قضايا وآراء

في غزَل الشاعر الياسري .. قول في الغزل الجريء واشياء اخرى (3) / خالد جواد شبيل

في نهاية عشرينات القرن الماضي، أحدثت حينها ردود فعل واسعة بإعتبارها إعلانا عن ولادة أو إحياء ما اصطلح عليه بالادب المكشوف الذي ازدهرفي العصر العباسي والعصور التي أعقبته تحت أسم "أدب المُجون"، والذي عجت به مظان الأدب في النثر والشعر. وكان الشاب الشيخ محمد مهدي الجواهري سليل العائلة الدينية المشهورة في النجف قد أزاح العُمَّة عن رأسه ونزع الجُبّة وذهب مع صديق له وشربا كؤوسا مترعات في أحد ملاهي بغداد " ملعبا أسرجته غيد ورود" ثم ذهب مع صديقه الى دور الخلاعة نشدانا للذة ...وكانت ليلة مشهودة:

ليلة تُعصِب التقاليد في الناس***وتُرضي مشاعراً حسّاسه

(نشرت القصيدة في جريدة العراق ع:2897 في 18 ت1 عام1929) ومطلعها:

كم نفوسٍ شريفة حسّاسة***سحقوهن عن طريق الخساسة

وأهمية القصيدة لا تكمن بالبراعة الفنية ولا بالسرد الشعري ولا بالسلاسة اللفظية ولا بثراء المخيلة ولا بالوصف الدقيق فحسب وإنما بجرأتها وتجاوزها المألوف من القيم والتقاليد في مجتمع ديني محافظ، أُريدَ فيه للجواهري أن يكون فقيها كأبيه وجده أو على الأقل قاضيا كأخيه عبد العزيز..لقد ذاعت القصيدة وانتشرت وقرأها الناس وانقسموا بين معارض ساخط متبرم وبين راض كل الرضى سعيد كل السعادة، وإنني أجزم أن الساخطين تمتعوا بها وبأجوائها الغريبة مثل الراضين إن لم يكونوا أكثر منهم! لم يأبهِ الجواهري بالعاصفة وما هي الا سنوات ونشر "جربيني" ثم بادر بالهجوم على الرجعيين في قصيدة" الرجعيون":

ستبقى طويلا هذه الأزماتُ***إذا لم تقصِّر عمرَها الصدماتُ

والسؤال الذي يهمُّنا: هل كان المجتمع النجفي مجتمعا متزمتا منغلقا على نفسه كلَّ الإنغلاق؟  هو مجتمع محافظ بلا شك نظرا لقداسة المدينة التي تضم مرقد الإمام علي بن أبي طالب، حيث تذكر بكثير من الإجلال فهي "النجف الأشرف"، وهي "الغري" وهي "أرض الذكوات" وهي "المشهد"... لكنها  في الوقت ذاته مدينة متفتحة على كل الثقافات والأديان رغم الطابع الشيعي، فمدارسها وجامعاتها تستقبل الطلاب من مختلف المذاهب ومن مختلف البلدان، فيها حي لليهود"عقد اليهود" وفيها النصارى من مدرسين وأطباء ، وفيها لوقت قريب جامع للسنة وفيها نفر قليل من الهندوس، ناهيك عن الإيرانيين والهنود والسنود والأفغان... إنها مدينة أممية متسامحة.

كانت "المقتطف" من المجلات التي تأتي من مصر يحررها نخبة من المثقفين اللبنانيين يعقوب صروف ونيقولا حداد وشبلي شميل وفرح أنطوان ... الذين هاجروا من العسف العثماني وشدوا الرحال الى مصر وأسسوا مجلات ثقافية كالأهرام والهلال، إلا أن المقتطف هي أكثرها تميزا بالافكار الجديدة في الأشتراكية والفلسفة ونظرية دارون في النشوء والارتقاء... مما استقطبت كثيرا من القراء في المدينة وصارت حديث النُخب..كما كان للجيل الثاني من الكتاب المصريين دور كبير في إذكاء الفكر اللبرالي المتسامح بفضل كتابات سلامة موسى وطه حسين والعقاد(في بدايته كان ذا ميول يسارية) والمنفلوطي، وزكي مبارك وصاحب "الرسالة" لاحقا أحمد حسن الزيات، والأخيران عاشا ودرّسا في بغداد، وزِد على ذلك تأثيرات شعراء المهجر المتفتحين للحضارة الغربية  مع الحضارة العربية...إن هذه العوامل ساهمت في إغناء الحياة الفكرية في النجف وسهّلت قبول كل ما هو جديد في الفكر والثقافة والسياسة. ولا نود الإستغراق في هذا المجال أكثر.

