قضايا وآراء

تحليل ونقد الظاهرة الكردية في العراق (1- 8) / ميثم الجنابي

التي عادة ما تلازم أحلام الأقليات القومية المتأزمة، ووضعها على محك الواقع وإشكالاته الفعلية، فإنها تبدأ باتخاذ صورتها الحقيقية. وقد لا تكون هذه الصورة جلية في البداية، لكنها تأخذ مداها الفعلي مع مرور الزمن. وهو الشيء الذي يمكن رؤيته على مثال "التحالف الكردستاني". وهي عبارة تحتوي منذ البدء على خلل لا معنى له في العراق. كما انها لا قيمة لها بالنسبة لآفاقه المستقبلية. وعموما أن "القضية الكردية" لا قيمة لها بالنسبة للعراق، إلا من حيث كونها "قضية". وهي قضية بحاجة إلى إعادة تأسيس فكري وسياسي من اجل استعادة العراق لهويته التاريخية الثقافية، خارج إطار الصيغة المفتعلة "للعملية السياسية" التي جعلت من قوى مغتربة وغريبة عليه "الاشتراك" في عرقلة تكامله الطبيعي

فقد سبق وان عرقل تطور العراق الطبيعي الصراع الأهوج والدموي للراديكاليات الشيوعية والبعثية وتراث الدكتاتورية البعثية الصدامية. أما الحركات القومية الكردية فهي الصدى الباهت والمشوه لهذا التشوه السياسي الذي أصاب العراق على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين، وما زال ساريا لحد الآن.

لكن إذا كان المسار التاريخي والانعطاف الهائل الذي يجري حاليا في العراق قد سحق بدون رحمة الشيوعية والبعثية بوصفهما تيارات متناحرة بذاتها وفيما بينها، ومن ثم لا علاقة لهما بالرؤية العراقية (الوطنية العامة والعربية)، فان الأمر يختلف نسبيا بالنسبة للحركات القومية العرقية الكردية، التي بقت تقف بصلابتها الجافة خارج إطار التاريخ العراقي. وهو الشيء الذي نعثر عليه في اغتراب فكرة العراق و"كردستان"، وكذلك في الخطاب الدعائي والأيديولوجي المتخلف الذي عادة ما يميز أنصاف المتعلمين للحركات القبلية الجبلية. وهي أمور بحصيلتها تجعل من "التحالف الكردستاني" "كردستانيا" أي هلاميا بحد ذاته ولا علاقة له بالعراق.

ومن هذه الحصيلة المتراكمة جرى صنع "الانتصارات" الكردية بأثر الغزو الأمريكي. مع ما ترتب عليه من صعود الأوهام التي عادة ما ترافق "زمن الغنيمة". وفيها ومن خلالها تتبين نفسية وذهنية "التحالف الكردستاني" باعتباره تحالف عصابات هش. مع ما فيه من شر كامن بوصفه الصيغة الملازمة للتيارات العرقية المترعرعة بتقاليد القبيلة والجبل.

فمما لا شك فيه أن "التحالف الكردستاني" هو تحالف عصبيات متناحرة. من هنا استعداده للوئام والخصام على قدر الغنيمة. وهي الصفة التي ميزت كل أعوام "النضال الكردستاني" للحصول على فتات المركز، بوصفها الحالة التي كانت تميز أيضا اغتراب السلطة والدولة العراقية وضعف تكاملها الوطني والاجتماعي. وبرز هذه الخلل بوضوح بعد الإطاحة بالصدامية.

فقد كشف سقوط الصدامية أيضا عن حقيقة القوى وآفاقها. انه كشف أيضا عن حقيقة الحركات القومية الكردية، بوصفها حركات عرقية منغلقة. بمعنى كشفها عن الحقيقة القائلة، بان "القضية الكردية" في العراق هي كردية خالصة، أي لا علاقة جوهرية لها بالتاريخ العراق، ومن ثم لا علاقة لها بمستقبله.

كان أكراد الجبل وما زاولوا على هامش التاريخ العراقي. أو بصور أدق ليس لهم علاقة صميمية به. وفي هذا يكمن سر "الصعود" المتقطع "للقضية الكردية" في العراق، وتحولها إلى مجرد جزء من تذبذب تاريخه السياسي. من هنا استعدادها الدائم لخيانة مصالحه الكبرى بوصفه السبيل المعقول للحصول على "حقوق قومية".

