قضايا وآراء

ربيع الاسلامويين ودولة مكتب الإرشاد / إيناس نجلاوي

شيء أشبه بالطفرة، باللوثة العقلية التي تنتج عن الانتقال "المفاجئ" من التجمد إلى الانصهار والتمدد في كافة مؤسسات وهيئات الدولة، الانتقال من حالة الجماعة المحظورة إلى وضع الجماعة المحظوظة الغالبة المعصومة المصادرة لأرض الكنانة ومن ثم باقي أقطار "الربيع العربي" على اعتبار أن إخوان العالم العربي يستمدون مرجعيتهم من مكتب الإرشاد العام لتنظيم الإخوان المسلمين ومقره مصر، لكن الأوامر والتوصيات تصدر من قطر التي انتقلت بدورها من حال الدويلة المجهرية إلى وكيل البيت الأبيض في المنطقة وعراب "ثورات" العرب .

خرج المارد من قمقمه بعد سنين تعذيب واضطهاد بدأت منذ حل تنظيم الإخوان سنة 48 ثم فض عبد الناصر ميثاقه معهم مرورا بحملات التطهير التي شنها السادات وصولا إلى سجون مبارك. لكن المارد ظهر بحلة ناصعة ومال لا حصر له، لقد عاد لينتقم. في البدء، ترك الشباب المصري يواجه بصدور عارية رصاص العادلي يومي 25و26 يناير. انتظر حتى تعبأ الشارع وشحن ضد مبارك، ساعتها أطلق أتباعه وبدأ استعراضه في زوايا ميدان التحرير. قال انه يشارك شباب الثورة مطالبهم: عيش حرية عدالة اجتماعية. لكن بعد اقل من عام عن الثورة، انقلب على الشباب ونسب حصريا لنفسه ما سمي بـ"ثورة يناير".

لم تثبت بعد براءته من "يوم النار" الذي تلا خطاب مبارك المؤثر –الذي تعاطف معه الكثير- لكن ما لبث الجميع أن انقلبوا عليه بعد رمي المتظاهرين بكرات النار من فوق أسطح عمارات ميدان التحرير بفعل فاعل مايزال مجهولا. إن عودة الثوار إلى البيوت تعني فيما تعنيه إعدام جماعة الإخوان المحظورة، لذا كان لزاما الحفاظ على فتيل "الثورة" مشتعلا حتى وان كلف ذلك قتل وإحراق المتظاهرين.

بعد أن خفت كفة مبارك حتى لم تعد تساوي شيئا، اعتلى منصة التحرير فصيل لا عهد لمصر به هو السلفيون، وادعوا بدورهم أنهم الثوار الأصليون، قافزين بذلك على فتاوى شيوخهم بحرمانية التظاهر والاعتصام والخروج عن ولي الأمر. وبعد الثورة، ابتدعوا حجة "شرعية" لتبرير موقفهم السابق بتحريم المشاركة السياسية لوجود علة فساد الحياة السياسية في عهد مبارك. أما وقد زالت العلة، فلا حرج من دخول البرلمان بمجلسيه وترشيح حازم أبو إسماعيل للرئاسة. وهم هنا يقعون في لبس الخلط بين الثابت (الحكم الفقهي بالتحريم) والمتغير (المناخ السياسي).

نجح الإخوان وبدرجة أقل السلفيون، في الأشهر التي أعقبت تنحي مبارك، في التوفيق بين مطالب الثوار (بالنزول كل جمعة إلى التحرير) ومهادنة المجلس العسكري (بعقد صفقات التهدئة). فجاءت نتيجة الاستفتاء الذي عرضه العسكري على الشعب لصالح الإخوان بالتصويت بـ"نعم" للانتخابات أولا تم الدستور، واضعين في رؤوس الرعاع أنهم إذا ما صوتوا بـ"لا" في الاستفتاء، فسيقوم اللبراليون الكفار بإلغاء المادة الثانية من الدستور بان الإسلام مصدر التشريع الرئيسي في مصر.

