قضايا وآراء

تحليل ونقد الظاهرة الكردية في العراق (2-8) / ميثم الجنابي

سقوط الدكتاتورية الصدامية لم يكن في الواقع سوى صعودا للفكرة العرقية، أي سقوطا غير مباشرا. وتلازمت هذه النتيجة بدورها مع الانحراف الذي ميز تاريخ الدولة العراقية الحديثة. لكنه يعكس في الوقت نفسه واقع الانحطاط الفعلي في مواقف الحركات القومية الكردية من الوطنية العراقية. بعبارة أخرى، إن صعود الفكرة العرقية هو الوجه الآخر لسقوط الفكرة القومية الكردية. ويجد هذا الانحدار تعبيره وانعكاسه في ضعف أو انحطاط الفكرة الوطنية (العراقية) فيها. وتشير هذه الحالة إلى طبيعة ومستوى الخلل الفعلي في الفكرة الوطنية العراقية بشكل عام عند الأغلبية.  

إن «ارتقاء» الفكرة القومية الكردية صوب المكونات والنماذج العرقية هو أيضا النتاج الملازم للجهل بطبيعة الفكرة الثقافية في الفكرة الوطنية العراقية. من هنا ليس بإمكان الفكرة العرقية القومية أن تؤدي بعد مائة سنة من «النضال المرير» إلا إلى مرارة شبيهة بتلك التي تذوقها عرب العراق من صدامية «ثورية» «علمانية» «قومية» «تحررية» «وحدوية». وهي نتيجة يصعب الآن تصورها من جانب أولئك الذين يمرون بمرحلة الطفولة أو المراهقة القومية. إلا أن التاريخ يجبر بما في ذلك اشد الناس جرأة وحرية على الخضوع للفكرة القائلة، بان من الممكن تجاهل التاريخ ونتائجه والشك بإمكانية التعلم من عبره، لكنه سوف يعاقبهم على فعلتهم هذه بالضرورة!! ولا تعني استعادة تجارب الفشل أو إعادة تجربتها من جديد سوى عدم الاستفادة من تجارب الماضي وهو عين الغباء، أو الاستفادة منها لمصالح جزئية وعابرة وهو عين الحماقة. أما البقاء ضمن دوامة الغباء والحماقة، فأنه لا يصنع حكمة!! ويمكننا العثور على هذه الحالة عند اغلب القوى السياسية "العراقية" بأشكال ومستويات متباينة. مما يشير بدوره إلى عدم النضج السياسي والوطني. وعموما يمكننا القول، بان كثرة الغباء ليست مؤشرا على أصالة، لكنها تحتوي دون شك على بلادة متأصلة. وهي البلادة الناتئة في جهل مختلف القوى القومية لطبيعة الهوية العراقية وقيمتها الفعلية بالنسبة لرقي القوميات فيه جميعا، بما في ذلك بالنسبة للأكراد.

غير أن دراما القضية الكردية في العراق، اعرق من ذلك بسبب لا عراقيتها من جهة، وبسبب ضعفها الذاتي من جهة أخرى. وفيهما تراكمت تاريخيا مقدمات الانحراف صوب العرقية، وكذلك بفعل السياسية الهمجية التي اتبعتها السلطات المركزية على امتداد عقود طويلة تجاه الأقليات القومية، وبالأخص في زمن التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية.

