قضايا وآراء

تحليل ونقد الظاهرة الكردية في العراق (5-8) / ميثم الجنابي

إن دراما الانفصال والتجزئة والانغلاق في الأحزاب السياسية وبرامجها لم تكن صفات مميزة للأحزاب الشيعية السياسية والقومية الكردية، بل مست الجميع دون استثناء. غير أن البحث هنا سوف يكون مخصصا لهذين النوعين من الأحزاب بسبب نموذجية التحول فيهما بهذا الصدد. وهو تحول راديكالي صنعته، كما أشرت أعلاه، شراسة الطائفية السياسية وهمجية القمع القومي المعجونة بالانحطاط الشامل في مؤسسات الدولة والمجتمع المدني والخروج على ابسط مقومات الوطنية من جانب السلطة الصدامية، أي كل ما أدى إلى صعود نفسية وفكرة الرجوع إلى «المصادر الأولية». وهو رجوع اتخذ في حالة الأكراد ما أسميته بدراما «الانفصال القومي».

فقد اتخذت نفسية وفكرة الرجوع إلى «المصادر الأولية» عند الأكراد بحكم الضرورة طابع النزوع العرقي، وذلك بسبب الضعف التاريخي والذاتي للأكراد وبدائية الفكرة الكردية. وذلك لأن "القومية الكردية" هي "قومية" بحكم الإمكانية وليس الواقع. وهي إمكانية مقطوعة بسبب خلوها من تاريخ الدولة ومنظومة الثقافة التاريخية. مما جعلها على الدوام اقرب إلى المعشر والقوم منها إلى قومية ودولة. وقد تناولت مقدمات هذه الظاهرة وأسبابها، بما في ذلك انحدار الفكرة القومية الكردية صوب العرقية، في أكثر من مقال ودراسة مخصصة بهذا الصدد. لهذا اكتفي هنا بتعميم حصيلة التجربة السياسية للأحزاب القومية الكردية بهذا الصدد.

 

فقد مرت دراما «الانفصال الكردي» بثلاث مراحل وهي:

  • الأولى ترافقت مع نتائج عاصفة الصحراء(1991- 1992)،
  • والثانية تشكيل إقليم تحت المراقبة (أمريكي بريطاني تركي) (1992- 2003)،
  • والثالثة بعد سقوط الصدامية (2003-).

 

ويمكن ملاحظة التغيير النوعي في سلوكها الخارجي والداخلي من خلال تبدل القوة المؤثرة في سياسة الأحزاب القومية الكردية. بمعنى الانتقال من تأثير العامل الإيراني إلى الأمريكي - البريطاني - التركي، وأخيرا إلى الأمريكي - العراقي. وهو تحول كان يعمل في اتجاهين خاص (قومي كردي) وعام (عراقي)، أو داخلي (كردي) وخارجي (عراقي)، لعل فكرة الفيدرالية العرقية وليست حتى القومية هي احد مظاهرها اللاحقة.

قد تراكمت في دراما «الانفصال» نوعية خاصة من الانفصام الوطني في الوعي السياسي القومي الكردي. وهو تراكم تدريجي في الزمن، راديكالي في النوعية، أي منذ عام 1992 حتى 2002. وهي الفترة التي تشكل مرحلة انحطاط الدولة العراقية بوتيرة سريعة وتعرضها إلى تدخل وضغوط خارجية شديدة. وشكلت هذه الحالة المرتع الذي عاشت عليه ونمت النزعة العرقية الكردية كشكل من أشكال التعويض عن المهانة التي تعرضوا إليها من جانب الدكتاتورية الصدامية.

لكننا حالما نحلل طبيعة ومسار هذا التحول بمعايير الرؤية العلمية، فإننا نتوصل إلى انه لم يكن مجرد رد فعل على السياسة الصدامية، بل ونتاجا مترسبا في قاع الفكرة القومية الكردية غير العميق. بمعنى أن ضعف وهشاشة الفكرة القومية الكردية وطبيعة البنية التقليدية (الجبلية والقبيلة) والضعف الثقافي التاريخي هو المصدر الأساسي لهذا التحول. وهو أمر برز بوضوح بعد فترة قصيرة من «الاستقلال» بأثر تراكم الصراعات الداخلية الكردية – الكردية. رغم أن هذا "الاستقلال" كان محكوما بحماية قوى عسكرية خارجية (أمريكية بريطانية) وممولا من دكتاتورية داخلية (عراقية)!! ويمكن فهم هذا التمازج بمقاييس الابتذال الحزبي باعتباره «تكتيكا سياسيا». غير أن التكتيك السياسي مهما كان محسوبا بتوازن القوى من الناحية العملية، لا يمكنه أن يصنع في حال خضوعه لابتزاز الدينار والدرهم وقوى الاحتلال شيئا غير نفسية وذهنية المؤامرة والمغامرة. انه يتحول مع مجرى الزمن إلى مراوغة حزبية. أما في مجال «الصراع القومي»، فانه لا يؤدي إلا إلى ابتذال الفكرة القومية التحررية.

