قضايا وآراء

تحليل ونقد الظاهرة الكردية في العراق (4-8) / ميثم الجنابي

أي استعداد على قبول مختلف أصناف الرذيلة وتقديمها بالشكل الذي يلاءم «ذوق الجمهور». وهو ذوق منحط بالضرورة. وهو السبب الذي يفسر سر العدوى السريعة للطائفية التي أخذت بالتغلغل في دهاليز الرؤية السياسية في العراق، بما في ذلك دهاليز الحركات القومية الكردية. وهو واقع يمكن تفسيره بمعايير الانحطاط العام الذي غرست التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية جذوره الطائفية على هيئة «منظومة» تخترق كل مكونات الوجود المادي والمعنوي للعراق، بحيث حولت الدولة إلى سلطة، والسلطة إلى أجهزة قمعية، وأجهزة القمع والقهر إلى أسلوب لوجود «المؤسسات» التي لا تتعدى وظائفها أكثر من إعادة إنتاج الإرهاب الشامل. ولم يكن بإمكان هذه الحالة الدوام والاستمرار دون آلية ترافقها على مستوى العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية. وشكلت الطائفية نموذجها الأكثر «حنكة»، أي الأكثر تجسيدا لنفسية المؤامرة والمغامرة، التي أدت بدورها إلى صنع مستنقع الرخويات الهائل في العراق. وتتراكم هذه الرخويات الآن وتنمو بنماذج مختلفة لعل أكثرها خطورة وتدميرا هو الطائفية السياسية.

فإذا كان سقوط التوتاليتارية والدكتاتورية يفترض من الناحية المنطقية، أن تأخذ القوى والأحزاب السياسية العراقية، على خلفية «نضالها التاريخي»، زمام المبادرة بالشكل الذي يجفف مصادر المستنفع الطائفي للماضي، فإننا نلاحظ العكس. بمعنى إننا نلاحظ تحولها من حالة المؤامرة الخفية والمغامرة الشرسة إلى «منظومة ديمقراطية» تجسدت بمبدأ وممارسة المحاصصة. وهي ظاهرة يمكن تبريرها جزئيا إلا انه لا يمكن الإقرار بها كمبدأ للدولة والحركة السياسية الداعية إلى فكرة الدولة الشرعية والحقوق المدنية.

إلا أن الواقع يكشف عن الانهماك الفعال في «ترتيب البيت العراقي» على أسس المحاصصة «الديمقراطية»، أي المحاصصة المبنية من حيث الجوهر على طائفية سياسية مغلفة لكنها كشفت عن مضامينها الفعلية مع مرور الزمن. وهي ظاهرة شكلت الحركة القومية الكردية احد مفتعليها ومؤيديها والداعمين لها.

فقد كان الهاجس القومي الكردي بعد «الرجوع إلى العراق» تجزئته الفعلية على أسس عرقية من اجل نيل اكبر قدر ممكن من الثروة، أي أن الهاجس فيه كان يعود لنفسية الغنيمة. وهو المضمون الخفي والعلني لفكرة الفيدرالية والحقوق القومية والمحاصصة السياسية والإدارية والمالية والتمثيل الداخلي والخارجي، باختصار في كل شيء. أي ليس الاشتراك في إدارة شئون الدولة على أسس المشاركة الاجتماعية والسياسية، بل على العكس، قلب الإدارة إلى «قيادة» مبنية على أسس «حقوق المحاصصة» الإقطاعية. وهو الخطأ الذي ساهم فيه بحمية بالغة إلى جانب الحركة القومية الكردية زعماء الحركات الشيعية السياسية والدينية وغذته بصورة غير مباشرة الطائفية السياسية السنية. وهو «المثلث» المكعب للخراب في العراق المعاصر الذي شكل «انتخاب» الطالباني رئيسا للجمهورية الرابعة احد مظاهره التعيسة.