وإذا كان نصيب الأقلية الكردية أكثر شهرة فلأنها مازالت الأكبر من بين الأقليات القومية في العراق. فعندما نقوم باستقراء تاريخ العراق الحديث، فإننا نرى بأن «القضية الكردية» كانت إحدى قضاياه الملتهبة وقت السلم والحرب والصعود والهبوط. إلا أنها تستفحل بشكل أشد مع كل انعطاف حاد وانقلاب مفاجئ في تاريخ الدولة والمجتمع. وتشير هذه الظاهرة إلى أن القضية الكردية اقرب إلى «المرض» منها إلى قضية حيوية بالنسبة لتفعيل الدولة ومؤسساتها. غير أن ذلك لا يعني مسئولية الأكراد الذين جرى حشر بعض منهم بصورة اصطناعية (واقصد بذلك الجزء الشرقي من شهرزور التاريخية، أي منطقة السليمانية. مع ان لهذه القضية تعقيدها التاريخي والسياسي والجغرافي الخاص أيضا) في بلد لا علاقة صميمية لهم به بالمعنى التاريخي والثقافي والقومي. لكن هذا الحشر الذي شكل بمعنى ما التعبير الطبيعي عن ضعف الأكراد التاريخي والقومي قد أدى إلى نتائج إيجابية كبرى بالنسبة لهم في مجال الحياة القومية والمدنية. بمعنى الاشتراك النشط نسبيا في الحياة المدنية، ومن ثم الانتقال من ثقافة الجبل إلى ثقافة السهل، ومن البداوة إلى المدينة. ويمكن مشاهدة نتائجها العديدة في مختلف مجالات الحياة، بما في ذلك انتشارهم في المدن العراقية حتى أقصاها جنوبا، وارتقائهم التدريجي من مهن الفئات الرثة إلى مختلف المهن الرفيعة ومراكز الدولة. ويعكس هذا الانتقال والتحول أولا وقبل كل شيء الاندماج التدريجي والصعب بالحياة المدنية المعاصرة. وهو اندماج يعود الفضل التاريخي فيه للعراق كدولة. وهو أمر جلي في حال إجراء مقارنة سريعة بين واقع الأكراد قبل «دخول» الدولة العراقية والآن، وبين حالهم في العراق من حيث مستوى الرقي الثقافي والمدني وتطور الوعي القومي مقارنة بمناطق سكنهم الأصلي في إيران وتركيا الحالية.

ولا يفترض هذا الواقع مطالبة الأكراد بتعويض يقابله، انطلاقا من أن كل ما جرى في تاريخ العراق الحديث هو جزء من تاريخ الدولة. لاسيما وأن تاريخهم في العراق الحديث لم يكن سلسلة انتصارات، بل وهزائم أيضا، وليس مجرد كتلة هائلة من السعادة، بل ومن التعاسة أيضا، كما انه يحتوي على قدر كبير من العزة القومية والمهانة التي تماثلها. وتعكس هذه الحالة واقع وتاريخ العراق الحديث يوصفهم جزء من مكوناته. إلا أن هناك جملة من الوقائع المتكررة في هذا التاريخ توصلنا إلى ما يمكنه أن يكون حقيقة من حيث أبعادها السياسية، ألا وهي «انتفاض» و«مشاكسة» القوى القومية الكردية مع كل انعطاف أو ضعف في الدولة العراقية. مما يشير إلى أن الأكراد لم يندمجوا في بنية الدولة العراقية. بحيث يرتقي هذا التكرار إلى مصاف «القانون». ولعل الأحداث التي لازمت انهيار التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية، التي فسحت المجال للمرة الأولى في تاريخ العراق المعاصر أمام إمكانية بناء أسس الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي بوصفهما الضمانة الكبرى لحل كافة المشاكل على أسس اجتماعية سياسية، تبرهن من جديد على طبيعة الخلل الوطني (العراقي) في الحركة القومية الكردية. ويبرز هذا الخلل بوضوح في سياسة المغامرة والمؤامرة والابتزاز، التي بلغت ذروتها في سيادة نفسية الغنيمة والاستيلاء على الأرض، مع أن مضمون الحركة الاجتماعية الديمقراطية يفترض الارتقاء إلى مصاف تأسيس فكرة الشرعية والمواطنة. فهي الفكرة التي تضمن للجميع حقوقا متساوية، باعتبارها الغاية النهائية من كل نضال حقيقي وإنساني.

لكننا نقف أمام ظاهرة بقاء الحركة القومية الكردية في العراق ضمن شروط تكونها التاريخي الضيق، الذي يدفعها أكثر فأكثر صوب التجوهر العرقي. ويشير هذا بدوره إلى قضيتين،

  • الأولى وهي هيمنة البقايا العرقية في الفكرة القومية الكردية، وضعف بل وانعدام التأسيس العقلاني للفكرة القومية الكردية،
  • والثانية هي ضعف الاندماج السياسي والثقافي والاجتماعي بالعراق.