وشكلت «الاتفاقية» الموقعة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني في واشنطن في السابع عشر من أيلول عام 1998 نموذج هذا الابتذال الكلاسيكي. ففيها نقرأ في أول فقرة من «الاتفاقية» شكر الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني الوزيرة أولبرايت وكذلك الحكومة الأمريكية لتحقيقها سلسلة من اللقاءات الودية والناجحة خلال أيام في واشنطن!! ويعكس هذا الشكر واقع انعزال الأحزاب القومية الكردية. فمن الناحية الجغرافية لا يعزل احدهما عن الآخر سوى جبال قليلة. أما في معناه الرمزي فقد كان الذهاب إلى واشنطن يعكس حقيقة المسافة الفعلية بالمعنى الجغرافي والغاية. ولا يمكن للرؤية الحزبية أن تجعل هذه الغاية قادرة على الارتقاء إلى مصاف الرؤية الوطنية العراقية. لهذا أصبح الذهاب إلى واشنطن الطريق الأقرب للرجوع إلى «كردستان»! إذ يفتقد هذا الرجوع الجغرافي إلى الأبعاد القومية والاجتماعية السليمة. ونعثر على هذه النتيجة في «الوثيقة» نفسها. ففيها نقرأ شكر الحزبين للولايات المتحدة وقيادتها على مساعدتهم في اجتماعهما من اجل «دعم آلية عمل للتعامل المستقبلي»!! بل يجري وصف نتائج اللقاء بكلمة «عظيمة»، وذلك لأنه استطاع أن يعمل من اجل «إنهاء النزاع بشكل تام ودائم» بين الحزبين. وهو إنهاء يمكن فهم حوافزه الداخلية على انه مرهون بتدخل القوى الخارجية. بمعنى انه ليس نتاجا لوعي ذاتي، ومن ثم لا قومية فيه.

كما يمكن رؤية هذه النتيجة بوضوح في حدة الموقف المعادي للحركات الكردية التحررية في تركيا وغيرها من مناطق انتشار الأكراد. كما نراه في الفقرات التي تتكلم عن «منع الإرهاب وذلك بتوفير حماية أقوى للحدود العراقية». ولعل الاتفاق على ما يسمى بمهمات المرحلة الانتقالية تصب في هذا الاتجاه. كما نراها في البنود المتعلقة بالمحافظة على الحدود التركية والإيرانية، والقيام بإجراءات معقولة للسيطرة على مراقبة تدفق الأشخاص عبر هذه الحدود ومنع تحركات الإرهابيين. كما يجري تحريم وتجريم حزب العمال الكردستاني ومحاربة «أي ملاذ له داخل إقليم كردستان العراق»، كما يجري التعهد بضمانة «عدم وجود أي قواعد لهذا الحزب داخل هذه المناطق، وسوف يمنعونه من زعزعة الاستقرار والإخلال بالأمن أو استعمال القوة عبر الحدود التركية».

ولم يكن مضمون هذه العبارات محكوما بأولوية الرؤية الوطنية العراقية، بقدر ما أنها تشير إلى الاستعداد الفعلي للحفاظ على المصالح الضيقة الخاصة. وإلا فمن الصعب فهم أو تبرير كلمة «الكردستاني» بوصفها الكلمة الجوهرية في أسماء الحزبين!! أما الاستمرار اللاحق لهذه الرؤية الحزبية فقد شق لنفسه الطريق أيضا إلى الموقف من قضايا العراق والقوى العراقية. وفي حصيلتها كانت النتاج غير المرئي في بداية الأمر لضعف الرؤية السياسية الاجتماعية وغلبة فكرة ونفسية الغنيمة. وفيها تنعكس أمزجة الرؤية الحزبية التي تتعامل مع إشكاليات أكراد العراق بنفسية وذهنية الرهينة، أي لا أبعاد اجتماعية حقيقة فيها. من هنا الاهتمام المفرط بفكرة الوساطة والوصاية الأجنبية.