وعلى أي أساس تقوم انتخابات في ظل غياب دستور ينظم العملية التشريعية؟ لكن الإخوان طمأنوا الجميع بان لا رغبة لهم سوى في 30? من البرلمان كما أنهم لا يسعون للرئاسة ولن يقدموا مرشحا. بدوا زاهدين متواضعين ورعين أمام شاشات الإعلام، لكن مع حلول موعد التشريعات انسحبوا تماما من الشارع رغم أن مصر كانت تشتعل بسبب أحداث شارع محمد محمود. كان الإخوان والسلفيون منغمسين حتى النخاع في دورات الانتخابات وشراء الأصوات بتوزيع اللحوم والأرز على المعدمين واستغلال البطاقات الانتخابية للأميين. استفادوا لأقصى الحدود من حروب الاستنزاف التي كانت رحاها تدور بين المعتصمين أمام مجلس الوزراء والشرطة العسكرية، بعد أن تخلصوا مباشرة عقب الثورة من الأمن الداخلي والشرطة؛ عدو الإخوان اللدود. وكذلك حصنوا أنفسهم بالمادة 60 من الإعلان الدستوري التي تنص على انتخاب مجلسي الشعب والشورى لأعضاء اللجنة التأسيسية لصياغة الدستور، رغم أن المُنْت?خ?ب لا يجوز أن ينتخب.

تغلغل الإخوان في كل النقابات وبسطوا نفوذهم عليها، ثم خاضوا الانتخابات بكل لا شفافية ولا نزاهة؛ ارتضوا بالتزوير واستغلال الخطاب الديني لتوجيه الأصوات. وكانت النتيجة اكتساحهم لمجلس الشعب. ساعتها سقط قناع التقوى والتبسط (تمسكنوا حتى تمكنوا) وكشر مرشدهم العام الأسبق –مهدي عاكف- عن أنيابه مصرّحا: "أقول لأي أحد في مصر خائف من الإخوان أو لا يريدهم أن يترك البلد ويغادر ولا يبقى فيها"!!!

تربع الإخوان على عرش مجلس الشعب وترأس أحد كباراتهم "الكتاتني" قبته. لم يكن بأي شكل برلمان ثورة –لدولة ترزخ تحت براثن الفقر- بل نموذجا اسلامويا للحزب الوطني المنحل وأمرائه. صوت الأغلبية الاخوانية لا يعلو فوقه صوت، يشوشون على من يأتي برأي لا يوافقهم، يعترضون بالإجماع على ما لا يرضى عنه مرشدهم ويصفقون بالإجماع على ما يتفقون عليه سلفا في المكتب التنفيذي للحرية والعدالة. لا يناقشون سوى توافه الأمور، ولا حديث عن استعادة الأموال المنهوبة، تهريب الجواسيس الأمريكان، قضية التمويل الأجنبي، نقل مبارك إلى سجن طرة، تأمين الحدود، تعويض عائلات الشهداء، التعجيل بمحاكمة رموز الوطني المنحل، ضمان العيشة الكريمة والعدالة الاجتماعية إلى آخر ما قامت عليه الثورة، لكن المجلس ينقلب إذا ما تعدى نائب علماني باللفظ على الشيخ محمد حسان.

لم تشفع الضيقة الاقتصادية الخانقة لمصر عند الاخوانوسلفيين ليتقشفوا، فاستولى الكتاتني على ارث فتحي سرور من سيارات فارهة وحرس واقامات، وانتقل من شقته المتواضعة في المنيا إلى المجمع الخامس الفاخر. أما نواب حزب النور فينقسمون بين إجراء عمليات التجميل والارتباط السري بالراقصات والممثلات.

ففي حين تلهث مصر بين دول الخليج وصندوق النقد الدولي لجمع الصدقات، لا يتحرج أعضاء المحظورة من إظهار علامات الثراء الفاحش، ناهيك عن مرشح السلفيين للرئاسة أبو إسماعيل الذي ملأ ربوع المحروسة بملصقاته الدعائية لدرجة يخيل معها أن ثمن البوستارات التي يطبعها كفيل بتسديد ديون مصر الداخلية والخارجية. ولا أحد يجرأ على فتح ملف تمويل الإخوان والسلفيين، وإلا كيلت له تهمة محاربة الله وممانعة تطبيق شريعته السمحاء!

عملا بالمثل القائل "خذوا الحكمة من أفواه المجانين"، نجد المستشار سليط اللسان مرتضى منصور مصيبا حين قال أن الحزب الوطني انكشف في 30سنة، أما الإخوان ففي 3شهور. وعلى سبيل المثال لا الحصر، طالب أحد العاملين ببوابات مطار القاهرة دفع الرسوم المستحقة على سيارات الكتاتني عقب توصيله والوفد المرافق له، فلم يكن من سائقيه إلا ضرب العامل وكسر ذراع البوابة للعبور.