وقد تكون الأساليب التي جرى تجريبها في انتخابات 2004 واستعمال نتائجها كما هو جلي في «قائمة المطالب» الكردية تعكس تفاعل هاتين القضيتين في «تكتيك» و«إستراتيجية» النخب القومية الكردية. فعوضا عن العمل بمعايير الدولة الشرعية الديمقراطية والمجتمع المدني، نرى «إنذار» المطالب «التي لا يمكن التنازل عنها» مثل تقاسم الثروة والحصول على مدن عراقية وأراضي وما شابه ذلك، بمعنى بروز المضمون الفعلي والدفين لنفسية الغنيمة. وهي مواقف اقرب ما تكون إلى نفسية الشحاذين منها إلى سلوك سياسي لنخبة وطنية. وبالأخص حالما يجري الحديث عن «مناصفة» بالثروة!! بين 13%  (او أقل من ذلك) مع البقية الباقية 87%. (أو أكثر). ولا يقبل بهذه المناصفة عقل سليم ولا فطرة سليمة ولا ما دعاه البارازاني في «مقالته» المنشورة بعد أشهر من ذلك في الواشنطن بوسط من «أن الأكراد براغماتيون ومعتدلون»!! إذ تتسم هذه الصيغة بقدر كبير من الفجاجة في التعبير عن «روح» الاعتدال والنفعية "للأكراد البراغماتيين والمعتدلين"، كما لو أننا نقف أمام شعب فوق التاريخ ومتوحد ومتكامل في كل شيء!! أما في الواقع فإنها تشير إلى نفسية «أهل الجبل»، بمعنى الطيران بعيدا عن إشكاليات وتعقيدات المسار التاريخي لحياة الدولة ورهانات المستقبل. إضافة إلى ما فيها من ابتعاد عن ابسط مقومات الاعتدال والنفعية اللتين تفترضان ليس «المطالبة» و«الأخذ» بل والعطاء أيضا. أما العبارة التي قالها بهذا الصدد «نحن نعلم بان لدينا حقوقا، ولكننا نفهم أيضا بان لدينا مسؤوليات. نحن وطنيون، ولسنا قوميين انتحاريين»، وأن اتهامهم بالانفصال هو نتاج «النظرة الشوفينية التي ترى الشرق الأوسط منطقة متجانسة، و ترفض قبول التنوع الموروث»، فإنها لا تعني شيئا بمعايير الرؤية الوطنية العراقية الفعلية، وذلك لأنها جزء من ممارسة اللعبة «البراجماتيكية».

