قضايا وآراء

اللجاجة في الفكر والدين والسياسة / احمد بابانا العلوي

وكنت أريد أن أناقش رأيه حول قضية إبطال الشريعة وإلغائها، وربط ذلك بإرساء قواعد الدولة العلمانية التي تلغي تأثيرا الدين في تدبير الشأن المدني العام .

وكذالك بعض القضايا والطروحات التي تناولها والتي يتداخل فيها الايديولوجي بالسياسي .. إلا أنني لاحظت أن الأستاذ الطالبي قد نحى منحى جدالي سفسطائي وابتعد عن دائرة النقاش العلمي المنهجي الرصين ..

وقد أدى هذا الابتعاد عن النقاش والحوار القائم على التفكير العقلاني المستنير ضمن منهج علمي بصير يتوخى البحث عن الحقيقة التي تنفع الناس في صلاح أمورهم الروحية والمادية ..

لقد أدى هذا الخروج عن المنهجية العلمية إلى الانزلاق في أتون المماحكة الإيدولوجية والسياسية ومن ثم اختلط الحابل بالنابل وترتب عن ذلك الانجراف إلى صراع جدلي سفسطائي يضر ولا ينفع ويؤدي في الغالب إلى اللجاجة التي لا تتحقق معها منفعة لا بالجدل ولا بغيره..

ولعل اسلم المواقف في هذه الحالة عند ذوي البصر بالدين والرؤية الثاقبة والفكر المستقيم إذا احتدم الخصام وشاع المراء والاتهام أن يتجنب الخصومة أو يتجنب فيها كل قول مريب..

لهذا سأقتصر على بعض الملاحظات مؤجلا البحث في مسألة العقيدة والشريعة لأن البحث فيها يتطلب دراسة تحيط بفصولها وتكشف أسرارها ومعانيها باعتبار أن العلم بحقائقها زاد لا يستغني عنه فليست المسألة كما يتوهمها البعض خلاف بين دين ودين أو بين مذهب ومذهب أو بين فلسفة وفلسفة، وإنما الخلاف في جوهره يتمحور حول معنى الحياة الإنسانية..

 فما من شيء يجعل للدين أو العقيدة أو الشرع معنى إذا لم تكن النفس الإنسانية ذات معنى وذات قيمة..

 وإنما تصدق الأسماء حيث تصدق على الصفات والأعمال .

فالباحث عن ظواهر الاجتماع، وحقائق بعض الأشياء، عليه أن يقاربها وفقا لقواعد المنهج العلمي القويم لكي ينفذ إلى معانيها، ويدرك مقاصدها ..، أما إذا سلك طريقا معوجا فسوف ينتهي به الأمر إلى إطلاق الأحكام، من غير تعمق ولا تدبر، لأن وسائل التعمق والتدبر تحتاج على تفكير، وإستقصاء، وروية وتعقل يمنع الجدل العقام .

فليس هناك خطب أفدح – على قوم – من اشتغالهم بالجدل وتركهم العمل، كما قال الإمام الأوزاغي ..

ومن نافل القول أن صناعة الجدل ليست في شيء من المنطق القويم المطلوب للبحث عن الحقيقة وإنما هي صناعة يتعلمها طالبها، وهو ينشد الغلبة على خصومه، في المناقشة بالحق أو بالباطل: (فينساق إلى طبيعة الجدل وشهوة المغالبة فيؤثر المغالطة على المصارحة ويصر على المكابرة ...).

وما من أمة فتح فيها باب الجدل وغلبت فيها شهواته سلمت مما تخلقه اللجاجة والتمادي في الملاحاة والبغضاء..، وقد ضرب المثل بالجدل البيزنطي في سوء العاقبة وقلة الجدوى لطلاب الحقيقة والصلاح...

