قضايا وآراء

البحث عن اليقين العقلي في الثقافة الإسلامية / ميثم الجنابي

لأسسها العقائدية وأصولها الفكرية وقيمها الواقعية والمثالية. لأنها عادة ما تجد في ذلك نتيجة طبيعية لصراع القديم والجديد فيها. وحالما يندمج في نسيجها ما يبدو في مظهره نشازا صارخا، حينذاك يأخذ وعيها المباشر ونفسيتها الاجتماعية بالتوجس والاستثارة، وبالتالي إشراك مؤسساتها وممثليها في صراع حامي الوطيس من أجل الدفاع عن الذات وتحطيم الخصوم. أما استكناه حقيقة ما يجري فيبقى خارج إطار الصراع المباشر. وينبغي أن تهدأ عاصفة الحجاج والجدل لكي تنتأ براعم الاستيعاب الأولية وتقييمه لمجريات الأمور.

فمن المعلوم، أن اللوحة التاريخية لصراع القوى الاجتماعية للأمة الإسلامية لم تكتمل عبر معارك السياسة الحامية ومواجهات الأسلحة الباردة فحسب، بل وفي غمار تطور وعيها الذاتي الأخلاقي. وليس مصادفة أن تتحول معارك الرضى وشرور "الكبائر" إلى العصب الذي آلم الضمير والعقل الإسلامي الأولي.

وكان تتبع علم تاريخ الأفكار (علم الملل والنحل) لفعالية الخلافات الأولية يصب باتجاه تصويرها التاريخي المجرد. وأستثار ذلك في آن واحد ولع التقييم النقدي وإدراك قيمة الحدود الواقعية للأحداث. بحيث أرغمه على تأمل الخلاف والتباين والنزاع والفرقة. ومهد استعداده لقبول الحديث النبوي القائل بحتمية انقسام الأمة، والإغفال النسبي لما في هذا الانقسام من اتفاق داخلي ورضى بالمصير الشخصي الذي دغدغ ضمير الفرق الإسلامية واجبر عقولها على تأمل معاناتها الداخلية وأفعالها، بوصفه تعبيرا عما هو غيب في "لوحها المحفوظ".

إذ لم يعان الوعي السياسي الأولي للأمة الإسلامية من مأزق الخلافات المبدئية، بقدر ما كان يعاني من تهور البحث عن مبدأ للوفاق والإجماع. ولم تكن هذه الظاهرة حصيلة الخلافات الأولى حول الفاضل والمفضول في الخلافة بعد موت النبي محمد، بقدر ما كانت الاستمرار الطبيعي للمبادئ التي حاول إسلام الرسالة (المدنية) غرسه في الاعتقادات والأفعال.

فقد ربط القرآن حقيقة اعتناق الإسلام برضى أتباعه عن الرسول، بينما تحول رضى الله إلى الشهادة الكامنة عن حقيقة الإيمان. وبقيت هذه العلاقة العقائدية بين الظاهر والباطن في طي الواقع، الذي اختزله فعل الرضى المباشر في أقوال المؤيدين والمعارضين. وكان ينبغي لهذه العلاقة والمعادلة أن تنقلب بصورة كلية من أجل أن يجري إدراك حقيقة معناها، أي كان ينبغي أن يصبح الباطن ظاهرا، والظاهر باطنا، والقول فعلا والفعل قولا. وبالتالي تحول الرضى المباشر إلى رضى قلبي، والرضى الإلهي إلى مصدر اليقين والحقيقة. وهي ظاهرة كان يصعب تصور إثارتها للالتباس و"البدع" في الوعي الاجتماعي دون استفحال التجزئة الفعلية لقوى الأمة، التي لا يؤدي الافتراق فيها إلى تغير مضمون الوحدة والجماعة، كما لا تصبح الوحدة والجماعة صك الإدانة للخلاف والاجتهاد. إذ لم يكن الجدل" الأولي في الأمة الناشئة بعد موت النبي محمد عن أفعال القناعة والرضى من وحي الروح الأخلاقي وتنظيره اللاهوتي، بل من هيجان النفس الاجتماعية وتصادم المصالح السياسية. ولعل "حادثة السقيفة" التي رافقت اختيار الخليفة الأول تظهر أولوية اليقين البدائي وثانوية الفعل السياسي. فقد أجاب الأنصار أتباع سعد بن عبادة، بعد خطابه بهم ودعوته لهم بالتمسك بزمام الأمور (الرئاسة)، انطلاقا من أنهم "أحق الناس وأولاهم به"، بعبارة "أن قد وفقت في الأمر وأصبت في القول. فأنت مقنع ولصالح المؤمنين رضا". وردّ الأنصار على المهاجرين بعد اشتداد "الجدل"، بأنهم أحب الناس إليهم وأرضاهم لهم. إلا أن مشكلة "الخلافة" السياسية ظلت عالقة في إحساسهم المباشر. لذا نراهم يشترطون المبادلة سواء بصيغة "منا أمير ومنكم أمير"، أو بصيغة "اليوم لكم وغدا لنا"، باعتباره أساس المبايعة والرضا. لهذا أجابوا أبا بكر بعبارة "فلو جعلتم اليوم رجلا منا ورجلا منكم بايعنا ورضينا". بينما رد عمر بن الخطاب (ت - 24) هذا الاقتراح باعتباره حلا لا يمكنه "أن يرضي العرب". وأدى هذا الجدل في نهاية المطاف إلى كسر وحدة الأنصار"القبلية" ببروز بشر بن سعد، الذي حاول البرهنة على أن الأنصار ما أرادوا من سابقتهم في الجهاد والدين "إلا رضا الله وطاعة نبيه والكدح للأنفس". ذلك يعني أن الجميع اتفقوا على ضرورة الرضا ولكن في خلاف. والقضية هنا ليست في تعقيد الكلمة بل في محتواها السياسي المختلف. فقد تجاوز الجدل السياسي الأولى حدود "السقيفة" والمدينة إلى "جزيرة العرب" ككل، كما انه أبدع فكرة الرضا والمبايعة ضمن الخلاف. وبهذا يكون قد أعطى للخلاف أبعاده الأخلاقية والروحية من خلال إشراك الأفراد والجماعة في فعل الرضا والمبايعة، أي تقديم الطاعة السياسية الحرة والتلذذ بسعادتها الأخلاقية.

