قضايا وآراء
ماذا أعطى الدين للحياة؟ / زكي السراجي
فمن المتدينين الدين يستحيل أدياناً، وكل طائفة دينها يستند إلى إقصاء الآخر والعمل على تصيد عثراته، وتكبير زلاته والعمل على إعلانها وكأنها كوارث تترفع عنها تلك الطائفة التي عملت على نفخها وتضخيمها، ولو قيل أن هذا الفعل الذي تستنكره هذه الطائفة الدينية يفعله كبارها كذلك تجد أن لسان التبرير والمبررات يبدأ ولا ينتهي!!
أ ليس من الإنسانية أن تنصف خصمك من نفسك كي تكون شريف الخصومة وتلك سمة تحفظ للمخلوق إنسانيته؟؟!! فليس من الإنصاف أن ترى كبائر مصائبك وأخطاء طائفتك صغائر بل تبرر لها حتى تهونها في عين الناظر إلى أن تكون توافه، وبالمقابل ترى صغائر خصمك مصائب وبلاءات وكوارث، بل تجعل من هذه الصغائر تنينا مخيفا يتحمل سبب الدمار الذي مرت وتمر به البشرية.
[قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له: ألا انه من ينصف الناس من نفسه لم يزده الله إلا عزا .]( وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 15 - ص 283) هذا من عمل الدين في الحياة، فالإنصاف في العمل والتعاطي مع الحياة كفيل بتهيئة أرضية صالحة لقيام الأسس الأخلاقية التي عليها يكون البناء العلمي والحضاري بناء صالحا للحاضر مصلحا للقادم، فحضارة تقام من دون أن تستند إلى أسس أخلاقية ثابتة غير متغيرة هي حضارة تحمل بذور انهيارها معها بحيث تنمو بنمائها الخارجي حتى تصل إلى ذروة الإعمار المادي لتجد أنها بقبال الانهيار الخلقي والنفسي الكامل.
لقد أعطى الدين للحياة هويتها الحقيقية وبين وظيفتها في هذا العالم ووظيفتها في غير هذا العالم، وأعلن صراحة أن وظيفة الحياة في هذا العالم هو العمل للعودة إلى الله سبحانه، وليس العمل للبقاء فيها، ولكننا نجد أن المتدينين في غالبيتهم العظمى إلا ما ندر يزيفون رسالة الدين في توظيف الحياة ليشيعوا ثقافة إرضاء الناس على حساب الحقيقة، فيعطون للناس من الدين ما تحب ويعمدون إلى المتشابهات ليجيروها لصالح رغبات الناس، ويبتعدون بصورة متعمدة عن كل ما من شأنه أن يكشف للناس وظيفة الحياة في هذا العالم، وهذه أعظم خيانة تقوم بها المؤسسات الدينية حيال الناس الذين استحكم الظن عندهم أن من يمثل الدين هو تلك المؤسسات الدينية.
بيّن الدين أن الحياة جعلها الله سبحانه مدرسة لخلقه كي يعبدوه، ويثبتوا في عبادتهم إياه سبحانه معرفتهم به، فالعبادة بحقيقتها هي كاشف عن حقيقة المعرفة، فالعبادة عمل، والعمل تكون إجادته ودقته منوطة بمعرفة العامل به، والعجيب أن الناس تعمل بهذا المنطق الصحيح في ساحة الدنيا ولكنهم في ساحة الله سبحانه يتغاضون عنه حتى كأنهم لا يعرفونه، فكل امرئ حتى يتقدم إلى عمل ما فهو يجتهد في التعرف عليه والتدرب على ممارسته لإتقانه لأنه يعلم أن قبول العمل منوط بأدائه وأداؤه مرهون بمعرفته.