ففي الجزء المتعلق بما أسمته «اللقاءات المستقبلية بين القيادات» تجري الإشارة في الفقرة الثانية منه إلى رغبة الحزبين في أن يكون «أول لقاء في أنقرة واللقاء اللاحق في لندن»! كما توضع ضمن مهمات «هيئة التنسيق العليا» حق طلب «وساطات عالمية» وليس وساطة واحدة! ولا تعني نفسية الائتمان والثقة بالوساطة الخارجية بالنسبة لقوة «قومية تحررية» في بداية معتركها سوى هوة التجزئة العميقة وانعدام الثقة التي ترتقي إلى مصاف الغريزة الحيوانية. ومن الممكن العثور على هذه النفسية في مظهر وباطن اغلب البنود الأساسية للوثيقة. ففي الموقف من الانتخابات لا نعثر من حيث الجوهر على فكرة الديمقراطية والحقوق، التي سوف يجري المتاجرة الرخيصة بها في وقت لاحق، وبالأخص بعد سقوط السلطة الصدامية. إذ ليست البنود المطالبة «بإجراء انتخابات حرة ونزيهة لبرلمان إقليمي جديد» و«الاعتماد على أدق المعلومات الإحصائية المتوفرة حول تعداد السكان للمحافظات الشمالية الثلاث وتوزيع القوميات والمذاهب». و«العمل مع هيئات دولية، بأجراء إحصائية وذلك لتهيئة التسجيل الانتخابي»، سوى الوجه الفعلي على نفسية التجزئة وعدم الثقة والشك وانتشار التزييف والتزوير في الإحصاء والمواقف. وسوف تبرز هذه الممارسة من جديد بعد ظهور أول إمكانية للاندماج الوطني بالعراق بعد فترة «الاستقلال»، التي لم تصنع في هذا المجال سوى نفسية وذهنية التجزئة والانعزال وعدم الثقة. ولعل عبارة معرفة تعداد سكان المحافظات الشمالية الثلاث على أساس «توزيع القوميات والمذاهب» هي الصيغة الأولية المبطنة التي ستكشف عن مضمونها السياسي بعد عام 2003. كما أن التجزئة في المواقف والنيات مازالت عميقة لحد الآن في كل شيء، بما في ذلك تجاه مهمة ما دعته الوثيقة بتوحيد وحدات الميليشيا (البشمركة). وهي نفس الممارسة التي سنراها لاحقا. بمعنى بقاء الميليشيات مجزأة على أساس حزبي، في حين يجري رفعها الآن إلى مصاف «الجيش»!!

مما سبق يتضح، بان دراما «الانفصال الكردي» قد أدت في مسارها السلبي إلى ترسيخ وتعميق ثلاث مكونات (نفسية وذهنية) فاعلة عند الأحزاب القومية الكردية الكبرى وهي كل من:

 

  • نفسية وذهنية الغنيمة،
  • والوساطة والوصاية الأجنبية،
  • والتجزئة والانعزال.

 

 وهي مكونات تراكمت فيها ذهنية ونفسية الأحزاب القومية الكردية في مجرى عقد كامل من الزمن، وجدت طريقها وتهذبت جزئيا من خلال المسار العام أو الخارجي (العراقي) كما نراه في اشتراكها الفعال ومساهمتها في أعمال ونتائج «مؤتمرات» المعارضة العراقية حتى سقوط السلطة الصدامية.

طبعا أن الصيغة الأولية للتوجه العراقي، الذي برز بوضوح في الوثيقة التي جرى توقيعها في واشنطن على اثر الاحتراب الدموي الطويل بين الحزبين، لم تكن نتاجا للرؤية العراقية (الوطنية) الكردية، بقدر ما كانت جزء من رؤية الولايات المتحدة وبريطانيا من جهة، وتركيا من جهة أخرى. وهي رؤية جرى التعبير عنها بوضوح في احد البنود التي تقول، بان الحزبين يتفهمان «بان الولايات المتحدة تحترم هذه التطلعات لجميع العراقيين». ومن أهم هذه «التطلعات» الواردة في بنود الاتفاقية كل من الإقرار «بسلامة ووحدة الأراضي العراقية، والمحافظات الشمالية الثلاث دهوك، أربيل والسليمانية هي جزء من العراق». و«كل من الحزبين دون استثناء يقبلون بالحدود الدولية العراقية»، و«يسعى كلا الحزبين لخلق عراق موحد، تعددي وديمقراطي الذي يضمن الحقوق الإنسانية والسياسية للأكراد في العراق، وجميع العراقيين وفق أسس سياسية مقررة من قبل الشعب العراقي»، ويطمح «الحزبين بعراق مبني على أسس فيدرالية بشرط أن تصان وحدة أراضيه الإقليمية».