ونعثر في ما سبق قوله على مسار الخطى الأولية لتثوير الوعي وبراهين الأقوال والأفعال. فإذا كان جدل السياسة قد فتح الأبواب أمام الحل السياسي، فإن الحل السياسي قد أوصدها أمام فوضوية الثأر المعنوي. مما أعطى للوعي الديني السياسي اللاحق في محاولاته تهذيب وجدان الخلاف في الخلافة، صياغة البديهة السياسية القائلة "من رضاه النبي لديننا رضيناه لدنيانا". وهي فكرة تحتوي ليس فقط على التبرير "السني" لما جرى، بل وعلى إدراك حقيقة البراعم الخفية الناشئة للعلاقة بين الدين والدنيا في ظل صيرورة المؤسسات الحكومية وملامح السلطة المستقلة. وكان ينبغي لهذه العلاقة أن تمر عبر مخاض الصراع العنيف من أجل أن تتحول إلى بديهة مقبولة للجميع.

ولعل الخروج على الخليفة عثمان بن عفان (ت 35) النموذج الأمثل لهذا المخاض. فقد أحتك الضمير الإسلامي للمرة الأولى بواقع انتهاك "الحدود" الإسلامية. ومن الصعب القول، بأن القوى المنتفضة آنذاك قد طابقت في وعيها "النظري" بين مفاهيم الضمير والدين، وبين الحدود والدنيا، إلا أن وعيها "العملي" قد سار في هذا الاتجاه. وهي نتيجة استمدت وجودها التاريخي والفعلي، العقلي والوجداني من قوة التضاد الفاعلة في صيرورة السلطة نفسها. فالسلطة (والدولة) هي ميدان انفصام والتئام الدين والدنيا. وفيها يمكن تمثل "روح" الإسلام ومعاداته. فإذا كان موت النبي محمد قد قطع صلة الوصل "بالوحي الإلهي"، فإنه أبقى على شكله التاريخي في النص القرآني عرضة لوحي الصراع وتطور الروح المعرفي المتراكم في مجرى التجارب الاجتماعية. لذا نرى أبو بكر (ت - 13) يواجه العرب المسلمين في خطبته الأولى بعد البيعة، بالإشارة إلى فكرة أن الله فد بعث النبي بالحق وللتأليف بين قلوبهم والتمكين لهم من دينهم. من هنا مطالبته إياهم "بحسن الهدى ولزوم الطاعة". وتمم ذلك بكلماته الشهيرة القائلة "استخلف الله عليكم خليفة ليجمع به ألفتكم وكلمتكم". ولم يغفل موقعه الإسلامي بينهم باعتباره أحدهم. وأكد على أنه ولي عليهم وليس بخيرهم، فإن أحسن فليتبعوه وإن أساء فليقوموه. وإن فرض طاعة الناس له مربوط بطاعته هو لله والرسول، وفي حالة عصيانه لله والرسول فلا طاعة له عليهم. وهي أفكار تعبّر عن الحالة التي لم يتجاوز فيها الدين الدنيا ولا بالعكس، ولا الحدود الضمير ولا بالعكس. لقد نظر في خطبته (برنامجه السياسي) إلى وحدة الكل الإسلامي نظرته إلى حلقة متممة ومستمرة للإسلام المحمدي. إذ لم يؤرقه شيء أكثر من الحصول على الرضا الحقيقي. أما الصراعات "القريشية" بعد موت النبي محمد فقد عبرت عن هذه المساعي الحثيثة والمليئة بالمغامرة أيضا من أجل أن تكتسب "البيعة العامة" مظهر الرضا العام. ولم يكن ذلك مجرد رد فعل لاستجواب قاهر، بقدر ما تضمن بحد ذاته على الصيغة الأولية لانكسار الاعتراض الداخلي. لأنه أسس لما يمكن دعوته بقواعد اللجم النفسي