فقد كان «انتخاب» الطالباني تكريسا للطائفية السياسية. وهو حكم لا علاقة له بأصول الطالباني الكردية، على العكس من ذلك. إذ أن منطق الديمقراطية والشرعية يفترض الكفاءة والانتماء الصادق والمصداقية الاجتماعية والإجماع الوطني المحكوم بتأييد الشعب ورغبته في انتخاب من تراه مناسبا لتمثيل وحدتها الوطنية. وترتبط هذه الحالة ارتباطا وثيقا بمستوى التطور الاجتماعي والسياسي. وإذا كان تحقيقها في ظروف العراق الحالية قضية غاية في التعقيد، فان المهمة السياسية الكبرى لا تقوم في القبول بحالة التخلف والانحطاط، بقدر ما تفترض مواجهتها كما هي بمعايير البدائل العقلانية والمستقبلية. بينما كان «انتخاب» الطالباني يشكل من حيث مضمونه السياسي والاجتماعي خروجا على منطق الرؤية الديمقراطية وفكرة الرمز الوطني الجامع والأغلبية الاجتماعية والسياسية. ويمكن تفسير هذا الخروج باعتباره الثمرة المرة للطائفية السياسية.

وتستمد هذه الطائفية مقوماتها من الضعف البنيوي للحركة القومية الكردية في العراق وبقائها ضمن معايير العرقية ونفسيتها. من هنا استعدادها للتلون بكافة الألوان بما في ذلك الطائفية الدينية منها والسياسية. الأمر الذي يجعل منها حركة تخريبية هائلة، بفعل تركبها من مكونات يصعب تراكمها في ظل التطور الطبيعي للحركة القومية.

إن احتواء الحركة القومية الكردية على استعداد لقبول القومية والعرقية والماركسية والطائفية والعلمانية والتدين، والتعاون مع مختلف الأطراف والقوى ومناهضتها، والتحول المفاجئ في الأقوال والمواقف والرؤية، ما هو إلا التعبير السياسي عن ضعفها البنيوي التاريخي والاجتماعي. من هنا خطورتها بوصفها حاملة لجرثومة الطائفية السياسية المركبة في العراق. ومن ثم استعدادها على تفعيل القوة التخريبية للطائفية السياسية. وبهذا المعنى أتكلم عن الخطأ التاريخي «لانتخاب» الطالباني رئيسا للعراق. «فانتخابه» لم يكن وليس بإمكانه أن يكون عاملا للتوحيد والوحدة كما يبدو للوهلة الأولى، بل على العكس من ذلك!

إن الوحدة الوطنية والوفاق الوطني والجامعة الوطنية ليست لعبة الوفاق السياسية ولا حتى المساومة السياسية بأفضل أشكالها، بل النتاج الموضوعي والضروري لتكامل الشعب والدولة والمؤسسات الحقوقية والشرعية في عملية بناء الهوية الوطنية. وبالتالي فهي النتيجة المتراكمة فيما يمكنه أن يكون أيضا نوعا من«الإجبار» الشرعي للجميع على ممارستها والوقوف أمام نتائجها وتقبلها كما هي من اجل إعادة النظر فيها واستخلاص الدروس والعبرة منها. في حين لم يكن «انتخاب» الطالباني سوى لعبة خائبة لقوى مقهورة لم تعرف قيمة المواجهة العلنية للحرية ومستلزماتها واستحقاقاتها. من هنا كان «انتخاب» الطالباني فعلا يناقض فكرة الحرية والشرعية والإجماع الوطني بمعناه الاجتماعي والسياسي وليس بمعناه الحزبي الضيق. وضمن هذه المعايير يمكن اعتبار «انتخابه» لرئاسة الدولة فعلا تخريبا أيضا بالنسبة للوحدة القومية الكردية بمعناها الاجتماعي ومضمونها الوطني (العراقي). وذلك لما فيها من إثارة لتسوسها الداخلي مع ما يترتب عليه من إثارة للجهوية والعائلية والقبلية والعرقية فيها.

