا صحت الله الله!

يا لوّامي فيها حسدا***ليلى النجفية أهواها

لو أنسى من أخذت عقلي***وجُننت بها لو انساها

إكفوني شر ملامتكم***ما جدواها ما جدواها

 

 ومن الطبيعي جدا أن يكون الأمر كذلك نظرا لطول القصيدة فقد بلغت ثمانية وثلاثين بيتا، إذ أراد الفتى عبد الإله أن يبين طول نفَسه الشعري، وتمكنه من الإداء الشعري، وقد كان له ذلك، وقد ثمّن الجمهورُ عاليا هذه القصيدة بمثل ما ثمّنها الأساتذةُ وحصل على اعتراف بشاعريته، التي نهض بها الى مديات عالية من الشعر الثوري والإجتماعي الذي أصبح ميزة له من بين شعراء جيله.

أود أن اشير الى مسألة مهمة، وهو لجوء بعض الأدباء الى مراجعة نتاجاتهم التي كتبوها أيام الشباب ومحاولة تغييرها نحو الأحسن في طبعات لاحقة بعد اغتناء تجاربهم، ظنا منهم أن ذلك سيرفع رصيدهم، وأجد أن في ذلك خطأ كبيرا جدا، ذلك أن أي نتاج هو انعكاس لمرحلته الزمانية، وهو تعبير عن المرحلة التاريخية لتطور صاحبه ذهنيا وفنيا عبر تعاقب السنين وما تحمله من تجارب تصبح ملكا للمتلقين، فحَريٌ بالإنسان أن يكون أمينا لتاريخه صادقا مع ذاته ليكون صادقا مع الآخرين، يقدم تجربته كما هي وتحتفظ بأهمية تطورها بمنظور زمني، مما يفتح الطريق أما الأجيال لتقدم تجاربها بصدق وأمانه. وهذا ما فعله شاعرنا الياسري الذي حافظ على قصيدته كما ولدت في ذلك الزمن البعيد..

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2065 الثلاثاء 20 / 03 / 2012)


في المثقف اليوم