إن الرؤية الوطنية الحقيقية هي من طراز ارفع وأسمى مما في مقاييس الرؤية النفعية أيا كان مستواها. وذلك لان المعايير النفعية تبقى في أفضل الأحوال جزء من معترك الصراع السياسي الجزئي وليس الوطني. ولا معنى لفكرة البارازاني مما اسماه «بإعادة ربط كردستان بالعراق» بوصفه دليلا على هذه الرؤية الوطنية. فقد كانت «كردستان» مكبلة بالعراق وليس مربوطة به. بمعنى إن «استقلالها» كان مربوطا بالحبل السري العراقي. وفيما لو تركنا الجدل العلمي الدقيق حول مضمون هذه العبارات وغيرها مثل ما اسماه البارازاني بضرورة أن يستوعب «الشرق الأوسط جميع سكانه ولغاته وأديانه»، بوصفها مغازلة خفية لإسرائيل (وهذه ليست فرضية بل موثقة بما في ذلك فيما نشرته الموساد والدعاية الإسرائيلية أيضا)، فإننا نقف أمام تضخيم يتصف بالسذاجة للدور الكردي في المنطقة. وتتحدد اغلب مقومات هذه السذاجة بالضعف الفعلي للأبعاد الوطنية العراقية في الفكرة القومية الكردية المعاصرة وسلوكها العملي. كما نراها في قوله «لقد اخترنا طريق الالتزام بالتعهدات لأننا، مثل الولايات المتحدة(!!)، نريد أن ينجح العراق في تجنب عودة رعب الماضي. لذلك كنا منهمكين في السياسات الوطنية العراقية». أو أن يقول بان «رؤية بوش للديمقراطية» التي تعطي للجميع «الكرامة والحرية» هي الفكرة والطريقة التي «يشاطره فيها الأكراد». وان «الولايات المتحدة لم تتردد أبدا في مساعيها لمساعدة العراقيين على بناء ديمقراطية تؤدي إلى الاتفاق في الرأي والإجماع. لقد دفع الشعب الأمريكي السخي دوما ثمنا مأساويا، حياة أفضل رجالهم ونسائهم، من اجل رفع راية الحرية والديمقراطية، وهي التضحية التي نشعر بامتنان عميق لها». هكذا وبكل اختصار!! إننا نقف أمام تجاهل مطلق للشعب العراقي وتضحياته، بما في ذلك من سياسة اللعبة الأمريكية على امتداد عقود طويلة، والحرب العراقية الإيرانية، والعراقية الكويتية، وقمع الانتفاضة الشعبانية والحصار والغزو الأخير، التي جلبت للعراق وبنيته التحتية والروحية خرابا مأساويا. لقد تحولت الولايات المتحدة بين ليلة وضحاها من شيطان مارد إلى مصدر الحرية والكرامة والديمقراطية والنزاهة وتقديم أغلى أرواح أبناءها من اجل حرية العراقيين والديمقراطية والكرامة فقط! ولا شيء آخر!! وهي رؤية «معتدلة وبراجماتيكية» تتصف بقدر هائل من الرياء السياسي والعبودية المجانية. والقضية هنا ليست فقط في أن الإمبراطوريات لا تحب المنافسين ولا الأكفاء فحسب، بل ولا تمنح حبها للآخرين إلا بوصفهم تابعين أو عبيدا، أي تبدي الكرم الممزوج بالازدراء! والإمبراطوريات عموما لا تحب ولا تحترم غير نفسها ومصالحها. بما في ذلك أكثرها وأكبرها ديمقراطية. وان مجرد إلقاء نظرة على تاريخ الولايات المتحدة وسياستها الواقعية يوصلنا إلى إدراك هذه الحقيقة. أما الارتقاء إلى مصاف «الحليف»، فانه يفترض الارتقاء إلى مصاف القدرة العلمية والاقتصادية والتكنولوجية والثقافية القادرة على جعل الدولة تقول أحيانا كلمة «لا» أو «كلا» أو حتى «نعم». أما الحركة القومية الكردية فان ما يراد منها هو مجرد الإيماء بآيات الإجلال والتعظيم. وهو شيء يشم المرء رائحته «الزكية» من هذا السيل العارم لكلمات المديح والإطراء المتناثرة في «اعتدال وبراجماتيكية» الأكراد الذين يمثلهم خطاب البارازاني.