وقد كشف السنوات القليلة ما بعد سقوط الدكتاتورية وظهور إمكانية بناء الدولة الشرعية والنظام السياسي الديمقراطي ومنظومة الحقوق المدنية هشاشة الحركات القومية الكردية من جهة والثمن الباهظ الذي قد يدفعه الشعب الكردي نفسه جراء إتباع وراء قوى لا تمثل في الواقع سوى تقاليد الإقطاعية والأغوات والدكتاتورية الصغيرة من جهة أخرى. بعبارة أخرى، انه كشف وسوف يكشف بصورة أكثر وضوحا وجلاء عن طبيعة النوعية الرديئة لمسحوق الحركات القومية الكردية التي لونت به وجهها لسنوات طويلة. وهي مساحيق سوف تنطلي بسرعة بالغة. مما يعطي لنا إمكانية الحكم بهذا الصدد، بأن الحركات القومية الكردية،وبالأخص في شقيها البرازاني هي حركات مستعدة لقبول أردأ أصناف الانحطاط، بما في ذلك الانحطاط الطائفي. ومن ثم يمكنها، وهو ما جري بالفعل، أن تكون إحدى القوى الأكثر تفعيلا للنعرات الطائفية السياسية. ويمكن ملاحظة هذا التحول على مثال ظهور وتزاوج وتمازج عبارات ومفاهيم وممارسات مثل «إننا حركة قومية تحررية» و«إننا حركة كردستانية» و«إننا حركات كردية عراقية» و«إننا سنة أيضا»! «لكننا نتحالف مع الشيعة» فيما مضى. والان، "اننا اكراد" و"اننا بانتظار البشرى السارة" (للانفصال)، و"اننا حلفاء للشيعة" لكننا نسعى للاتفاق مع العراقية ضد المالكي"، و"نحن مع الحق، لكننا مع الهاشمي بحكم قيمنا الأخلاقية"! باختصار كل ما يمكنه ان يكون نموذجا للطائفية المبطنة والمفتعلة على هيئة ميكيافيلية كردية من طراز يصعب تحديده بمعايير العلم السياسي!!

بعبارة أخرى، إن التحالف لم يجر مع حركة قومية عربية (وهو أمر مفهوم)، ولم يجر مع "السنّة العرب" (وهو أمر مفهوم أيضا)، ولم يجر مع قوى وطنية عراقية (وهو أمر معقول!). إلا أن  اللامعقول فيه هو تفعيله السياسي ورفعه إلى مصاف «الروية الوطنية العراقية» مع قوى شيعية سياسية على حساب الآخرين وبالضد منهم في بداية الأمر والانقلاب عليه بين حين وآخر! كل ذلك يشير أولا وقبل كل شيء إلى ما أسميته بالضعف البنيوي للحركات القومية الكردية واستعدادها للتلون بأي لون بما في ذلك بالطائفية الدينية منها والسياسية. وهي حالة كشف عنها الطالباني في أول إجابة له (بعد ان جرى تعيينه رئيسا للدولة) على سؤال استفزازي من جانب بعض ممثلي الطائفية العربية في الأردن عن سبب عدم إشراك "العرب السنّة" في الحكومة، حيث اخذ يعدد لهم "الوزراء السنّة" (فلان وفلان وفلان) ولم ينس أن يضيف بان الأكراد سنّة أيضا! وتعكس هذه الإجابة طبيعة الخلطة الغريبة في الرؤية والمواقف والانجرار وراء معالم الانحطاط من جهة، واعتبارها حالة طبيعية وجيدة من جهة أخرى. ففي هذا التحول في المواقف نعثر على تحول الطائفية السياسية إلى جزء من ممارسة السلطة الجديدة في العراق وقواعد فعلها ونوعية «ديمقراطيتها». بينما لا يعني «الإشراك» بصيغته المذكورة أعلاه سوى الاستعادة الموسعة للصدامية. وهي عملية متفسخة بالضرورة، رغم إننا نستطيع فهم الكثير من حوافزها الداخلية بسبب طبيعة ونوعية التحولات العاصفة التي مست العراق بأثر الغزو الأمريكي. إلا أن ذلك لا ينفي ولا يزيل السؤال الخاص بهذا الصدد والمتعلق بما إذا كان هذا التحول من «القومية العلمانية» إلى الإقرار بشرعية الطائفية والدفاع عنها تحولا عارضا ومحكوما بطبيعة المرحلة الانتقالية أم انه نتاج ملازم للحركات القومية الكردية الحالية؟