لقد قيدت هذه الوثيقة وغيرها، وواقع وإمكانيات الحركات القومية الكردية في العراق والمنطقة، مكونات النفسية والذهنية المتراكمة فيما أسميته بالمسار السلبي للأحزاب القومية الكردية. ونعثر على هذا التقييد فيما أسميته بالمسار العام (العراقي) أو الخارجي لدراما «الانفصال الكردي»، أي كل ما نعثر على مفاصله في اختلاف وتباعد وتقارب وتمازج وتناقض وتوافق الهمّ الكردي والهمّ العراقي. وهي عملية طبيعية في ظل

 

  • انحطاط الدولة المركزية بعد سلسلة الحروب الداخلية والخارجية التي لازمت كل زمن الدكتاتورية الصدامية،
  • وفي ظل تنامي الوعي القومي الكردي المحكوم منذ البدء باختلاف أصوله عن العرب واغترابه عن العراق بالمعنى التاريخي والثقافي.

 

ومن هذين المكونين (السياسي القومي والتاريخي الثقافي) تراكمت عناصر الفكرة العرقية والانعزالية في أيديولوجيات الأحزاب القومية الكردية. وهي عملية متناقضة يصعب الحكم عليها بصورة وحيدة الجانب، إلا إننا نستطيع تتبع ملامحها الكبرى المتراكمة في وعي ولاوعي الأحزاب القومية الكردية في غضون العقد «الحاسم» من زمن «الحواسم» التوتاليتارية والدكتاتورية.

ففي نص ميثاق العمل الوطني المشترك المنعقد في دمشق بنهاية عام 1990 نعثر على فكرة «إنهاء ممارسة الاضطهاد القومي» وكذلك مطلب «إلغاء سياسة التمييز القومي وإزالة الآثار السياسية والسكانية لمحاولة تغيير الواقع القومي والتاريخي لمنطقة كردستان العراق، وحل المشكلة الكردية حلا عادلا، ومنح الكرد حقوقهم القومية والسياسية المشروعة من خلال تطبيق وتطوير بنود اتفاقية 11 آذار سنة 1970 نصا وروحا».

في حين نرى تغير النبرة والصيغة بعد الأحداث الدرامية لعاصفة الصحراء وفشل الانتفاضة وظهور «المنطقة الآمنة» في شمال العراق. ففي البيان الختامي الصادر عن الاجتماع الموسع للمؤتمر الوطني العراقي الموحد المعقود في أربيل عام 1992 نعثر للمرة الأولى على صيغة سياسية عامة وأولية لفكرة الفيدرالية. ففي احد بنود النص المتعلقة بالنظام السياسي البديل في العراق نقرأ ما يلي:«إقامة البديل الذي يستجيب لإرادة الشعب ويتمثل في النظام الدستوري البرلماني الديمقراطي الفيدرالي التعددي، الذي يلغي التمييز والاضطهاد العنصري».

وفي هذه الوثيقة تبرز للمرة الأولى حدود القضية الكردية بصورة مستقلة وقائمة بحد ذاتها. حيث تجري الإشارة في نص الوثيقة إلى أن الاجتماع المذكور أعلاه في مجرى «دراسة القضية الكردية وسبل الحل المنشود أكد حقيقة التنوع والتعدد في تركيبة المجتمع القومية... وأجمع على أهمية تعزيز وترسيخ الوحدة الوطنية الطوعية والمساواة التامة بين جميع المواطنين، معبرا عن احترامه للشعب الكردي وإرادته الحرة في اختيار الصيغة المناسبة للشراكة مع أبناء الوطن الواحد». أما بصدد الفكرة الفيدرالية، فإننا نعثر على العبارة التالية:«وتوقف عند قرار الاتحاد الفدرالي، وناقش صيغة وتجارب النظام الفدرالي واعتبره يمثل صيغة مستقبلية لحكم العراق ينبغي الاستناد إليها كأساس لحل المشكلة الكردية في أطار المؤسسات الدستورية الشرعية». واستكملها بفكرة أن وحدة العراق والتعايش بين قومياته ينبغي أن تبنى «على أساس الاتحاد الاختياري». كما شدد الاجتماع على «تلبية المطامح المشروعة والعادلة للشعب الكردي وتصفية جميع مظاهر الاضطهاد والقمع العنصري على أساس المبدأ القانوني الذي يقر حقه بتقرير المصير».

أما في البيان الختامي الصادر عن اجتماع المعارضة العراقية في نيويورك 1999 فإننا نعثر على عبارة الإقرار بالحقوق «القومية المشروعة لشعب كردستان العراق على أساس الفدرالية». وهي فكرة أكدت عليها وثيقة البيان السياسي لمؤتمر المعارضة العراقية المنعقد في لندن نهاية عام 2002.