ويرى الأستاذ العقاد في كتابه التفكير فريضة إسلامية بأن الجدل كان آفة على أبناء القرون الوسطى من المشتغلين بالفلسفة والتفسيرات الدينية والمهاترات المذهبية أشد عليهم من آفة الجهل والجمود على التقاليد ...

ويضيف بأن أغراض الجدل الوبيلة ثلاثة :

إغراء الناس بالمماحكة بالقشور دون جوهرها، واللباب من حقائق الأمور، وإثارة البغضاء والشحناء عل غير طائل ولعا بالغلبة والاستعلاء بدعوى العلم والصواب وإشاعة الخلاف بين الآراء جماعة بعد جماعة، على غير نهاية يقف عندها ذلك الخلاف . (ص29).

إن الجدل ومصطلحاته الكلامية انتقلت إلى المسلمين على يد المترجمين الدخلاء فتسربت إلى الأذهان شبهات كثيرة كما فشت فيهم الأغراض السالفة ولمس أضرارها العامة والخاصة في بيئات العلم والدين والسياسية ...

إن هذا الجدل السفسطائي يصرف العقل عن الفهم الصحيح وقد تصدى الأئمة المجتهدون لهذه المسألة فناقشوها مناقشة تصحيح وتنقيح، يقول الإمام الغزالي بأن من شروط العالم المجتهد غير المقلد أن يحيط بعلم النظر ويحسن إراد البرهان وإجراء القياس، وإن رد المذهب قبل فهمه والاضطلاع على كنهه رمي في عماية .

 ويقول أيضا في كتابه الميزان، الشكوك هي الموصلة للحق فمن لم يشك لم ينظر ومن لم ينظر لم يبصر ومن لم يبصر يبقى في العمى والضلال...

فالعقل عند الغزالي هو العقل في شرعة الإسلام عقل يبتغي الحقيقة حيث كانت ولا يحجم عن المعرفة، حيث أصابها ولا يقيم فوقه أو بين يديه بابا مغلقا دون قبس من نور يريه ما لم يكن يراه أو يزيده بصيرة بما رآه. (ن.م ص35).

لا ريب إذن فإن النافي عليه الدليل كالمثبت والقضية إذا لم تكن بديهية، لا بد لها من دليل كما يقضي بذلك المنطق السليم .

لقد كان القصد من تصحيح المنطق هو تحرير العقل من قيود المصطلحات التي تعوقه عن النظر السليم لأن المنطق مقيد بالعقل وليس العقل مقيد بالمنطق كما جعله أصحاب اللجاجة بالمصطلحات الموضوعة ...

فالمنطق علم بجميع الأصول والقواعد التي يستعان بها على تصحيح النظر والتمييز الصحيح وبحث عن الحقيقة من طريق النظر المستقيم، أما الجدل أو الخطاب الاقناعي ( la Rhétorique) هو بحث عن الغلبة والإقناع بالحجة وقد يرمي إلي كسب أو الدفاع عن مصلحة مطلوبة ...

ويعود اسم السفسطة الى الحكيم الإغريقي بروتاغوراس Protagoras) ( الذي أطلق على نفسه (سوفسيت sophiste) بمعنى الحكماء البلغاء (معلمي البيان الخطابي) .

وزعم انه ملك الحكمة وأستوفاها، وقد غلبت السفسطة على كل من يدعي هذه الدعوى ويتخذها في المناقشات حول المنازعات القضائية أو السياسية ..، فجادلوا بأن هناك خير وشر، وحق وباطل، وعدل وظلم، وأذاعوا الشك في الدين، فسخروا من شعائره واختلقوا على آلهته الأقاويل كما مجدوا القوة والغلبة ..

ومن هذا المنطلق أصبح المفهوم المتفاهم عليه أن المنطق بحث عن الحقيقة وأن الجدل بحث عن المصلحة أو الرغبة المتنازع عليها...، وتأسيسا على ذلك فإن الحجة هي حجة خطابية أي أنها تقنع ولا يشترط فيها أن تدل على الحقيقة.