إن تحليل تاريخ الطائفية الدفينة في سلوك ومفاهيم وأيديولوجية الحركات القومية الكردية الحالية يشير إلى أن هذا التحول هو فعل اقرب إلى صفة التلازم. وذلك لأننا نعثر على قوى سياسية علمانية (دنيوية) لم تنخرط في لعبة الطائفية، كما هو الحال بالنسبة للشيوعيين مع أنهم يمثلون من الناحية العملية نفسية وذهنية الأقليات القومية والدينية. والشيء نفسه يمكن قوله عن القوى الديمقراطية والوطنية العراقية الآخذة في التبلور رغم ضعفها الملموس على خلفية الانحطاط الشامل الحالية. ذلك يعني أن التلازم الداخلي بين الحركات القومية الكردية الحالية والاستعداد الذاتي لقبول الفكرة الطائفية ينبع أولا وقبل كل شيء من الضعف البنيوي المميز لهذه الحركات، وهو ضعف تاريخي جعلها ويجعلها أكثر ميلا لنفسية وذهنية التجزئة. فهو الوسط الذي تشعر فيه بنفسها على أنها «عنصر مكونا» و«طرفا فاعلا» و«قومية متميزة» و«قوة لا يستهان بها»، أي كل المكونات التي تجعل من لعبة المحاصصة والتجزئة المفتعلة للعراق جزء من الرؤية «الإستراتيجية» للحصول على «الحقوق والمكاسب».

وتتضح ملامح هذه الفكرة أيضا في سلوك قيادات الحركة الطالبانية والبارازانية على امتداد التارايخ السياسي في العراق ما بعد عام 2003 وحتى الآن. واكتفي هناك بنموذج "كلاسيكي" واحد عن الطالباني واترك البارازاني لان الرجل في كل شيئ شاذ!

فقبيل الانتخابات الثانية للجمعية الوطنية في نهاية عام 2005، طلب الطالباني من الأكراد بضرورة المشاركة الفعالة في الانتخابات من اجل أن يكون لهم ممثلين في مراكز القرار في بغداد. وهي فكرة سليمة من الناحية الشكلية. غير أن تأسيسها الأيديولوجي كان عرقيا طائفيا، عندما شدد على أن عدم الاشتراك يعني نجاح من يحاول أن يحشرهم فيما اسماه بالأمة العربية!! وأن هذه القوى تريد أن تأخذ باليد اليسرى ما أعطته باليد اليمنى!! وهي مقارنة مبتذلة! والقضية ليست فقط في أن الأمة العربية لم تسحب ولن تسحب وليست بحاجة إلى أن تسحب قومية الطالباني نفسه، وهو الذي درس وتربى في بغداد! بل في قوله هذا وهو في موقع رئاسة الجمهورية العراقية!!

إننا نعثر في عبارات وفكرة الطالباني على صيغة نموذجية على طبيعة وحجم الخراب الفعلي للطائفية العرقية المتغلغلة في أعمق أعماق الحركات القومية الكردية الحالية. ولا يمكن لهذا الخراب أن ينتج في نهاية المطاف غير ممارسات خاطئة ومضرة، وفي أفضل الأحوال لا تفعل إلا على تفعيل أوهام مدمرة. وسوف تظل هكذا ما لم تحسم الحركات القومية الكردية بصورة متكاملة إشكالية القومي والوطني (الكردي والعراقي) والديني والدنيوي. ولا يمكن حسمها بصورة متجانسة وايجابية دون تذليل الضعف البنيوي للحركة القومية الكردية. وإلا فان ممارساتها سوف لن تؤدي إلا إلى توسيع الأبعاد الهمجية في المثلث المسروق (أربيل - السليمانية – دهوك) مع ما فيه من هشاشة وضعف وتجزئة لا يحلها إلا عراق مؤسس على مثلث الدولة الشرعية والنظام السياسي الديمقراطي والمجتمع المدني.

*** 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2074 الخميس 29 / 03 / 2012)


في المثقف اليوم