بعد الهيمنة على لجان البرلمان، آن أوان انتخاب اللجنة التأسيسية لوضع الدستور، فرفع الإخوان نسبة التمثيل النيابي فيها من 30? (مقابل 70? من قوى الشعب المدنية) إلى 50?؛ فجاءت اللجنة على شاكلة 50? نواب (اغلبهم إخوان) و50? من خارج البرلمان (اغلبهم أيضا إخوان)!!! أما رئيس الجمعية التأسيسية فليس سوى دائم الذكر والحضور سعد الكتاتني، وهو ما لم يحدث حتى في أسوء فترات عهد مبارك.

لماذا تركيز كل هذا النفوذ في شخص الكتاتني؟ أليس نص دستور الإخوان معد سلفا، فلما الإصرار على ترأس رئيس مجلس الشعب للجنة كتابة الدستور؟ أي أن رئيس إحدى السلطات يهيمن على إنشاء دستور يفترض أن يعلو فوق كل السلطات، فالأمر لا يتعلق بتمرير مشروع قانون، بل بسن أبي القوانين ومحدد السلطات. ورغم إيقان الإخوان بأن الشعب سيصوت لصالح دستورهم "الإسلامي"، إلا أنهم ما زالوا يتصرفون بعقلية المضطهد الشيزوفريني، يصرون على الإلغاء الكامل للتعددية (ولو شكليا) والنسف المطلق للديمقراطية (ديمقراطية الجهلاء) التي رفعتهم –بل طارت بهم- إلى سدة الحكم. يخشون أن يضيع منهم فوزهم السهل وغير المتوقع، لذا يصدون كل أبواب الحريات والمشاركة.

ثم لماذا لم يتم انتداب فقيه دستوري لترأس لجنة إعداد الدستور؟ أليس من المضحك المبكي أن يكون رئيس اللجنة التأسيسية "لزراعة" دستور ارض الحضارات رئيسا لكلية العلوم قسم نباتات (زرع الشباب المدرب صهيوأمريكيا الثورة فأطرحت الكتاتني)؟!!! وكيف سيوفق الكتاتني بين جلسات البرلمان وعمله في اللجنة؟ ثم كيف سيكون وضع مجلس الشعب الذي يفترض أن يأخذ صلاحياته من الدستور ورئيسه يشرف على خياطة هذا الدستور؟ أين الحياد في هذا؟ يتكرر مجددا تضارب المصالح ولم تتغير سوى الوجوه. نفس العجرفة والزهو المفرط بالقوة المطلقة الذي كان جليا في تصرفات احمد عز وخيلاء جمال مبارك يتجدد اليوم في استعراض العضلات الذي يقوم به محمد مرسي –رئيس حزب الحرية والعدالة- وفي غطرسة المرشد العام محمد بديع  الذي لا يعبأ بفتح قنوات حوار مع الأطراف الداخلية على اعتبار أن الجماعة هي مصر ومصر هي دولة مكتب الإرشاد، مغترين بشرعية (الوعاء) الانتخابي مستغلين ضعف وحساسية العامة حيال الخطاب الديني والعبارات الرنانة كتطبيق شرع الله أو سنحيا كراما.  

وقانونيا، فان حزبي الحرية والعدالة الاخواني والنور السلفي مخالفان للإعلان الدستوري الذي تحظر مادته 60 قيام أحزاب سياسية على أسس دينية، كما أن جماعة الإخوان المسلمين لم تسو بعد وضعيتها القانونية وما تزال محظورة ولا أوراق رسمية لها. وفي واقع الحال، اعتمد الحزبان بشكل أساسي على تسويق الخطاب الديني والتلاعب بالألفاظ والتلويح بورقة التكفير لترهيب كل من تسول له نفسه انتقاد أداء الإخوان البرلماني المتهلهل. ومن يعترض على ديكتاتورية الإخوان يصفهم المرشد بديع بأن الشيطان يوحي إليهم ليزينوا للناس الكفر، ويشبه الإعلام والصحفيين بسحرة فرعون، غير واع أن سحرة فرعون صدقوا الله وعده، فصلبوا وقطعت أيديهم وأرجلهم لكنهم لم يشركوا بالله أحدا. فما بال المرشد يكفر الناس جزافا ويوزع صكوك الغفران على من يرضى؟!