بيد أن حظها من اللهو ووسائله معدوم، فلا سينما ولا مسرح ومجال الرياضة محدود جدا فلا مسابح ولا قاعات رياضية مغلقة ولا ولا..والشعر هوالسلعة  التي لا تبور في المدينة بعد الفقه! والفصل بين الجنسين تام والعقد الإجتماعي صارم، فالمرأة النجفية متلفعة بعباءتها السوداء لا يُرى منها الا الوجه وهذا ما أجازته الشريعة: قرص الوجه والكفين، والباقي معابة إن لم يكن عورة!! والشباب لا ينظرون الى الشابات ملء النواظربل يختلسون النظر اختلاسا، ومع ذلك تجد شعر الغزل والغزل الجريْ رائجا  على ألسنة الشباب من الشعراء والكهول. وأكثر الشعراء حرمانا هم طلاب الفقه، وأكثر شعرهم يجيئ تشبها وتقليدا للعذريين من الشعراء! سمعت من الاديب الراحل عبد الغني الخليلي حكاية أكثر من مرة( ثم نشرها في مقالته الرائعة "ذكريات نجفية" في الثقافة الجديدة عام87 على الأرجح) تؤكد ما ذهبت اليه أسوقُها من الذاكرة لأنها تسلط الضوء على هذه الشريحة الإجتماعية في النجف. كان أحد طلاب مدرسة الخليلي الواقعة خلف مسجد الطوسي طالبا قد تجاوز الأربعين، أكمل مرحلة السطوح والمقدمات وانتقل الى الدراسات المعمقة في الفقه، كان شاحبا بفعل ما يبذل من جهد مع قلة الزاد وقليل من الشاي، منقطعا عن الزواج لضيق ذات اليد، كان واسع الثقافة جم الأدب، دخل الخليلي عليه ذات مرة فوجده باسطا مجموعة من الرسائل على صندوق خشبي ومنهمكا في تنظيمها، ما أن رآه حتى ارتبك وحاول أن يخبئها، فتمكن من الظفر بواحدة، وشرع يقرأ رغم ممانعة الشيخ، هي رسالة منه الى حبيبته يبثها  لواعجه وحبه ويتغزل بها كأروع ما يكون التغزل، ويكتب لها أجمل الأشعار، ثم لان الشيخ وناوله رسالة جواب منها فقرأ أصدق مشاعر الحب بأرقى أسلوب، مع أجمل الأشعار واستمر يقرأ غير مصدق، وأنتهى من القراءة بعد وقت غير قصير، فتوجه للشيخ سائلا في لهفة: ترى من هي حبيبتك الولهانة هذه؟ فكان جواب الشيخ بحسرة وألم: لا وجود لها بل أنا أكتب لنفسي!!فارق الرجل الدنيا بعد سنين ولم يذُق من المرأة طعما، شأن الالوف من أمثاله ولا أحد يدري ماذا حل بالرسائل الغرامية الأدبية الرائعة!

في عام 1949 نشر حسين مردان "قصائد عارية"، وقد أثارت هذه القصائد ضجة في العراق وخارجة وقد بُرّيء بقرار من المحكمة عام 1950، حصل على اثر ذلك على لقب طالما طرِب له وهو"بودلير العراق" اشارة الى الشاعر الفرنسي صاحب "أزهار الشر". وللحقيقة لا تشابه بين شعريهما ولا بين شاعريهما الا من الجانب الحَدَثي، فقصائد مردان قصائد فطرية لا تتسم بالعمق الفني ولا المعنوي مثل صاحبها الذي لا يفهم من الوجودية الا الطابع البوهيمي الشكلي لها!

الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس كتب عام 1980 "أيروتيكا" وسرعان ما ترجمت الى عدة لغات، ومنها العربية عدة ترجمات آخرها، ترجمة تحسين الخطيب (إيلاف19/11/2011). والهمت أو شجعت هذه القصائد عديدا من الشعراء للكتابة في هذا المجال منهم الشاعر سعدي يوسف في باقة قصائد شعرية في 70 صفحة تحمل الإسم نفسه (إيروتيكا:دار المدى1997)... لقد كتب العديد من الشعراء العراقيين والعرب قصائد حاولوا تقليده، حتى غدت هذه الكلمة المركبة الأغريقية شائعة بعد أن كانت نادرة... وقد ساهمت شركات صناعة الجنس بتشويهها باستخدامها كرديف لكلمة مستهلكة "بورنوغرافي"  التي تعني "الخلاعة أو الإثارة الجنسية" بينما الفرق هو في الجانب الفني والجمالي المكثف للإيروتيكا التي لاتخلو من النزوع الرومانسي، وهو كالفرق بين اللوحة المرسومة والصورة الفوتغرافية، كما لخص ذلك سلامة موسى في إحدى معاركه عام 1927 دفاعا عن الأدب المكشوف. (مازال كاتب هذه السطور منشغلا بمقالة مطوله عن "الأدب المكشوف" لم يفرغ منها بعد، تضمنت معظم الفقرات آنفة الذكر).