والاجتماعي والأخلاقي للفعل المضاد باعتباره نكثا للعهد. وهو أمر يمكن استشفافه من مطالبة الجميع بقبول "الهدى" وإلزامهم بالطاعة. ولم تجد الأمة آنذاك حرجا في ذلك مازالت قيادتها توحد في أشخاصها و"بنيتها" السياسية النموذج التاريخي للفضيلة. لهذا أيضا يمكن فهم لماذا لم يجد عمر بن الخطاب حرجا بعد توليه الخلافة في أن يقتضب في خطبته للدرجة التي لم تتجاوز كلمات معدودة شبه فيها العرب بالجمل الأنف المتبع لقائده. في حين لم يقل عن نفسه سوى عبارة "فورب الكعبة لأحملنكم على الطريق". ذلك يعني أن العرب المسلمون لم يجدوا حرجا في حملهم على طريق الحق. وسواء أثار ذلك في وعي معاصريه تخيل أو إدراك صيغة الترابط العقائدي بين الإيمان والحق أم لا، فإن مما لاشك فيه هو ذوبانها العملي في "براهين" الفتح الإسلامي. فقد كان الفتح الصيغة العسكرية لعلاقة الدين بالدنيا. أما في وقت لاحق، عندما أصبح احتدام الجدل المقدمة الأولية لافتراق الأمة سياسيا ومذهبيا، فإن علاقة الإيمان بالحق لم يعد بإمكانها أن تستمر بصيغتها المتفائلة كما كان الحال بالنسبة للمسلمين الأوائل وقادتهم. إذ لم تعد السياسة خادمة الدين، بل الدين خادم السياسة.

فقد كان الدين يتطابق في وعي المسلمين الأوائل مع الحق. لهذا استثار خضوع الحق للسياسة ليس فقط حفيظة الموقف من المؤسسات السياسية الآخذة في النمو، بل ومن حقيقة الحق السياسي. لهذا استفسر عثمان بن عفان، عندما أخذوا يواجهوه بانتقادات شديدة حول تصرفاته السلطوية، قائلا: "أتفتقدون من حقوقكم شيئا؟ فما لي لا افعل في الفضل ما أريد. فلم كنت إماما إذا؟". أي أنه لم يجد حرجا في لوي عنق الحق بالصيغة التي يرتئيها ما زال هو إماما للمسلمين. بعبارة أخرى لم يعد الحق معيار السلطة بل السلطة معيار الحق. وإذا كان الحق عادة ما يتجسد بصورته المباشرة في أمور المعيشية، فلأنها ميدان المصالح المباشرة والصيغة الحية لتجلي قيم الحق والعدالة. فالانفصال والتفكك الجزئي بين الديني والدنيوي في سياسة السلطة استثار الوعي الاجتماعي الإسلامي من اجل إعادة اللحمة إليهما. ولم يكن ذلك في الواقع سوى الأسلوب التاريخي لنفي القيم وتعميقها، أو ما أسميته بضرورة المخاض الصعب من أجل أن تتخذ الإشكاليات الاجتماعية والروحية صيغة البديهة المقبولة، أو أن تتخذ الفكرة المنسية قيمتها الجديدة، أو يجري اكتشاف ما في التجارب الإنسانية العميقة من مغزى لا حدود له. آنذاك يتحول ما هو غير متناه في الأفكار إلى قيد ضروري لإبراز مضامين الحقائق الملموسة. أي ينبغي أن يحدث الانكسار العميق في التجربة الحياتية للأفراد والجماعة من أجل أن ترتقي العلاقات القائمة إلى مستويات أعمق وأشكال جديدة في صرح الوعي الأخلاقي والعقائدي. أما بصدد ما نحن فيه، فانه كان يعني ارتقاء وسمو علاقة الدين بالدنيا والضمير بالحدود والإيمان بالحق.