بعبارة أخرى إننا نقف أمام اغتراب ذاتي فعلي للحركات القومية الكردية عن العراق. وهو أمر جلي حالما نتتبع نوعية "خطابها السياسي"، أي خطابها الدعائي البدائي والفج. وهو "خطاب" مثير للغثيان. وكل ما يقال ويكتب يمكن جمعه بثلاث أو أربع أشياء هي الكراهية غير المحدودة للآخرين، والعنجهية الفارغة، وانعدام الروح الاجتماعي والوطني والإنساني، والتعصب العرقي السقيم. 

والحصيلة، إننا نقف أمام حالة تجبر المرء على ألا يرى في معالم الحركات الكردية شيئا أكثر مما يراه في الحركات القردية. إن ذلك لا يعني بالطبع، أن الحركة الكردية حركة قردية، ولكنها تحتاج دون شك إلى المرور بصراع ذاتي تاريخي طويل وعميق مع النفس أول وقبل كل شيء من اجل البقاء والارتقاء بمدارج النفس الإنسانية.

وقد كشفت سنوات ما بعد الاحتلال عام 2003 ، أي بعد "دخول" الحركات القومية الكردية إلى بغداد عن مستوى اغترابها الفعلي عن قيم الاجتماع السياسي والوطني. لقد كشف عما فيها من غرابة واغتراب مميز للحركات العرقية الضيقة والبدائية. لقد أصبح "الهمّ الكردستاني" وراء "التحالفات" و"الدستور" و"القوانين" وشراء الذمم بأموال العراق المسروقة.

لقد كشفت هذه الفترة الوجيزة عن كمية ونوعية الانحطاط الهائل في هذه الحركات التي أصبحت شخصياتها ورموزها ومواقفها مثيرة للغثيان والتقزز. وهي حالة سبق وأن وصفتها بعبارة "أفول الزمن الكردي" في العراق. بمعنى انكشاف كل الأوهام الكبرى للأقوام الصغرى في مجرى الصراع المريرمن اجل بناء التاريخ العراقي السليم.

فقد كشفت هذه الفترة القصيرة عن حقيقة الحركات الكردية بوصفها احد المصادر الكبرى للخلاف والخلخلة والتحلل الوطني. وهي صفات تراكمت في مجرى الاحتلال وتعري الدولة المركزية وضعفها. وهو مؤشر بحد ذاته على اغتراب القوى القومية الكردية عن العراق التي وجدت في حالة الخراب ضالتها. واعتقدت بوحي أوهامها الصغيرة، بان التحلل والخراب هو مصدر القوة والبقاء. وقد يكون الأمر كذلك، إلا انها قوة نسبية وعابرة ووهمية ومستحيلة في نفس الوقت. فالعراق قادر على الدوام على إعادة بناء ذاته. وهي قدرة محكومة بتاريخه الإمبراطوري وثقافته العريقة. من هنا صعوبة رؤيتها بالنسبة للأقوام الصغيرة المغلقة.

إن الأقوام الصغيرة المغلقة هي بقايا لم تكتمل. من هنا بقاءها وحيويتها فقط ضمن الكيانات المغلقة والعمل بمعاييرها. وهو السر القائم وراء المحاصصة و"التوافق" و"التحالفات الرباعية" وغيرها. بينما تسير الحركة الاجتماعية والسياسية العراقية بمسار آخر. وهو ما لا يمكن للعصبيات الكردية رؤيته. وذلك لأنها تنظر دوما بعيون دامعة من "التحدي" والشراسة المزيفة "للأعداء". وكل ما حولها وفيها أعداء. وليس مصادفة أن يقول الأكراد بأنه لا صديق لهم غير الجبل! أي الحجارة الصماء. وهي عبارة تكشف عن طبيعة الاغتراب الثقافي عما يمكن دعوته بالجمعية الإنسانية. ومن الممكن رؤية ذلك في سلوك الطالباني والبارازاني بين الحين والاخر، أي كل ما يكشف بصورة كلاسيكية عما هو كامن في أعمق أعماق النماذج التقليدية للأقليات العرقية المغلقة. بحيث تتبخر بين سويعة وأخرى كل "الوطنية" و"العراقية" لتظهر الكوامن الدفينة على حقيقتها بوصفها تمثيلا لعصبية حزبية وقومية عرقية محلية صغيرة.