أما فريضة التفكير في القرآن الكريم فإنها تشمل العقل الإنساني بكل ما إحتواه من وظائف بجميع خصائصها فهو يخاطب العقل الوازع والعقل المدرك والعقل الحكيم والعقل الرشيد..، أي انه يخاطب العقل الذي يعصم الضمير ويدرك الحقائق ويميز بين الأمور ويوازن بين الأضداد ويتبصر ويتدبر ويحسن الإدكار...

الإسلام لا يعرف الكهانة ..، ولا توسط فيه بين المخلوق والخالق ولا شفاعة من ولي أو صاحب قداسة ..

دين بلا هياكل ولا كهانة، يتجه الخطاب فيه إلى الإنسان العاقل صاحب العقل المدرك والفهم القويم والتفكير السليم ..

أما الأزمة التي يشهدها العالم الإسلامي فهي نتيجة الانفصام بين الفكر والواقع ..، فهناك خلط كبير، بين العقيدة والفكر وبين الغايات والوسائل وبين الدين والتاريخ..

وقد ذهب فريق إلى أنها أزمة عقائد وقيم ومقومات حضارية ..، بحيث تغبشت الرؤية مما أدى إلى وقوع النخبة في شرك الغربة الفكرية والجهل المعرفي..

 وللخروج من هذا الانسداد أصبح من الضروري تغيير منهج التفكير وتصحيح منطلقاته لكي يصبح قادرا على النظر النقدي، والرؤية النافذة والقدرة على إبداع البدائل ..

وإن إلمامة سريعة بقيم الإسلام وغاياته تقطع بالمنهج الصحيح بعيدا عن الفهم السفسطائي السقيم .

وصفوة القول أن دارس الفكر إذا لم يكن بصيرا به، حسن التصرف في جليله ودقيقه جيد الفهم لغوامضه ومبهماته فهو حري أن يشوه الصورة عند تركيبها تشويها شنيعا .. وعند ما تتشوه الصورة ويضيع المعنى ولم يعد هناك ما يحسن ومايقبح وما يرضي ما يسئ.. ومن ثم فان ما نحسبه واقعا في تصوراتنا واذها ننا ما هو بواقع الا في اذهاننا.. وقد تتعارض المدركات البصرية مع المدركات الذهنية فيتغلب بعضها على بعض ويؤثر ذلك على زاوية النظر او الرؤية والافكار الدائرة في الاذهان.. والحقيقة ان نظم الحياة كلها ذات تاثير في صياغة الواقع وقد تحول فقه الواقع الى علم يبحث في الشؤن الثقافية والفكرية والسياسية والاقتصادية وعليه يتوقف الفهم الدقيق لاي تنظيم او تشريع او بناء او تاويل ولا يمكن الخوض فيه دون تقعيد لعلم وتاصيل لمنهج حتى لا تضطرب الامور وتتداخل وتتعطل الملكات عن ادراك القوانين الناظمة للعمران البشري..

ان الاهتمام بفقه الواقع في سائر المجالات ومناحي الحياة ضرورة تمليها طبيعة العلاقةبين التطور المتسارع والدين وكذلك على ضوء التحولات الطارئةعلى مفاهيم القوة والسلطة والنفوذ في العالم.. واثر ذلك على حريات الانسان وحقوقه الطبيعية والمدنية..

فلا بد للانسان ان يوازن بين متطلبات الجسد المادية ومتطلبات الروح التي قوامها العقل والاخلاق والحكمة وحسن التدبير..

اما السؤال الذي يفرض نفسه بعيدا عن اللجاجة والسفسطة الفارغة فهو كيف يحافظ الانسان على انسانيتة اذا انقاد انقيادا اعمى لشهواته المادية بلا وازع ولا رادع يردانه الى قيم الاخلاق والعقل والنقل..؟    

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2076 السبت 31 / 03 / 2012)


في المثقف اليوم