لكن حالما ننظر إلى هذه المواقف ضمن معايير تقييم الفكرة القومية الكردية من العراق والانتماء الوطني، فإنها لا تتعدى في الواقع أكثر من «تكتيك» الرؤية «المعتدلة» والرياء «النفعي» المميزة للنزعة الانفصالية الكردية. وهي نتيجة يمكن رصدها في التربية الدفينة للحركات القومية الكردية وبروزها «السياسي» في عبارات الابتزاز الفارغة التي تملأ مواقف الحركة البارازانية وخطابها السياسي على امتداد عقد من زمن "الرجوع إلى العراق". وتبرز هذه المواقف بوضوح مع كل «انتصار» و«تقدم» صغير في «تجسيد الأحلام الكردية». واكتفي هنا بالإشارة إلى موقف واحد من بين عشرات المواقف المشابهة التي تصب في نفس الاتجاه، ألا وهو القول، بان ما «يمنع» الأكراد عن الانفصال عن العراق هو «الظروف غير المناسبة»، التي يكررها في "كل مناسبة" غير مناسبة!! فقد قال مسعود بارزاني في لقاء جمعه بعدد من ممثلي الطلبة والشباب بمنتجع صلاح الدين، بان السبب القائم وراء عدم إقدامه على إعلان الدولة المستقلة هو انتظار ما تفرزه التطورات اللاحقة التي «قد تقلب الموازين والوقائع»! وقال بهذا الصدد «أود أن أبلغكم هنا وكونوا على ثقة بأننا نتطلع إلى اليوم الذي نعلن فيه من داخل البرلمان الكردستاني دولتنا المستقلة ليتحقق حلمكم هذا»! لكنه استدرك لاحقا بالقول «إذا عدنا لما قبل عشر سنوات سنجد أن ما تحقق الآن قد لا يكون الإنسان حلم به، ولا ندري ماذا سيحدث بعد عشر سنوات من الآن من تطورات قد تقلب الموازين والوقائع». و«أن ما تحقق في الدستور العراقي لنا كشعب كردي تعتبر مكاسب كبيرة رغم أنها لا تلبي جميع طموحاتنا. وما تحقق كان بفضل من دعم الولايات المتحدة والدول الأوروبية المتحالفة معها وكذلك بدعم الأمم المتحدة». و«أن هذه المكاسب مثبتة في الدستور، وهي أضمن لنا من إعلان دولة مستقلة قد لا تحظى بهذا الدعم الدولي الموجود الآن وبالتالي قد نجازف في أمر نفقد من خلاله ما تحقق لحد الآن من الدعم الدولي». وفي مجال تحالفاته السياسية اللاحقة، فانه ربط ذلك بما اسماه بموقف «الكتل والقوى من الفدرالية والديمقراطية والتعددية والمطالب الكردية في المناطق المتنازع عليها مثل كركوك وخانقين والسنجار وغيرها».

إننا نقف أمام صيغة «كلاسيكية» للنزعة الانفصالية المراوغة والمليئة بنفسية المغامرة والمقامرة والمؤامرة، باختصار بكل الرذائل السياسية التي لا مخرج لها من حيث الجوهر سوى الخيانة الفعلية للفكرة الوطنية. فالعراق بالنسبة لهذا النمط من التفكير السياسي العرقي هو أما مجرد بقرة حلوب، وأما أداة لبلوغ أهداف خاصة وأما «شريك» للسرقة!! وفي مجملها تعكس حقيقة الموقف غير الوطني للتيار البارازاني الذي اتصف تاريخيا بالاستعداد للاتفاق مع مختلف الأطراف الأجنبية والخارجية في صراعها مع العراق وضد مصالحه الوطنية العليا. وذلك لان القوة الوطنية الحقيقية ينبغي أن تضع على الدوام فرقا بين صراعها وحتى عداءها للسلطة السياسية القائمة وبين المصالح الوطنية الكبرى للدولة والوطن. إلا أن عبارات البارازاني تكشف حقيقة نوايا ونمط تفكير هذا التيار. ففيها نقرأ فقدان الرؤية الوطنية العراقية بل ومعاداتها في عبارته القائلة:«وما تحقق كان بفضل من دعم الولايات المتحدة والدول الأوروبية المتحالفة معها وكذلك بدعم الأمم المتحدة». وفيما لو أزلنا كلمة «الأمم المتحدة» بوصفها عبارة دبلوماسية، وكان بإمكانه أن يقول «إسرائيل» لولا الفضيحة، فان ذلك يعني ليس فقط تجاهل العراقيين العرب وغيرهم في الصراع ضد الأنظمة الدكتاتورية من اجل صنع عراق ديمقراطي يتمتع به الجميع بحقوق متكافئة، بل واستهجان لهم أيضا. ويعبر هذا الاستهجان عن نفسية الغنيمة وليس الشراكة الوطنية. وهي فكرة جلية فيما اسماه باشتراط التحالف مع القوى التي تستجيب لمطالبه «بالفدرالية والديمقراطية والتعددية والمطالب الكردية في المناطق المتنازع عليها مثل كركوك وخانقين والسنجار وغيرها». لكنه لم يوضح مقابل أي شيء؟ وقد تكون الإجابة مقابل «البقاء في العراق»! إذن لماذا كل هذا الضجيج والدعوة لإقامة الدولة المستقلة. أم أن ذلك يفترض الحصول على «الأراضي المتنازع عليها» بوصفه اليوم الذي يمكنه أن يكون «يوم إعلان الدولة المستقلة من داخل البرلمان الكردستاني»! إذن لماذا هذه المطالب؟ أم إننا نقف أمام نموذج "كوردي" متميز في فهمه للاعتدال والنفعية؟ وهو اعتدال ونفعية مهمتها البرهنة «للحلفاء» الجدد (الأمريكيين) بالاستعداد الدائم لخدمة مصالحهم. كما تعكس هذه النفسية طبيعة الذهنية السياسية للحركة البارازانية التي كان اغلب تاريخها السياسي زمناً للارتماء بأحضان القوى الخارجية. ونعثر على هذه النفسية المستبطنة في عبارة البارازاني القائلة «قد تقلب الموازين والوقائع»، التي تجعل من الممكن «إعلان الدولة المستقلة». وهي عبارة تسقط كل معنى «الاعتدال والنفعية» وفكرة «نحن وطنيون عراقيون» وليس «انتحاريين قوميين».