فمن بين الفقرات المتعلقة بالقضية الفيدرالية نعثر على ما يلي: «العراق دولة ديمقراطية برلمانية تعددية فدرالية (لكل العراق)». وان المؤتمر يعبر عن احترامه لشعب كردستان وإرادته الحرة في اختيار الصيغة المناسبة للشراكة مع أبناء الوطن الواحد. كما «توقف المؤتمر عند تجارب النظام الفدرالي واعتبره يمثل صيغة مناسبة لحكم العراق ينبغي الاستناد إليها كأساس لحل المشكلة الكردية في إطار المؤسسات الدستورية العراقية بعد القضاء على نظام صدام الدكتاتوري وإحداث التغيير المنشود». أما في مجال المشاركة السياسية، فقد أكد المؤتمر على «ضرورة إشراك جميع مكونات الشعب العراقي من العرب والأكراد...». وفي موقفه من سياسة السلطة الصدامية تجاه الأكراد أكد على إدانته لما «يتعرض له شعب كردستان العراقي من تمييز وقهر واضطهاد منظم من قبل نظام صدام العنصري» و«تهجير قسري وتطهير عرقي واستخدام الأسلحة الكيماوية وتغيير الهوية القومية وتغيير في الواقع القومي لمناطق كركوك ومخمور وخانقين وسنجار والشيخان وزمار ومندلي». كما أكدت الوثيقة في موقفها من فكرة حق تقرير المصير على ما أسمته بتلبية «المطامح المشروعة والعادلة لشعب كردستان وتصفية جميع مظاهر الاضطهاد والقمع على أساس المبدأ القانوني الدولي الذي يقر حقه في تقرير المصير».

ولا تخرج جميع الوثائق اللاحقة من حيث المضمون على ما جرى استعراضه بصورة مكثفة لما يمكن دعوته بالمطالب القومية الكردية المتراكمة في مجرى عقد من الزمن. فعندما نقارن بين الوثيقة الأولى الصادرة عن قوى «المعارضة العراقية»، أي «ميثاق العمل الوطني المشترك المنعقد في دمشق بنهاية عام 1990» وبين آخر وثيقة مشتركة كبرى بهذا الصدد، أي وثيقة «البيان السياسي لمؤتمر المعارضة العراقية المنعقد في لندن نهاية عام 2002»، فإننا نقف أمام تغيرات جوهرية فيما يتعلق بالأولويات في مواقف الأحزاب القومية الكردية من النفس ومن العراق. بمعنى التحول من الحد الأقصى آنذاك والقائم في «تطبيق وتطوير بنود اتفاقية 11 آذار سنة 1970 نصا وروحا» إلى فكرة الفيدرالية السياسية والقانونية وحق تقرير المصير وإعادة النظر بتغيير التركيبة القومية لبعض المناطق.

بينما نراها تخفف بشكل درامي قبل الغزو الأمريكي وظهور خطر التدخل التركي من سقف مطالبها. ففي البلاغ الختامي للاجتماع الأول للجنة التنسيق والمتابعة للمعارضة العراقية المنعقد في أربيل في نهاية شباط بداية آذار عام 2003، أي قبيل الغزو الأمريكي بأسابيع نقرأ ما يلي:«نمد يد الصداقة والتعاون إلى الجمهورية التركية ونؤكد لها أن إخوتنا الكرد وسائر الأطراف المعارضة العراقية يرفضون تقسيم العراق ويؤمنون بعراق موحد». وان المؤتمر يؤكد على «رعاية اهتمامات تركيا الأمنية المشروعة» و«يدعو الحكومة التركية إلى حوار مباشر وصريح وبمشاركة أميركية لنؤكد لها حقيقة أهدافنا المتمثلة في العراق الموحد» و«تعزيز وحدته الوطنية على الأسس الديمقراطية والفدرالية وحق المواطنة».