بعد قصيدة "ما أحلاها"، استلمت من الشاعر عبد الإله الياسري "في ظل حواء" وهي مجموعة شعرية رقنها الشاعر بنفسه قبل أربع سنوات، قوامها ثماني عشرة قصيدة غزل فهي بحق "ديوانُ شِعرٍ كلُه غزَلُ" مع الأعتذار للسياب، وجلُّ الغزل فيها جريءٌ، وأحيانا جدُّ جريءٌ بما يمكن وضعه ضمن دائرة الإيروتيكا! ولا أخفي مفاجأتي بها فلم أسمعها منه قط، رغم معرفتي بالإخبار الذي جاء فيها لا بنصوصها كما هو الحال في قصيدتي "أستاذتي" و"كبرياء"...والسبب الثاني للمفاجأة ذكرته في القسم الثاني وهو غلبة الطابع الثوري الجاد المعارض لمعظم قصائد الياسري، والسبب الثالث- إن شئتم- هو الحياء والهدوء الذي كان يغلب على طبع الشاعر الشاب النجفي المكبوت المتمرد! كلنا في الهمِّ شرقُ..

إضمامة قصائد " في ظل حواء" كتبت في سني ِّ الدراسة الجامعية في بغداد 68-1972"  كما جاء ذلك في –إضاءة ص7 - وكل القصائد مذيل بهذه الفترة، بيد أنها لم تخرج الى النور ، كتبها وحبسها  في الظلمة لفترة طويلة ثم عاد اليها  من مهجره الكندي فوجدها حَريّة بالنشر "لأنها تعاكس المفهوم الذكوري السائد للمرأة كشريك للرجل في الأفكار والعواطف والرغبة الجسدية" التي يمكن للشعر أن يسموَ بها جماليا بعيدأ عن الإبتذال المج. وهي قصائد متمردة بامتياز فهي "تتمرَّد على سلطة الذكورة، التي تشكل عائقا مع سلطتي الدولة والعقيدة  "الجامدة (الدوغما) في طريق تحرير الإنسان رجلا أو إمرأة وإطلاق طاقته الإبداعية والإنسانية.

تتسم القصائد بالزِواج بين اللغة الهادئة والعاطفة المشبوبة، وثراء المفردات ورقة اللفظ وهدوؤ النبرة والجرأة في التغزل في مواضع عديدة باستثناء القصيدتين الأخيرتين "ذات الحجاب" و"سيدة الليل"حيث يختلط الغزل بنزوع ثوري ذي نبرة عالية. الجانب الصوتي للقصائد اتسم بالخفة والسرعة على الأعاريض الخليلية ذات الحركة السريعة الخفيفة مما اكسب القصائد رشاقة متسقة مع المعنى، على أبحر المجتث، والخفيف مجزوءً، والرَّمل تاما ومجزوءً، والوافر تاما ومجزوءً، والمديد والكامل ومجزوءً، و الرجز مجزوءً ( الملحق العروضي في ذيل المجموعة). أما الملحق اللغوي فلا ضرورة له لخلو القصائد من المفردات المعجمية، وإذا اقتضت الضرورة في موضع او أكثر فالهامش يكفي.. لنستمع الى شيء من " أغريتِ شفتيَّ":

أشهى كؤوسِ الحُميّا***ريق بفيكِ لديّا

برشفة متُّ سُكرأ***ورشفة عدتُ حيّا

قد شبَّ قلبي اليهِ***مُزاحما شفتيّا

وألطفُ الوردِ طُرّا***نهداكِ لَمْسا وريّا

لا اكتمَنّكِ سرّا***قد أغريا لي يديّا

ياجنّةً أدخليني*** أذُقْ جَناكِ الشّهيا

والقصيدة طويلة نسبيا كتبها الياسري ابن العشرين، وتأثره ب"عمر ابو ريشة" واضح وخاصة في قول الأخير:

قبليني فقد شعرت بروحي***وثبت وارتمت على شفتيا

ولئن كانت القافية واحدة فإن الأوزان مختلفة حيث المجتث للياسري والخفيف لأبي ريشة، والانسجام الصوتي والعذوبة والتماسك كله جلي، سوى البيت الذي استخدم مبالغة وضعته في موضع التكلف والسبب في ذلك هو ما يعمد اليه الشعراء الشباب في استحسان لفظ  ما يعتقدون  بضرورة توظيفه في القصيدة على حساب الإنسيابية:

إذا التقيتك يوما***يُكادً يُغمى عليّا

و قصيدة "قبلة" تتسم بالرقة والإنسيابية وهي أيضا على مجزوء الخفيف، يصل التوافق اللفظي الى اعلى مدى وتاثيرات أبي ريشة حاضرة أيضا فلنسمع:

قربي من فمي الفما***ولنبرّدٍ بنا الظما

قبليني تريْ خري***في تندي وبرعما

وفؤادي على لسا***ني لتقبيلكِ ارتمى

ووجودي جميعه*** في شفاهي تكوما

قبِّلي قبلةً تَسِلْ***شفتانا لها دما

ما ألذَ الجراح من***فرطِ شوقٍ وأعظَما

واسمحي لي دقيقة***أتأمل بك الَّلمى

لأرى الله فوقه ***قد تجلى مُجَسَّما

ساصلي إذن لِثغ***رِكِ خمسا متيما

لا لِحُلمي بجنة***أو لخوفي جهنما

بل رأيتُ اليقينِ في***هِ فآمنتُ مرغَما

ويلاحظ القاريء أن الشاعر استخدم التدوير في عدة مواضع وهو اسلوب بناء شعري يصعب على المبتدئين من الشعراء، يدل على توظيف تمكنه العروضي بشكل جيد، وقد اعتمده حسب الشيخ جعفر في قصائد التفعيلة...لا أستسيغ هذه القبلة الدموية في البيت الخامس ولا ما أورثته من جراح في البيت الذي يليه رغم السبك الجيد والصورة المعبرة بما لا يتناسب مع جو القصيدة المتناغم معنويا وصوتيا..مع تقديري لعنفوان العاطفة لدى شاعرنا الشاب.

"إغراء" قصيدة مذيلة ب"بغداد/1970" والشاعر لازال في العشرين، اقول هذا تأكيدا لموهبة الشاعر الياسري، ونضجه الشعري وجرأته في هذا العمر المبكر، فهي من أروع ما كتب الشاعر في الغزل، تتسم بالإنسيابية والإنسجام الشعري، بعيدا عن التكلف وبالغنى الموسيقي، وهي على بحر الخفيف. عندما قرأت هذه القصيدة تذكرت قصيدة "قيل لي قد تبدلا***فاسلُ عنه كما سلا" التي تغنيها المطربه الكبيرة عفيفة اسكندر والتي نسبت خطأ  للبهاء زهير"راجع شريط الفيديو بالأبيض والاسود"، في حين هي لأبي عبد الله محمد ابن الفرّا المقريء الخطيب الاعمى(نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب، للمقريء التلمساني، دار صادر، بيروت1968، تحقيق د. إحسان عباس) ومن يشك في ذلك فليقرأ "إغراء" للياسري بصوت عال:

أطلِعي ما تستَّرا***لأرى منكِ ما أرى

إكشفي الحسن كلَّهُ***منظرا ثم منظرا

وأضيئيْ نفيسةً***لا عَدمناكِ جوهرا

أيُّ وصف اقولُهُ***فيكِ؟ شِعري تحيّرا

قد تعتقتِ خَمرةً***وتصفيْتِ سُكّرا

فوق ساقيْكِ جنّةٌ***وجحيمٌ بها جرى

...........*****...................

ونبيذٌ على فم***قبليني لأسكرا

...........***................

ولأذُق منك مرّةً***ما نسميهِ مُنكَرا

لستُ أروى بسَقيَةٍ***أبتغي منكِ أكثرا

يا لَجسمٍ وحكمهِ***قد تعرّى فسيطرا

وتمادى بروعةٍ***وبسحرٍ تَجبَّرا

قمتُ لمَّا رأيتُهُ***رغم أنفي مُكَبِّرا

ولكون القصيدة طويلة أضطررت أن اقفز على بعض من أبياتها، كما قفزت على أبيات جامحة ووضعتُ مكانها النقاط، آملا في أن اكمل ما بدأتُه في فرصة سانحة..

وقد عنّ في خاطري سؤال ألحّ عليّ ان أطرحَهُ، لقد نشر الجواهري الشيخ سينيته التي استهللنا بها مقالنا في "العراق" عام 1929، ترى هل يستطيع الياسري أن ينشر قصائده هذه في العراق؟ سؤال قد لا يكون بريئا اطرحه على اتحاد الادباء العراقيين.


 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2077 الأحد 01 / 04 / 2012)



في المثقف اليوم