بعبارة أخرى، إننا نقف أمام خليط غير متجانس من الأفكار والمواقف يعكس بمجمله خلل الفكرة الوطنية العراقية في الفكر القومي الكردي المعاصر، والذي تمثله بصورة نموذجية الأبعاد الدفينة لكلمة «قد تقلب الموازين والوقائع». ويمكن فهم المعنى الباطني لهذه العبارة في الفكرة المباشرة التي طرحها البارازاني مرات عديدة في الفترة الأخيرة والقائلة، بان الأكراد سوف يعلنون استقلالهم في حال نشوب حرب أهلية بين العرب في العراق. وفيما لو أهملنا شرارة «الحرب القبلية» المحترقة تحت غطاء البارازانية والطالبانية بين الأكراد، أي استحالة الاتفاق على «دويلة واحدة» بين الأكراد أنفسهم، دع عنك كل الجوانب الأخرى، فان مضمونها الفعلي يشير إلى طبيعة النقص الجوهري في الفكرة الوطنية عند الحركات القومية الكردية الحالية.

وتعكس هذه «الفكرة» المزاج الدفين للتيار البارازاني. حقيقة أن ذلك ليس معزولا عن الصراع الدفين بين التيار الطالباني والبارازاني، إلا انه يشير من الناحية الموضوعية إلى طبيعة الخلل الفعلي في الرؤية الوطنية العراقية، وصعود الرؤية العرقية والمزاج القومي المشوه، أي كل ما وجد انعكاسه في الاعتقاد القائل، بإمكانية أن تكون الحرب الأهلية في العراق وسيلة بلوغ «الدولة المستقلة» للأكراد. وهو مزاج يعبر عن طبيعة «الاعتدال والبراجماتيكية» البارازانية بصدد الفكرة الوطنية العراقية.