فالجمهور الإسلامي الذي أبدع في تعامله مع أئمة السلطة (الخلفاء) تقليد المبايعة والرضا، سعى في حالة زيغهم إما لتقويمهم أو الإطاحة بهم، كما هو الحال مع عثمان بن عفان. إلا أن "الزيغ" الأولي والأول، لم يكن انحرافا كليا بقدر ما كان نتاجا لتداخل علائق عديدة، وذلك بفعل بقايا الوشائج المتينة للتجربة الإسلامية الأولى، التي ما زالت تخيم وتجثم على انتصاراتها السياسية والعسكرية روح الأخلاق المتسامية.

لهذا لم يجد الخليفة عثمان حرجا في أن يعلن أمام من كان يحاصره في بيته قائلا أنه سمع النبي محمدا يقول "لا تتمادوا في الباطل فإن الباطل يزداد عن الله بعدا، ومن أساء فليتب". من هنا "توبته" العلنية أمام الجمهور "أنا أول من أتعظ! والله لئن ردني الحق عبدا لانتسبن نسب العبيد". وهنا نقف للمرة الأولى في تاريخ الصراع السياسي أمام ظاهرة السياسة المتأثرة بنوازع الأخلاق الشخصية، رغم أن بواعثها الدفينة لا تخلو من دهاء عملي ومصلحي مباشر. فمما لا شك فيه أن كلمات عثمان بن عفان الآنفة الذكر لم تكن نتاجا لدهائه السياسي. وليس مصادفة أن يقف مروان بن الحكم (ت ـ 65) بالضد من توبته معتبرا إياها تنازلا لا يمكن القبول به. لهذا طالبه قائلا: أنقض التوبة ولا تقر بالخطيئة!. وهي ظاهرة تعكس التداخل الخفي للمتناقضات وإمكانات ردود فعله المتضادة. من هنا تعليق طلحة في وقت لاحق على مقتل عثمان بعبارة "إن عثمان خلط الذنب بالتوبة حتى كرهنا ولايته وكرهنا أن نقتله".

لقد جمّعت صيرورة الدولة الإسلامية عوالم متناقضة. إلا أن الأمة لم تبحث في هذه المتناقضات عن يقين جديد، بقدر ما أنها وجدت في حركاتها المتضادة استيعابا "حقيقيا" له. ولا يعني ذلك اضمحلال "آفات النفس" و"رذائل" الجاهلية، بقدر ما أنه عكس الصورة التي تشابه في شاعريتها هطول الأمطار الخاطفة في صحراء الجزيرة، أي كان من الصعب التمييز بين لذة النظر وفائدة الغوث ورحمة السماء. لقد جرى أخذ كل ما هو موجود على أنه جود.

ففي تلك المرحلة لم يعان القلب الإسلامي بعد من معضلات الوجود والروح. ولم تعرف صروحه المادية بعد صحارى الروح. لكنه مع ذلك أدرك منذ وقت مبكر خطورة الجدل وفعله المخرب لمعنى الوجود. وجرى التعبير عن هذا الإدراك في مفاهيم الأول والآخر، والدين والدنيا، والإيمان والحق، بحيث أعطى لفعل الجهاد القديم معنى الأسلوب الأمثل لاستعادة المعنى الحقيقي "للأول" و"الدين" و"الإيمان" الإسلامي. إذ لم تكن حقيقة الجهاد سوى الأسلوب "الأخير" و"الدنيوي" تجاه عوالم الانحراف عن المبادئ. وهو السبب الذي يفسر سر الاندفاع العارم لقوى المعارضة الإسلامية الورعة في مواقفها من "خلط التوبة بالذنب". فهي لم تجد في الكلمة مبررا للفعل، مع أنها لم تنف أهميتها بالنسبة للروح. وقد جعلها ذلك أسيرة الكراهية، باعتبارها قوة وفعلا سلبيا. والشيء الجديد الذي كان يمكن إعلانه كبديل لإعلان التوبة هو رفع الجهاد إلى مصاف العمل، والعمل إلى مصاف الحق. لهذا كان "الخطاب" السياسي الروحي الذي وجهه علي بن أبي طالب (ت - 40) يدور ضمن أولوية السياسة والأخلاق. إذ نراه يشدد على أن من يبسط يده بالمعروف ابتغاء وجه الله سيعوضه ما أنفق في الدنيا ويضاعف له في الآخرة، وأن لسان الصدق لأفضل من كل ثروات الدنيا، وأن الكبرياء والعظمة هما دعوى باطلة، لأن الدنيا عرضة للزوال. لهذا طالب أتباعه بالفزع إلى قوام الدين وإتمام الصلاة وأداء الزكاة والنصيحة للإمام وتعلم الكتاب (القرآن) والتصديق في الحديث والإيفاء بالعهد إذ عاهدوا وأداء الأمانات إذا ائتمنوا، وعمل الخير، إذ لا يفوز بالخير إلا من عمل الخير. ذلك يعني أن الإمام عليا سعى لإعادة ربط القول بالفعل، كما عبر عنه بكلمات بسط اليد ولسان الصدق أفضل من المال. فقد أتقن المسلمون قول الكلمة التي لم تعد في حالات عديدة مصدرا للفعل فيما مضى. مما حول الفعل إلى مقدمة إعادة تهذيب الكلمة. ومن ثم ضرورة ذوبان القول والفعل في استيعاب الفكرة الكبرى القائلة بأن الدنيا عرضة للزوال وانه لا معنى لها خارج حقيقة الصور الموحدة للأمة من صلاة وزكاة وغيرها، باعتبارها مقدمات عقائدية ـ عملية وروحية للاشتراك الفعال في تغيير الواقع السياسي، أو ما أسماه بالنصيحة للإمام. وبما أن قيام هذه النصيحة يستلزم وجود أساس متين، فإن تعلم الكتاب وتصديق الحديث هو المقدمة الواعية للوفاء بالعهد والأمانة. انطلاقا من أن الوفاء بالعهد والأمانة ليست أفعالا سياسية فقط، بل وأخلاقية أيضا.