إن زمن العصبيات الكردية في العراق يكشف عن أن وحدتها في "التحالف الكردستاني" هي وحدة المزاج الجبلي والقبلي تجاه الغنائم. وليس مصادفة أن يكون "الإجماع الكردي" على "مادة دستورية" مسروقة في زمن الاحتلال. إذ تحول الدستور المثقوب بالمادة 140، بوصفها مادة سياسية عنصرية انفصالية مسروقة لا أساس تاريخي ولا شرعي ولا وطني فيها إلى "مقدسها" الوحيد. وفيها ومن خلالها تتكشف حقيقة الأكراد في العراق بوصفهم قوة غريبة ودخيلة عليه. مما يجعل من الحركات القومية الكردية (الطالبانية والبرازانية) حركة تحلل وطني في العراق.

إن الخطأ التاريخي والاستراتيجي للقوى العراقية والعربية بشكل خاص، من وجهة نظري، كانت تقوم في السماح لدخول القوى العرقية الكردية "للعملية السياسية". إذ كان من الأولى الإبقاء عليها عند حدود "الخط الأزرق" فقط. وبالتالي الاهتمام بإعادة بناء الدولة العراقية على أسس طبيعية بعيدة عن المحاصصة الطائفية والعرقية التي كانت تستجيب للرؤية القردية، أي غير الاجتماعية العقلانية المميزة للأقليات العرقية المغلقة.

إن الأقلية الكردية في اغلبها وأجيالها الحالية بالأخص، أقلية عرقية عنصرية مغلقة وفاقدة للعقل الاجتماعي والوطني العراقي. أنها تعيش بمعايير الغريزة الجبلية. من هنا فان المهمة المطروحة أمام العراق تقوم في تأسيس إمكانية النظر إليها عن بعد. فالحركة الكردية بحاجة إلى المرور بمراحل تاريخية طويلة من اجل الارتقاء إلى مصاف العقل الاجتماعي والوطني. وهي في اعتقادي ليست مهمة العراق. مما يفترض بدوره من العراق العربي (بالمعنى الثقافي) مساعدة الأكراد للخروج منه والعيش مع النفس.

بعبارة أخرى، إن المهمة تقوم في كيفية تحييد هذه الحركات ومن ثم إخراجها اللاحق من العراق بطريقة شرعية. الأمر الذي يتطلب جملة إجراءات

ضرورية وهي:

1- إرجاع الحركات العرقية الكردية الانفصالية إلى حدود ما قبل الاحتلال الأمريكي.

2- قطع المساعدات المالية من المركز.

 3-البدء بحوار حول كيفية ونوعية الفصل بين الطرفين.

إن العراق ليس بحاجة إلى "قضية كردية". انه بحاجة إلى إعادة تأهيل ذاتي بعيدا عن إفرازات الأقليات العرقية والأقوام المغلقة.

إن مشكلة الوعي السياسي العراقي الوطني تقوم في كونه لم يحسم لحد الآن مع نفسه الحقيقة القائلة، بان الأكراد لا علاقة لهم بالعراق لأنهم لم يكونوا في يوم من الأيام عراقيين بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. إنهم خارج صيرورته التاريخية وكينونته الثقافية. وهذا بدوره ينبغي أن يرفع من شأن إحدى المرجعيات السياسية المستقبلية بالنسبة للعراق وهي: أن الانتماء للعراق فضيلة وامتياز. وبالتالي ينبغي للعراق أن يجعل من هذه الحقيقة بديهة سياسية عبر إعلان ضريبة وطنية جديدة لمن يود الدخول إليه والبقاء فيه. بمعنى أنه هو الذي ينبغي أن يقرر ما هي الشروط التي ينبغي الاتصاف بها من اجل حمل لقب العراقية. بمعنى جعل العراقية أولا وقبل كل شيء التزاما ومسئولية تجاه العراق ككل.

أن هذا الاستنتاج السياسي يهدف أساسا إلى إعادة النظر النقدية الجدية العقلانية والواقعية، من اجل توجيه القوى صوب توسيع مدى الحرية الفعلية والتطور الاجتماعي والارتقاء الثقافي، خارج إطار وتقاليد الاحتراب القومي. وسوف أحاول البرهنة عليه من خلال تحليل ونقد واقع وتاريخ الحركة القومية الكردية داخل العراق بوصفه أيضا الوجه الآخر لنقد الحركة القومية العربية وتقاليد الراديكالية السياسية العراقية التي حللتها في كثير من الدراسات والأبحاث والكتب المخصصة لهذه القضية.

***

  

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2066 الاربعاء 21 / 03 / 2012)


في المثقف اليوم