إن ربط إمكانية ما اسماه بالحرب الأهلية بين الشيعة والسنّة، هو تعبير عن نفسية دفينة تعكس النزعة القبلية السائدة في التيارات القومية الكردية الحالية في العراق. بمعنى إننا نعثر فيها على تحريض ومساومة من نوع فاحش. والقضية هنا ليست فقط في عدم معرفة ماهية وحدود «العراق» و«الاستقلال» و«الدولة الكردية» في عبارة البارازاني، بل ولما فيها من جهل بماهية الحرب الأهلية وخصوصيتها وأثرها المحتمل في العراق والمنطقة، ومن ثم بالنسبة لمصير «الدولة الكردية». فالحرب الأهلية، كما هو معروف، هي أولا وقبل كل شيء حرب بلا قواعد. من هنا يصعب تحديد مداها الزمني وحدودها الجغرافية. كما يصعب تحديد أثرها وأساليبها، لان آلية فعلها تفتقد لأية معايير عقلانية وواقعية. أنها محكومة بقواعد الثأر والانتقام. ومن ثم لا تصنع في مجرى اندلاعها سوى قوى همجية غير عقلانية. والحرب تنتهي بالضرورة، ومن ثم فالأكراد بحاجة إلى قوى للاتفاق معها. وعندما تلتقي قوى لا عقلانية من الطرفين فان النتائج المحتملة هي «حرب حتى الرمق الأخير» وما يرافقه بالضرورة من تدخل خارجي دولي وإقليمي بالأخص. وهو تدخل لا يرحم الأكراد أو أي كيان آخر. فالطبيعة لا تحب الفراغ، والمصالح الاقتصادية والسياسية للدول الإقليمية هي اشد عنفا في الظروف التاريخية الحالية من الطبيعة، لان الأخيرة لا تعرف الهمجية، لكنها تعرف الثأر. بينما الدول الإقليمية تعرف الثأر والهمجية بقدر متساو. وهي نتيجة تجعل من المستحيل بالنسبة «للدولة الكردية» المعلنة الابتعاد عن آثارها، بما في ذلك عن آثار الصراع «السني الشيعي». والقضية هنا ليست في ما يسمى بالانتماء السنّي للأكراد، لأنه في الأغلب غطاء دعائي يستعمل عند الحاجة. لكن «الحاجة» في الحرب الأهلية عادة ما تكون لكل شيء. لهذا سوف تستهلك بالضرورة كل شيء بما في ذلك الصواب والخطأ والحقيقي والدعائي. فالحرب الأهلية آلة خشنة لا يمكنها التهام السنة والشيعة العرب، بل والبرازانيين والطالبانيين السنة الأكراد أيضا. أما النتيجة فهي إشراك الجميع في حروب بلا قاعدة، والقاعدة الوحيدة فيها ستكون لنفسية وذهنية «القاعدة» الزرقاوية سابقا وأشكالها المتنوعة الآن، أي لهمجية بلا حدود.

إن همجية بلا حدود تعني في ظروف العراق الحالية همجية عراقية عامة، أي حرب أهلية في عموم العراق. ولا يمكن حينها الاختباء وراء خطوط «المناطق الآمنة». إذ لا أمان آنذاك لأي كان، كما انه لا مصدر لتمويل الأمان والميليشيات واحتياجات الناس العاديين للعيش البسيط من «نفط مقابل غداء». وعندما تتلاشى معادلة النفط والغذاء، فإن المعادلة البديلة هنا هي الشحن العنيف للصراع والمواجهة الإقليمية. ولابد وأن ينتهي هذا الصراع بشكل ما من الأشكال. أما بفوز طرف على آخر أو بطريقة «التوافق»، بمعنى الاتفاق. ففي حالة فوز احد على آخر، فان الفائز يكون بالضرورة مستكبرا وغاضبا ومتلذذا بالانتصار، تحدوه الرغبة الجامحة في القضاء عل كل «خصم» و«غدار» و«خائن» وما إلى ذلك من صور سوف يجري صنعها وتصنيعها وتسويقها بصورة سريعة. وفي حال التوافق والمساومة بين «السنة والشيعة» العرب، فان الأكراد سوف يكونوا الطرف الوحيد في «الغدر» و«الخيانة» و«العداء». وهو الأمر الذي يؤدي أما إلى حرب «أهلية» على مستوى قومي، وهو ما لا تعارضه القوى الإقليمية. على العكس قد تكون أكثر استعداد لتشجيعه ودعمه. كما أنها الرغبة التي سوف تتحمس لها اغلب «الأقليات الكردستانية» إن لم يكن جميعها. وسوف تجعل هذه الحالة من الأكراد القوة الأضعف والأكثر محاصرة. فضعفها التاريخي هو الأشد قسوة في الظروف الحالية من كل تاريخهم الحديث. وذلك لان «التشتت» السابق في المنطقة وصراعاتها الداخلية كان يجعل من الأكراد عموما «ورقة ضغط» أو «ورقة لعب». وتحول بعد الاحتلال إلى ورقة في أيدي أمريكية أمينة! وهو تحول من الشرذمة في المصالح إلى وحدة متينة في الإستراتيجية. ولا علاقة جوهرية بين المصالح الكردية والأمريكية إلا من حيث استعدادها على خدمة «المصالح الحيوية» للولايات المتحدة. وبما أن القوة الكردية ضعيفة بحد ذاتها، وقوية نسبيا في معترك المصالح الإقليمية المتناحرة، فان وضعها كاملة في قبضة المصالح الأمريكية كان يعني إضعافها آلاف المرات قياسا بالسابق. فالولايات المتحدة قوة جبارة، وبالتالي فان ضعف القوى الكردية هو أيضا الوجه الآخر لهذه المعادلة التعيسة.