مما سبق يتضح، بأن البرنامج السياسي ـ الأخلاقي للإمام علي قد اختزل في عبارته البليغة تجربة الخلافة الراشدية. فمن الناحية الظاهرية يبدو خطابه شديد الشبهة بخطاب الخليفة الأول. إلا أن أبا بكر لم يعان من ثقل مهمة الرجوع إلى الإسلام "المحمدي". لقد نظر إلى أفعاله كاستمرار لأفعال النبي، بينما تحسسها علي بن أبي طالب واستوعبها كرجوع إليه. وهو رجوع لم يستطع تجاهل الإفراز الذي لازم صيرورة الدولة. إذ لا أساس للرجوع بحد ذاته ولا معنى له خارج مجرى هذه العملية ونتائجها التي أفرزت انكسار قيم الإسلام السياسية والأخلاقية الأولى. لهذا كان خطاب الإمام علي بمعنى ما بديلا سياسيا وأخلاقيا تعرض للهزيمة السياسية والفلاح الروحي.

خطا هذا الانكسار في مظهره القهقري خطوة إلى الأمام في مجاري تعميق الروح المعرفي والبحث عن اليقين الأخلاقي. وكما هو الحال في كل مراحل الانتقال التاريخية الكبرى لم يكن سهلا بالنسبة للقوى الاجتماعية المتصارعة أن تصل إلى مساومة عقلانية بصدد القضايا المختلف فيها، رغم اعترافها العلني بتسامي الأهداف والغايات. فقد كان من الصعب آنذاك إيجاد الصلة الواقعية بين العقل والأخلاق في ميدان غير ميدان السياسة. فهي البوتقة التاريخية الوحيدة آنذاك القادرة على صهر العقل والإيمان، والفضيلة والرذيلة، والواقع والوهم لكي يتسنى للجميع إعادة النظر بتجربة الأمة واقتراح المعايير المثلى للأمور. وليس مصادفة أن تكون قضية الإيمان والإسلام من بين أكثر هذه القضايا الفكرية جوهرية في العهد الأموي. فإذا كانت مرحلة الانتقال الحاسمة من عصر الخلافة الراشدية إلى الخلافة الملكية (الأموية) قد اقترنت بهزيمة المشروع الإصلاحي الأول للإمام علي، فإن بداية العصر الأموي اقترنت بظهور قضية "مرتكب الكبائر"، باعتبارها الصيغة المباشرة لوعي ظاهرة الانتقال هذه. حينذاك اتخذت تحولات العصر العاصفة وانحراف السلطة عن التصورات والقيم الإسلامية الأولية تعبيرها الملموس في الموقف من عمل الإنسان والجماعة. إذ لم يعد اعتناق الفكرة وحتى المجاهرة بها دليلا على حقيقة الانتماء الروحي. مما أدى إلى بروز جوهرية العمل.