بعبارة أخرى، إن الأحزاب القومية الكردية لا تجرأ على الحديث باسمها، بل يجري توكيل الأمر للعراقيين (العرب) حالما تحس بعنف القوة المعارضة. وهو أمر يشير إلى الضعف التاريخي الذاتي للحركة القومية الكردية، أكثر مما يشير إلى «تكتيك» السياسة العقلانية، كما سيجري الحديث عنه بعد سقوط السلطة الصدامية والإعلانات العديدة عن «إقامة الدولة الكردية» و«الانفصال» وما شابه ذلك. لكنها إعلانات ليست غريبة أو أنه كان يستحيل توقعها، بقدر ما أنها كانت تتراكم في مجرى الزمن اللاعقلاني للدولة العراقية، التي جعلت من العرقية المبطنة أسلوب القوة المفتعلة للأحزاب القومية الكردية. ولعل من بين أهم الأفكار التي تراكمت في مجرى التسعينيات من القرن العشرين، التي ساهمت في إذكاء الأيديولوجية العرقية عند الأحزاب القومية الكردية (والتي وجدت طريقها إلى «الوثائق» المشتركة للقوى السياسية المعارضة المكتوبة باللغة العربية) تجدر الإشارة إلى خمس وهي:

 

  1. 1.فكرة الاضطهاد العنصري والتصفية العرقية والتهجير ضد الأكراد (لا وجود لكلمة تعريب)،
  2. 2.فكرة الاتحاد الفيدرالي ضمن المؤسسات الشرعية الدستورية العراقية (وليست القومية)،
  3. 3.فكرة الاتحاد الاختياري (دون حق الانفصال)،
  4. 4.فكرة حق تقرير المصير على أساس المبدأ القانوني الدولي (مع الإقرار بمبدأ وحدة أراض العراق)،
  5. 5.فكرة ضرورة إعادة النظر بتغيير الواقع القومي لمناطق معينة (دون فكرة الاستفتاء حول مرجعية كركوك أو ضمها إلى «كردستان» العراق، أو فذلكة «كردستانية» كركوك!!).

 

لقد كانت هذه الأفكار جزءا من زمن الانحطاط الشامل للدولة العراقية. وبهذا المعنى تتمثل بعض جوانب الرؤية "البراجماتيكية" في الموقف من تحصين النفس ضد ظاهرة الخروج على منطق العدل والمواطنة والحقوق التي جسدتها مركزية السلطة (وليس الدولة) في احد نماذجها الأكثر همجية. وهو تحصين يعكس ما أسميته بالمسار الذاتي أو الداخلي لتراكم «الانفصال» القومي الكردي. وفيها ومن خلالها تراكمت أيضا نفسية وذهنية الغنيمة، والوساطة والوصاية الأجنبية، والتجزئة والانعزال. وهي نفسية وذهنية تعبر عما يمكن دعوته بالقوة الضعيفة، أي الحالة التي تجتمع فيها مظاهر القوة المستلبة. بمعنى وحدة الابتزاز والخنوع. فكلما يزداد ضعف الدولة وقوى المعارضة، كلما تزداد مطالب الأحزاب القومية الكردية. والعكس بالعكس. وفي هذا يكمن سر ما أسميته بانحطاط الأحزاب السياسية القومية الكردية. وليس اعتباطا أن نرى هذا الرمي السريع للأبعاد القانونية والوطنية العامة والعراقية بعد أول شعور بالنصر (وليكن مزيف من حيث قدرته الذاتية)، والإبقاء على «الأبعاد الكردية» و«تطويرها» في مطالب جديدة في مجرى الفوضى التي لفت العراق وما تزال تلف مرحلته الانتقالية من تقاليد الاستبداد إلى الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي. وهو السر الذي يفسر المغامرات والمؤامرات والتصعيد المستمر من جانب الحركات القومية الكردية (والبارازانية بشكل خاص او بشكل علني) لفكرة مركزية الدولة.

ونعثر على هذه الظاهرة في «تطور» الأفكار الخمس المشار إليها أعلاه، بحيث تحولت فكرة محاربة الاضطهاد العنصري التي سلكتها السلطة ضد الأكراد إلى سياسة عنصرية كردية ضد العرب والتركمان والآشوريين. حيث اتخذت أبعادا تكشف حقيقة المجرى المبطن للادلجة السياسية التي سلكتها الأحزاب القومية الكردية في مجرى عقد من الزمن. بحيث استطاعت أن ترسي أسس ما يمكن دعوته بنفسية الانغلاق والعداء (للجميع). إذ لم تعد تفرّق، كما هو جلي في الخطاب الجماهيري والنفسية الاجتماعية للقومية الكردية الواسعة الانتشار، بين سياسة السلطة والقومية. مما جعل من الفكرة القومية الكردية مجرد نفسية عداء تجاه العرب والعروبة، التي أصبحت تتماهى في العبارة الكردية مع ظاهرة سلبية!! رغم أن كل ما يمتلكه الأكراد في العراق هو من فضيلة وجودهم فيه. بل يمكن القول، بان وجود الأكراد بمقاييس التاريخ والثقافة غير معقول بدون العرب والعروبة بوصفها فكرة ثقافية. بينما تحولت كلمة العربي والقومي العربي والعروبيين والشوفينية والفاشية إلى مترادفات في الخطاب القومي الكردي!! بل أنها أصبحت محل اتهام سياسي شنيع، بحيث نرى نموذجها الخفي يظهر للعلن في مجرى الصراعات الكردية الكردية، كما هو الحال على مثال الخلافات بين الأحزاب القومية «العلمانية» و«الإسلامية» في انتخابات نهاية 2005، حيث نعثر على العبارة الأكثر انتشارا واتهاما ودعاية في موقفهم من خروج الحزب الإسلامي من القائمة الكردستانية، هو وصفه بعبارة «عميل للعرب»!! وان الإسلام ليس إلا الصيغة الظاهرية للسيطرة العربية!! وهي أوصاف تطلقها أحزاب لم يكن تاريخها بهذه المعايير أكثر من زمن الخضوع لأكثر السلطات العربية والتركية والإيرانية والأمريكية والإسرائيلية، التي مارست مختلف أصناف التنكيل والخديعة بالأكراد أنفسهم!! وهي صيغة لا علاقة لها بالفكرة القومية، بقدر ما أنها تعكس مستوى الانحدار صوب الفكرة العرقية.