فالدين أعطى للحياة المعرفة وبين لها منهجها وغايتها، فماذا فعل الناس؟؟!! أخذوا المنهج وأفادوا من الإمكانات المعرفية التي زودهم بها بارئهم سبحانه ليذهبوا ويعملوا بها في غير ساحته سبحانه، وليقولوا بعد ذلك أنهم علماء وحكماء وفقهاء!! والدليل ما أنتجوه وكتبوه وصنعوه وطوروه في الحياة المادية، ولولا علمهم وعقليتهم المتطورة ـ بحسب ما يزعمون ـ لما بلغ الناس اليوم من الحضارة ما هو موجود، ويتوهمون أن عمارتهم للأرض هي هذه الحضارة، كما يتوهمون أن حالة الاعمار التي تعيشها الأرض اليوم لم يسبق اليها سابق!! فينقض الحق سبحانه توهمهم هذا بقوله جل وعلا{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(الروم/9) فهذه الآية الكريمة تقيم الدليل على الناس أن ما يتوهمونه اليوم من أنه عمل لم يسبقهم إليه سابق فهم مخطئون بل هناك من سبقهم وقدم أكثر وربما أعظم مما يقدمون اليوم، ولكن هذا العمل الذي يقدمونه لا قيمة له في ميزان الله جل وعلا، قال تعالى{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً}(الفرقان/23).
ووقع السابقون بالوهم نفسه الذي يقع به اليوم المفتتنون بالحضارة المادية وما يجتهدون في صنعه وتطويره وكأنهم خلقوا لهذا العالم، مع أن الرسل والأنبياء (ع) في كل زمان يصرخون فيهم؛ انتبهوا إلى حبائل الغفلة المردية في الهلكات، فهذا الذي تتوهمونه عملا وتقدما وتطورا سبقكم إليه سابقون وكان عملهم أكبر من عملكم وأعظم ولكن عاقبتهم إلى أين؟؟!!
فلو كان الخالق سبحانه خلق الناس في هذا العالم ليعمروه ماديا ويشيدوا فيه الحضارات والصناعات المادية، يكون ـ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ـ ظالما لهم إذا أرسل عليهم العذابات والمثلات التي تنقض كل هذا البناء الذي تعبوا وأنفقوا فيه الأموال والأرواح حتى يستوي إلى ما استوى عليه!! وهذا القول لا يقول به عاقل، فالله سبحانه هو الحكيم العادل، إذن ما هذه المثلات التي تنقض ما بنى الناس من حضارات مادية إلا ليتبين لهم أنهم ينهمكون في البناء في المكان الخاطئ، فهم يعمرون دارا سيرحلون منها عاجلا أو آجلا، وعمارتهم لهذه الدار هو على حساب تخريبهم لدار هم صائرون إليها شاؤوا أم أبوا، وتلك الدار الصائرون اليها هي دار بقائهم وإقامتهم، وهذه الدار هي دار ظعنهم ورحيلهم.
ولولا هذه الحقيقة لجعل الله سبحانه بقدرته وسلطانه هذه الدنيا بكل ما فيها لأنبيائه ورسله وأوصيائه (ع) يتوارثونها واحدا بعد واحد لأنهم أحق بعمارتها كونهم الاصلح لقيادة الناس فيها وتدبير شؤونها، ولكن هذه الدنيا ليست سوى دار امتحان وابتلاء تتمحص فيها النفوس ليميز الله سبحانه الخبيث من الطيب، فتسقط حجة الخبيث ويجني الطيب ثمرة عمله الطيب، قال تعالى {مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}(آل عمران/179).
فالدين أعطى للحياة شريعة (دستورا) ينظم حركة البلاد والعباد، وأعطى الحياة قائمين على هذه الشريعة حافظين مستحفظين واحدا بعد واحد ليقوموا بتنفيذ شريعة الله على الأرض ليعدوا الناس ويطهروا أنفسهم للانتقال إلى عالم الملكوت، عالم الطهارة والخير والصلاح، ولذا فهم (ع) رسل خير وصلاح وإعداد لما يرضي الله سبحانه، وبخلافهم وخلاف منهجهم يقوم المنهج البشري القاصر نظره على هذا العالم المادي ويتوهم أن العمل لهذا العالم حسب، أما العمل لغير هذا العالم فهو شأن شخصي لا علاقة لمنهج الحياة العامة به!! وهذا لعمرك من مصائب هذا المنهج!