هناك ارتباط يصعب تجاهله وفصم عراه بين الفرد والجماعة والسلطة في الميدان الاجتماعي والسياسي. وهي ارتباطات لم تكن مجهولة الهوية بالنسبة للوعي الإسلامي منذ بداياته الأولى. إلا أن ما يتميز به هذا الوعي، على الأقل حتى القرن الثالث، كونه ظل متمركزا حول الفرد والأمة، والمسلم والجماعة. مما صبغ في حالات عديدة مضمون العبارات والأهداف السياسية، وبالأخص فيما يتعلق بالموقف من السلطة. فهو لم ينظر إليها نظرته إلى مؤسسة مستقلة بذاتها. ولم يكن ذلك معزولا عن تقاليد الخلاقة وفكرة القرآن عن الله والإنسان، والأبعاد الاجتماعية والأخلاقية في التوحيد الإسلامي. فقد ظلت هذه العلاقة تحكم جملة من تصورات وأحكام المفكرين. وتحولت ثنائية الإسلام والإيمان المتجزئة إلى محك لهذه العلاقة. وكشفت عما في ذلك من تعارض وصل أحيانا حد القطيعة، بسبب غياب المعيار الملموس والحد الوسط الفعال ووحدتهما الضرورية. وفي هذا يكمن سر ظهور الخوارج، كما نعثر عليه في وعيهم السياسي والعقائدي. وليس مصادفة أن تنتقل معايير الالتزام الديني (الإسلامي) إلى ميدان الأخلاق العقائدية العملية، التي رفضت بصورة قاطعة تجزئة الإسلام والإيمان. إذ وجدوا فيها "خيانة" كبرى للمبادئ، وتبريرا يفضح موت الورع.

فقد أعطى الخوارج كل شيء لله، أي أنهم اشتروا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله. وجعل ذلك من ممارستهم العملية صيغة مكثفة للأخلاق الصارمة. ولم يكن ذلك فعلا سلبيا أهوج، بقدر ما انه ساعد على رسم حدود الأخلاق وآداب السلوك انطلاقا من إدراكهم لقيمة الفكرة المتسامية. وإلا فكيف يمكن يا ترى تحديد رضى الله عن الخلق؟ أما الحل الأول والمباشر لهذه القضية فقد كان افتراضا أوليا أملته فعالية الصراع الاجتماعية وغيب الآفاق السياسية وليس نتاجا لليقين الأخلاقي وأهدافه المعلنة. لهذا تحول ما بدا في يقين الخوارج آنذاك حكما لله إلى إشكالية فعلية. أما الأسئلة المتعلقة بماهية المعيار الذي يمكن على أساسه القول بأن هذا السلوك أو ذاك هو الوحيد الحق من وجهة نظر الله؟ وما هي الصفات والغايات الحقيقية والقيم المطلقة الموجودة في الله كما تصورها الخوارج لأنفسهم؟ التي أعطت لهم شهادة اليقين الحق في السر والعلانية، والغاية والوسيلة، والقول والفعل، فإنهم أجابوا عليها ببساطة متناهية: إنه العمل! عملهم الظاهري الملموس والمباشر، المعبر عن يقين الفعل الساعي إلى "كسب" رضى الله. بعبارة أخرى، لقد عكس الخوارج التضاد الواقعي بين الخالد والعابر، وسعوا لتذليله في العمل المباشر. فالخوارج لم ينهكوا أذهانهم الرقيقة بسبب الجهل أو الشك في حوارات الأنا الأنانية، أو مبايعات الجماعة الخنوعة أو خشونة السلطة وتعسفها، أو الصمت المرائي "للعقل العملي"، بل بحثوا عن الخلود في الزمن العابر. لقد انهمكوا في دراما الانتظار الفعال "ليوم الدين". وجعلهم ذلك يبنون قلاعهم في صحراء المعارضة. وحالما تنتهي معارك السلاح تتلاشى في آثار الزمن الغابر، ويبقى خلودها في مجرى الحياة كدليل على ديمومة الأنا الأخلاقية.

أفلح الخوارج في استثارة المعارضة الأخلاقية كرديف للعمل السياسي. ولم تكن فكرتهم عن وحدة القول والعمل سوى التجلي الظاهري لوحدة الإسلام والإيمان، والدين والدنيا، والعدالة والسلطة، والحق والجهاد. وإذا كان الخوارج قد صاغوا فكرة التوبة باعتبارها مقدمة الفعل، فإنهم لم يستلهموا بذلك تجربة الانتقال الحاسمة من عالم الجاهلية إلى عالم الإسلام، بل تحسسا الأثر الفعال للإسلام المثالي على عالم الإسلام الواقعي. وشكلوا بهذا المعنى استمرار مخلصا لمجابهة واقع انكسار قيم الإسلام السياسية والأخلاقية. أي أنهم ربطوا الضمير بالحدود إلى الدرجة التي أصبحت المرجئة مقارنة بها تبدو خرقة بالية.