أما عن المشورة والاشتراك في اتخاذ القرارات، فقد تم تأويل وأمرهم شورى بينهم إلى وأمرهم شورى بين أعضاء مكتب الإرشاد، فبيانات المكتب التنفيذي للحرية والعدالة تصدر باسم الشعب المصري باعتباره زكى الإخوان في انتخابات الشعب والشورى. ولا يتحرج الإخوان في وضع علم جماعتهم جنبا إلى جنب مع العلم المصري في اللقاءات الرسمية وأثناء استقبال الوفود الأجنبية، وبذلك يخلقون لتنظيمهم وضع دولة فوق الدولة المصرية. كما يبدو جليا أن مكتب الإرشاد منح الضوء الأخضر للبرلمان لسحب الثقة من حكومة الجنزوري التي عينها المجلس العسكري (رغم أن حكومة الجنزوري نجحت في خفض نسبة الإنفاق من مليار ونصف دولار شهريا من احتياط النقد الاستراتيجي إلى 600 مليون دولار وتوفير 20 مليار جنيه من الإنفاق)، وذلك لخلافتها بحكومة اخوانية. فيرد الجيش بالدفاع عن المحكمة الدستورية العليا التي تنظر الطعن في دستورية البرلمان؛ وبمعنى آخر إما التقاسم (أي سلطة تنفيذية خاضعة للمجلس العسكري مقابل سلطة تشريعية ذات أغلبية اخوانية) وإما حل البرلمان بذريعة التزويرات والتجاوزات التي طالت انتخاباته.

يشاع أن قطر تقف وراء مطلب الإطاحة برأس الجنزوري في مقابل مساعدات لمصر تفوق 10 مليار دولار. وقطر نفسها هي التي اختارت نبيل العربي لخلافة موسى في الجامعة (المفرقة) العربية، وهي أيضا التي باركت منصف المرزوقي وربما دبرت لإعدام عبد الفتاح يونس لترجح كفة مصطفى عبد الجليل الذي تفضله بشدة. بلا شك مساوئ ربيع الشؤم العربي لا تعد ولا تحصى، لكن أشدها سوءا أن تتزعم دويلة قطر العربان ونخضع جميعا لوصاية موزة.

بالعودة إلى الملف المصري، يعلم الإخوان جيدا أن لا سند دستوري للإطاحة بالجنزوري، لذلك فان التصريحات النارية المتبادلة بين الإخوان والعسكري لا تنذر بالحرب ولا تعدو أن تكون إلا خلافا جديدا مفتعلا سيق إليه العسكري بغية التغطية على لجنة الإخوان الدستورية العرجاء التي لا تمثل أطياف الشعب وفئاته السياسية والاجتماعية والدينية، ولم ترض سوى المرشد العام للإخوان. وهكذا تنشغل مصر بمعركة الحكومة فتمر اللجنة مرور الكرام رغم عدم أهليتها لصياغة دستور سوف يحكم مصر لعقود قادمة.

انه ربيع الاسلامويين وموسم الإخوان بلا منازع شئنا أم أبينا لأن أغلبية الشعب العربي مصاب بما تطلق عليه منتديات الانترنت الساخرة مصطلح مرض متلازمة الإخوان "Ikhwan Syndrome"، ومن أعراضه أن يقوم المصاب بتبرير أي موقف يصدر عن الإخوان، يعتقد أن الإخوان المسلمين معصومون عن الخطأ وأن المرشد معصوم يستحيل أن يوجههم إلى خطا ويعتقد أن الشعب نوعان: 1-إخوان و2-كفرة منافقون فجار.

الشعب العربي لن يشفى في القريب العاجل لأنه أساسا يأبى الاعتراف بمرضه ومقدر له أن يعيش تجربة الاسلامويين حتى الآخر. لكن على الإخوان أن يعلموا أن الافتنان الزائد بالقوة الطاغية وجنون العظمة سوف ينتهي بهم كما انتهى بمبارك والحزب الوطني الديمقراطي وأشباههما في بقية الأقطار العربية، ولو دامت لهم لما وصلت إليكم فاعتبروا يا أولي الألباب. 

وأخيرا، ليسقط حكم دولة مكتب الإرشاد فلا قداسة للمرشد ولا عصمة للإخوان ولا مكان لآية الله في بلاد العرب ولا زعامة للقطري العاص لأبيه. إن الأمة العربية تعيش أحلك عصورها، لكن رغم شدة ضعفنا لن نولي أبدا موزة أمرنا.  

 

بقلم: إيناس نجلاوي – خنشلة

أستاذة جامعية بجامعة تبسة- الجزائر

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2077 الأحد 01 / 04 / 2012)

 

في المثقف اليوم