فالمنهج البشري الذي اجتهد في تزييف عطاء الدين للحياة واستلب عنوانه قد أفقد الحياة هويتها وواقعيتها، وصيرها ساحة لتنافس الشهوات والإرادات البشرية فشاع فيها القتل والنهب والسلب والإقصاء، والعقم الفكري بعد أن استلبت الإنسان إرادته في البحث عن إنسانيته الحقيقية، وجندت كل إمكاناتها لمحاربة الدين الإلهي، كما عمدت إلى المؤسسات الدينية وشجعت فيها الخطاب الخلافي والتنازعي ليقولوا للناس : لاحظوا منطق الدين هو منطق التفرقة والتناحر والتنازع، والمنهج البشري هو الكفيل بالحفاظ على أن يعيش كل المختلفين تحت خيمة واحدة اسمها في زمننا هذا (الديمقراطية)، وواقع الحال أن الخطاب التنازعي والتناحري هو صنيعة المنهج البشري، فليس في المنهج الإلهي أديان وتعدديات بل هو دين واحد، وقائد الهي واحد في كل زمان، فالحق سبحانه تصرخ كلماته في وجوه هؤلاء المتقولين على الله سبحانه بقوله الكريم{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}(النساء/82).
لقد خدعتنا المؤسسات الدينية بصناعة التفرقة والتنازع فصيرت هذا يهودي فعليه أن ينغلق على يهوديته، وهذا نصراني وعليه أن ينغلق على نصرانيته، وهذا مسلم وعليه أن ينغلق على إسلامه ولا ينفتح على الاخر للبحث عن الحق والحقيقة، ليتبين له أن دين الله واحد نزل من عند الواحد، بل وصل الحال من التشتت والتمزق إلى أهل الدين الواحد فاليهود فرق وطوائف، والمسيحيون كذلك، والمسلمون كذلك فصار من العسير على الناس أن تجتمع وأن تتحلى بخلق الانصاف والبحث الجاد عن الحقيقة ومن يمثلها.
ليس لدى الدين غير الكلمة السواء التي يقدمها في كل زمان للناس فإن قبلوها فازوا وسعدوا، وإن تكبروا عليها وحاربوها خسروا ونكسوا وذاقوا الويلات، وليس أدل على ذلك من أن الباحثين عن الحق قد بينوا هذا الأمر بيانا لا مجال لإنكاره إلا بالجحود، وأضرب هنا مثالين على هذا البحث الجاد عن الحق في مسيرة سلمان الفارسي (رضوان الله عليه) الذي ترك دين آبائه وشرع في رحلة طويلة يبحث عن الحقيقة حتى وقع عليها فتمسك بها ودافع عنها وضحى من أجلها، والصورة التاريخية الناصعة الأخرى هو وهب النصراني الذي اختلط دمه الشريف بدماء العترة الطاهرة في طف كربلاء، ويالها من مفارقة فاضحة للنهج الجاهلي البشري!! حيث يحارب الحسين (ص) قوم يدعون أنهم مسلمون وينصر الحسين (ص) رجل نصراني ليس على دين الحسين (ص) في الظاهر!!
وهنا يكشف الدين عن ميزانه الحق في الحياة حيث فاز وسعد وهب النصراني بنصرته للحسين (ص) واستشهاده معه، وخاب وخسر من كان يدعي أنه على دين الحسين (ص) وقاتله وحاربه بل وخذله ولم ينصره، مثلما فاز وسعد بلال الحبشي العبد الأسود (في عرف سادة قريش) وخسر وخاب وخسئ أبو لهب وأبو جهل وأبو سفيان وهم سادة قريش وكبراؤها!! أرأيتم كم هو البون شاسعا بين ميزان الدين الحق، وميزان البشر الظالم الجائر؟؟ فهل من ينتبه ليشرع في رحلة البحث عن الحق والحقيقة ليكون من الفائزين؟
............................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2077 الأحد 01 / 04 / 2012)