أما المرجئة فقد جمعوا تجربة الماضي وإعادة تأمله في المسار الضروري الذي ينبغي للضمير أن يقطعه من أجل أن يمتلك هيكله الخارجي الأمثل. فقد تمثل المرجئة نفس الصيغة الشكلية المميزة لأخلاق الخوارج عن وحدة القول والعمل، والإسلام والإيمان، إلا أنهم صاغوا هذه الوحدة في فكرة وحدة الإيمان، ونفي التبعيض عنه. فقد ركز المرجئة أفكارهم حول أولوية النية والعقد وتأخير العمل، مما جعل بالإمكان الجهر علنا بفكرتهم الشهيرة القائلة، بأنه لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة. ذلك يعني انهم تمثلوا من الناحية الشكلية تقاليد الحدود الصارمة للشيعة والخوارج، لكنهم افلحوا في تذليل عقبات التكفير والاتهام، عبر نقلهم متضادات الضر والمنفعة، والإيمان والكفر، والمعصية والطاعة إلى أعماق الروح الإنساني، أي الى القلب والنية والمعرفة. وشكلوا بهذا المنحى نموذجا فكريا جديدا لأسلوب المساومة الحرة، وعمليا هجينها الأمثل. ولم يعن ذلك أنهم كانوا يرون على الدوام في أفعالهم وأفكارهم مساومة تقترب من حيث أبعادها الداخلية من معنى الحرية، كما لم ينظروا إلى الحرية المقيدة باعتبارها أسلوبا ضروريا لسمو الروح. لكنهم ساهموا عمليا في تحرير الروح والجسد بنقلهما من ميدان السياسة (المميز للشيعة والخوارج) إلى ميدان القلب (الأخلاقي).

فقد تمثل المرجئة تقاليد المعارضة الفكرية من خلال مقالاتهم عن أولوية النية وأحقية الخلافة كما حدثت تاريخيا، وتمثلوا تقاليد المعارضة العملية للخوارج من خلال مقالاتهم عن تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة. وبهذا يكونوا قد ساهموا في بلورة تقاليد المساومة السياسية، ولكن من خلال إزالة الغضب البهيمي من أعماق الأمة. وهو سلوك أدى إلى استكمال مساعي الاتجاهات الأخرى لاستعادة كيان الأمة الروحي على أساس الفكرة القائلة بوحدة الإيمان وكونه واحد لا يتبعض ولا يزيد ولا ينقص. وفي هذا تكمن المأثرة  التاريخية والمعرفية للمرجئة. فقد استطاعوا أن يربطوا الإيمان بالمعرفة. فقد قالت الفرقة اليونسية منهم بان الإيمان هو المعرفة بالله والخضوع له وترك الاستكبار عليه. أما الغسانية والثوبانية، فقد نظرتا إلى الإيمان باعتباره "المعرفة بالله وبرسوله والإقرار بما أنزل الله". وقالت الصالحية "الإيمان هو المعرفة بالله على الإطلاق، وهو أن للعالم صانعا فقط". إلا أن هذه المعرفة لم تكن معرفة مدرسية ـ كلامية خالصة، بقدر ما أنها ارتبطت من حيث حوافزها بالورع الأخلاقي. لهذا السبب كانت هذه المعرفة في جوهرها معرفة أخلاقية. ويظهر ذلك أيضا في إدخال فرق المرجئة جميعا عنصر المحبة في المعرفة. فمعرفة الله باعتبارها إيمانا لا يمكن عزلها عن المحبة له بالقلب، كما تؤكد اليونسية. بينما شددت الصالحية على أن معرفة الله "هي المحبة والخضوع له".

حددت أفكار المرجئة هذه عن الإيمان، موقفهم من وحدته غير المتبعضة، وثباته الدائم وأولوية العقد والنية على العمل، لا على معنى عرضية العمل، بل على معنى "فيضه" الجوهري. لهذا نرى اليونسية تشدد على أن الإخلاص والمحبة هما الأصل وليس العمل والطاعة (الظاهرية)، بينما نظرت الغسانية إلى الاعتقادات الشكلية باعتبارها قضايا وراء الإيمان، بل غير داخلة فيه. وجعلهم ذلك يطالبون "بالإيمان الخالص واليقين الصادق". مما حدد موقفهم من الفعل. فالتومنية، على سبيل المثال، عندما اعتبرت قتل النبي كفرا، فليس لأجل الفعل (فعل القتل) بل لكونه تعبيرا "عن الاستخفاف والعداوة والبغضاء".

إن هذا التعمق الأخلاقي في النظر إلى الأفعال، هو النتاج الطبيعي لتعمق وعي الذات الاجتماعي. وإذا كان المرجئة قد مثلوا في منحاهم العملي النقيض الظاهري والمباشر للخوارج، فإنهم كانوا من حيث البواعث الفكرية، تعبيرا واقعيا عن نفيهم الفكري. وهو الأمر الذي أدى إلى بروز عنصر المعرفة وفتح مصراع العقل الأخلاقي الأول. فإذا كانت مدارس الأرجاء الأولى قد اكتفت بالإشارة إلى فكرة المعرفة باعتبارها إحدى الخصال الجوهرية للإيمان (كما هو الحال بالنسبة لليونسية والغسانية) فإنهم توسعوا لاحقا، كما هو الحال عند الثوبانية والصالحية، بحيث أخذ العقل يزاحم المحبة في منظوماتهم الفكرية.