مما سبق يتضح، بأن الآفاق البعيدة المترتبة على فكرة الحرب الأهلية هي إضعاف شنيع للأكراد وإفقادهم شبه التام لأي إسناد فعلي. مما يجعل منهم قوى قابلة للالتباس بزي «القوى الانفصالية» مع ما يترتب عليه من عنف مركب ضدهم ونشاط إقليمي مشترك للقضاء عليهم. لاسيما وان الحركات القومية الكردية قد «نجحت» فعلا في استعداء دول المنطقة. ولم يبق في الواقع ملجأ لها غير العراق. وفي العراق حرب أهلية! غير أن هذه الصورة المكثفة أعلاه، أي الأقل دموية ومأساة مما سيجري في الواقع في حال نشوب حرب أهلية، كان ينبغي لها أن تثني رجلا عاديا من الحديث بفكرة مثل تلك التي أطلقها البارازاني. فالعاقل يصاب بالدهشة لتصريحات من هذا القبيل. ومن يسعى لبناء دولة ينبغي أن يكون على الدوام حذرا للغاية في الهواجس والوساوس، دع عنك في الكلام والعبارة. وان يكون متحررا تماما من ثقل المفاهيم المبشرة بالحرب الأهلية. وهو تحرر يفترض الارتقاء من مقارنات السياسة المبتذلة والأحداث التاريخية القديمة والمعاصرة إلى آفاق المصالح الواقعية والعقلانية الوطنية العامة. وذلك لان «كردستان» ليس كوسوفو، والعراق ليس يوغسلافيا، والشرق الأوسط ليس وسط أوريا.

إننا نعثر في الأفكار المبشرة بالحرب الأهلية، التي تقدم وقت الضرورة على أنها تحذيرا منها!! هو الوجه الآخر للانحدار والانحطاط العرقي للحركات القومية الكردية. مع ما يترتب عليه من نفسية الابتزاز والحصول على غنيمة. وبالتالي الاضمحلال الفعلي للفكرة الوطنية العراقية فيها.

طبعا أن هذا الانحدار ليس معزولا عن مكونه الذاتي القائم في ضعف التكامل القومي للأكراد. فالأكراد قوم وليس قومية، أي أنهم لم يمروا بعد بتجربة الصيرورة التاريخية المعقدة لفكرة الشعب ثم القومية ومن بعدها للامة، إضافة إلى غياب أو انعدام الدولة وتاريخها الثقافي المستقل. بمعنى عدم وجود قومية دولتية لها تاريخها الخاص المؤثر والفعال في بلورة تقاليد سياسية وثقافية مستقلة وطويلة الأمد على المستوى الإقليمي. وهو ضعف جلي على خلفية كون الأكراد هم من سكان المنطقة ولهم جذور متداخلة مع الفرس والأتراك وقواسم دينية ولحد ما ثقافية مع العرب. ووجد هذا الضعف انعكاسه أيضا في البنية الاجتماعية القبلية والجهوية الراسخة بما في ذلك في الوعي القومي والسياسي المعاصر. وهو ضعف حصل على امتداده في التجزئة السياسية للأكراد في دول عدة من جهة، وتجذر التجزئة الذاتية في «منظومات» مغلقة من جهة أخرى. مما أدى بدوره إلى بلورة اغلب عناصر الاستلاب الثقافي المميز للحركات القومية الكردية الحالية تجاه ارثهم المشترك مع الفرس والأتراك والعرب. وهو نقص متجذر بصورة عميقة في الوعي القومي السياسي الكردي بهيئة عناصر عرقية تصعب معها الفكرة الثقافية للاندماج السياسي، أو الفكرة السياسية للاندماج الثقافي. وفي هذا تكمن عناصر الخلل في الفكرة الوطنية الكردية تجاه العراق.

***

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2068 الجمعة 23 / 03 / 2012)


في المثقف اليوم