بينما تحولت فكرة الاتحاد الفيدرالي ضمن المؤسسات الشرعية الدستورية العراقية إلى «فيدرالية عرقية»، بحيث يمنع على العربي أو غيره شراء دكان في «كردستان» التي تعيش بأكملها على مساعدات العراق!! بينما تحولت فكرة الاتحاد الاختياري إلى أسلوب الابتزاز السياسي الفارغ بحق الانفصال، وذلك ليس فقط لصعوبة بل ولاستحالة القيام به، لأنه يعادل من حيث الجوهر الانتحار، خصوصا بالنسبة لأحزاب لم يشكل الهمّ الاجتماعي بالنسبة لها بعدا جوهريا.

في حين تحولت فكرة حق تقرير المصير على أساس المبدأ القانوني الدولي إلى صيغة أيديولوجية للمؤامرة والمغامرة. بمعنى أنها لم تعد جزء من تعميق وتنظيم فكرة النظام والحرية على مستوى الوعي الفردي والاجتماعي، بقدر ما أصبحت أداة للابتزاز السياسي والقومي.

 بينما تحولت فكرة ضرورة إعادة النظر بتغيير الواقع القومي لمناطق معينة من قضية حقوق المواطنة والعدالة الاجتماعية والاقتصادية والقيم الإنسانية إلى مطلب الاستفتاء حول مرجعية كركوك وضرورة ضمها إلى «كردستان» العراق بوصفها «قدس الأقداس» الكردية! وليس اعتباطا أن تتحول «قضية كركوك» والمادة 58 من القانون المؤقت وحشرها في «الدستور الدائم» (المادة 140) (حشر مطلب مؤقت في دستور دائم!!) سوى الصيغة الأكثر فجاجة لمعالم الانحطاط السياسي للأحزاب القومية الكردية.

أما ذروة هذا الانحطاط فهو تغلغل السيطرة العرقية بوصفها الصيغة الأكثر تخلفا للنزوع التوتاليتاري القومي. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار مستوى وطبيعة الحالة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للقومية الكردية، فمن الممكن توقع نمو إخطبوط الرذيلة السياسية المترامية ما بين القمع المباشر وغير المباشر والتحكم بالروح والجسد إلى الرشوة والسرقة والابتزاز السافر. ولعل انتخابات نهاية 2005 والفوز «الساحق» للحزبيين الكرديين بين الأكراد، الذي يصل إلى نسبة 95% هو الوجه الآخر لهذه الحالة. بمعنى إننا نقف أمام حالة صلبة صلدة لا تنوع فيها ولا اختلاف، أي لا حياة فيها لغير الكبت المرفوع، تحت يافطة الإكراه والتزوير والضغط العرقي، إلى مصاف «الوحدة القومية». ومن ثم لا يعني «الفوز الساحق» سوى السحق التام لفكرة الديمقراطية والتنوع الاجتماعي ومضمون الحياة المدنية والحرية. بعبارة أخرى، لم يكن «الفوز الساحق» سوى بداية الانكسار التاريخي للفكرة العرقية الكردية. وهي عملية يمكن رؤية ملامحها الأولية في البرنامج الانتخابي لقائمة التحالف الكردستاني لانتخابات نهاية 2005. حيث نعثر هنا على بروز وتنامي خجول للفكرة العراقية العامة من خلال تعميم الموقف المتعلق بحل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتربوية والاتصالات، بحيث يشمل العراق كله. غير أن «البرنامج السياسي» مازال يعاني من ثقل «مرحلة الانفصال» وبروز العقدة العرقية. ففيه نرى أولوية العمل من «اجل تعزيز أواصر الصداقة والمحبة والإخوة بين الشعبين العربي والكردي وسائر المكونات الأخرى في العراق»، والعمل من اجل «استتاب الأمن والاستقرار في أنحاء العراق»، و«إدانة جميع أشكال الإرهاب في العراق». إلا إننا نرى في نفس الوقت نفسية الاستحواذ على الأقليات الأخرى من التركمان والآشوريين والأرمن واليزيديين والشبك من خلال تبني مهمة الدفاع عنهم. بينما هي مهمة هذه المكونات. كما لا يحق للعرب تبني قضية الأكراد. فنسبة هذه الأقوام للأكراد هي أكثر من نسبة الأكراد للعرب في العراق.