فنرى الثوبانية تدرج في الإيمان فكرة "كل ما لا يجوز في العقل أن يفعله وما جاء في العقل تركه فليس من الإيمان". ذلك يعني أنها وضعت حدودا للعقل في الفعل، ومدى للإيمان في العقل. إنها عقلنت الإيمان بإدخال عنصر العقل، وأخلقت العقل بتثمين قيمته الفعلية (الفاعلة). والعقلي في الإيمان هو الفعل الواعي لطبيعة المضرة، أما المتروك عقلا فلا يمكنه أن يكون إيمانا. وبهذا تكون قد قدمت شرط الرفض الأخلاقي للمضرة على شرط التجويز العقلي للترك الاختياري. أما محاولة الفرقة الصالحية المطابقة المجردة بين الإيمان والمعرفة (أو ما دعته بمعرفة الله على الإطلاق) فقد جعلها تتوصل إلى أن الكفر هو مجرد الجهل بالله على الإطلاق. مما الزمها بالنظر إلى العقل وموقعه في المعرفة. فإذا كانت المعرفة بالله على الإطلاق هي العنصر الجوهري في الإيمان، فإن كل "الزوائد" الأخرى تصبح معارف إضافية لا تحتوي بحد ذاتها على عناصر الإيمان. وهو الأمر الذي جعلها تجهر بفكرة "يصح في العقل أن يؤمن بالله ولا يؤمن برسوله".

أدى دخول فكرة الإيمان دهاليز الجدل العقلي إلى أن تصبح مادة للشكوك المعرفية. وهي المقدمة الطبيعية التي تعطي للإيمان وتسحب من تحت قدميه في آن واحد أرضيته النفسية التقليدية. غير أن لهذه الأرضية حركتها الخاصة في مختلف المراحل التاريخية والحضارات. وهي عادة ما تلازم حالات الانكسار المعرفي والروحي، الذي يرافق هزات الوجود الاجتماعي وبنيته السياسية. وكان ينبغي لهذا الواقع أن يبلغ ذروته من أجل أن يفسح المجال لإعادة النظر بكل ما جرى ويجري. وهي المهمة التي أنجزها المعتزلة.

بدأت المعتزلة حركتها بفكرة المنزلة بين المنزلتين وأنهتها بإعلان انتصار عقلها الخاص. وارتبط ذلك تاريخيا بالفعل الذي شكل بحد ذاته استمرارا جديدا لتقاليد المساومة الفكرية. لكنها مساومة لم تذلل اتجاه ما واحد، كما هو الحال بالنسبة لموقف المرجئة من الخوارج والخوارج من الشيعة، بل من خلال صياغة رؤية عقلية معتدلة شكلت نموذجا لفكرة "الوسط الذهبي". لقد أبعدت التطرف الظاهري والباطني، والواقعي والضمني، وحلت محله مركزية البديل العقلاني. واستطاعت أن تتوج ظهورها بصعود العقل الأخلاقي. وأدى هذا بدوره إلى سيطرة العقل "المجرد"، الذي افترض كجزء من "إيمانه" إخضاع كل ما في الوجود والأحكام إلى غربلة الشك واليقين.

لم يكن دفع المعتزلة للعقل إلى وسط الوجود الثقافي للخلافة تتويجا لحالة الشك واليقين، بقدر ما كان تعبيرا عن الحالة المعرفية والإيديولوجية التي جمعت في ذاتها تجربة الماضي وصراع القوى المختلفة. وقد أدى ذلك إلى فتح طريق العودة الدائمة للماضي وتأمل آفاقه المغرية. ومن هذا المنطلق استطاعت أن توصل الوعي الكلامي إلى نتيجة مفادها، أن الحقيقة شيء لا يمكن قبوله ببساطة.

توج صعود المعتزلة واستكمال وعيها الكلامي حصيلة التحولات العاصفة في تاريخ الأمة الإسلامية وضميرها. فقد أصبحت السياسة منذ زمن طويل خالصة لحالها. وتحول الإيمان والروح إلى موضوع للجدل الدائم. أما الحقيقة فإنها يقين لا يمكن قبوله دون شك وشكوك. وبهذا تكون الخلافة قد عانت من انكسار كيانها الاجتماعي السياسي وكينونتها الأخلاقية ويقينها بحقائق الإيمان. وهي الأشواط الضرورية لاستكمال وعيها الذاتي الحقيقي. ومنذ ذلك الحين كان لابد لكل حركة باحثة عن اليقين من أن تتمثل بالضرورة هذه الأشواط باعتبارها درجات منفية في وعيها الذاتي.

***   ***   ***

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2072 الثلاثاء 27 / 03 / 2012)


في المثقف اليوم