بعبارة أخرى إننا نقف أمام نفسية الوصاية المخفية بحب الاستحواذ وذلك لان فكرة الحرية تفترض نشاط المكونات العراقية من اجل الخير العام، وليس تبني مصالحها بالضد من الآخرين، كما نراه على سبيل المثال في الفقرة التي تقول باعتزاز التحالف الكردستاني(!) «بنضال الايزديين ومقاومتهم الباسلة ضد مشاريع التعريب وبرامج إلغاء الهوية القومية». وهي صيغة مبتذلة لمحاولات «تكريدهم»!! والقضية هنا ليست فقط في حماقة الصياغة بل وفي جعل الاعتزاز «بمقاومة التعريب» مادة من مواد «البرنامج السياسي»!! غير أن هذه القضايا تبقى جزئية ويمكن فهمها بمقاييس الصراع السياسي من اجل كسب الأصوات في زمن الانتخابات، مقارنة بقضية «كركوك» وإعادة ربط مناطق معينة بإقليم «كردستان»، أي بحصيلة روح الغنيمة التي سال لها لعاب الغدة العرقية الكردية بعد سقوط السلطة الصدامية. والقضية هنا ليست فقط في كونها لم ترد في أي من مواد الاتفاقات السياسية (وليس القانونية) التي تراكمت في وثائق «المعارضة العراقية»، بل وفي بروزها المفاجئ، الذي يعكس تراكم نفسية الانغلاق والانعزال والغنيمة. وهي مكونات لا يمكنها الصمود طويلا في واقع العراق الحالي والمستقبلي.

مما سبق تتضح بعض معالم العملية المتناقضة لصعود وهبوط الأحزاب السياسية القومية الكردية. وهو صعود كان يلازم من الناحية التاريخية هبوط الدولة العراقية وانحطاطها المادي والمعنوي. من هنا يمكن النظر إلى صعود وبأس الأحزاب القومية الكردية الحالية على انه الوجه الآخر لهبوط الدولة العراقية وبؤس الجماهير الكردية. وهي نتيجة يمكن رؤيتها بجلاء في كل من انحسار الفكرة القومية الكردية في نزعة عرقية ضيقة، واختزال برامجها السياسية العملية إلى كركوك + حلبجه + الفيدرالية الكردية + المادة 58 من القانون المؤقت (أي كركوك أيضا) (او المادة 140 في القانون الدستور الدائم!). إضافة إلى خلو الخطاب والممارسة العملية لهذه الأحزاب من مهمة تعميم التجارب السياسية بالشكل الذي يسهم في بناء الدولة الشرعية.

أما الهمّ الدفين الأكبر فهو محاولة توظيف كل ما يمكن توظيفه من اجل جني أرباح وهمية يحددها بقاء وفاعلية نفسية وذهنية الغنيمة والعداء العنصري للآخرين بشكل عام والعرب بشكل خاص. وهي نفسية وذهنية لا يمكنها أن تؤدي في نهاية المطاف لشيء غير العداء للعراق. وفي هذا يكمن مضمون الانحطاط التاريخي للأحزاب السياسية القومية الكردية الحالية. وشأن كل مضمون تاريخي فانه رهن الإرادة السياسية والرؤية النقدية ومنظومة القيم الواقعية والعقلانية. بمعنى أن السقوط ليس مصيرا ملازما لها، ومن ثم يمكن تذليله في حال إعادة النظر النقدية بمجمل الفكرة القومية الكردية ونموذج تجسيدها على أسس الواقعية والعقلانية العراقية (الوطنية العامة)، وليس القومية الضيقة او العرقية (الكردية او الكردستانية).

***

  

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2076 السبت 31 / 03 / 2012)


في المثقف اليوم