قضايا وآراء

قراءة في مرثية دم على قميص قتيل / هشام ناجح

في الانسان المتعطش والمرتبك بالجدوائية والمغزى وإدراك روح الرغبة التي تشكل ماهيته، فيعيش ليكتب ويكتب ليعيش حاملا روزنامة من التداعي والاستشراف والبوح والقلق، كلها نتاج لسفر موشوم يرقب الرغبة والأمل والارادة والحب .

ولعل من بين الأسماء التي تؤجج نيران غضبنا الجميل حول معرفة ذواتنا المشحونة . نجد الشاعر مكي الربيعي المفتون بنزوة الرجاء أكثر من نزوة التشفي بارتباط وثيق بالقصدية، ونقصد ذاك الارتباط الكلي بجميع الملكات الحسية دون إغفال الصلة بالعالم الخارجي .

لهذا سوف نسوق كلماته إلى رحبة النظم، حتى نطاوعها ونرتوي من معينها ونصبوا إلى إدراك الشرارات التي تلهب ذاته وذواتنا في مؤاخاة بديعة أفرزت لنا هذا الديوان المكون من قصيدة واحدة على شاكلة الحوليات . إنها مرثية دم على قميص قتيل .

بات من الضروري أن نقف عند هذه المرثية كظاهرة إبداعية حديثة، فسنجد أنفسنا أمام ملاحظتين تتداخلان إلى حدما :

أولاهما: أن عالم الشاعر مكي الربيعي جزء من عالمنا أو قريب منه، فنتقاسم الأحلام والأوهام ونلوم الوطن، وندرك حقيقة سعيينا في نشوء الجسر الحقيقي لمواكبة الذات المعشعشة المسكونة بتلك الإعاقة الباطنية التي ستحركها هذه المرثية، وبذلك تتحرر معها حرية النشاط والتعبير التي تفصح عن الخبايا والخفايا في حدود الانوجاد والانكتاب لماهية الجدوى التي لاتحتاج إلى عالم عليائي .

فالانطلاق من هموم الوطن المشروخ على عتبة الطغيان والخيانة والموت الممنهج المرسوم في كل زواياه سواء في الداخل أو الخارج، ونحن نعلم مليا ما تعرضت له العراق من مؤامرات ودسائس . وقد كان مكي الربيعي ذكيا في التعبير عن موقفه من الوطن الدامي المجروح، حتى أننا نجد أنفسنا نخط هذه القراءة بالدمع قبل المداد . اذن ماهي ارتساماتك عند ما تقف عند هذه الأبيات ؟

هناك محراث أبي،

كوفيته،

غليونه،

وفي شطر آخر:

ـ وطني :

التراب العالق في قدميك

يمكن أن نصنع منه وطنا في المنافي .

وكذلك :

في بغداد

صرخت بالمارة ساعدوني،

أريد أن أرفع

ظلي المطعون من الخلف برمح

طويل .

فتنعكس هذه الارتسامات على مرآته التي أينما حل تحل معه، كأنه يريد أن ندرك صدق مشاعره الصافية، فيغوص بنا في حالة الانشداه  فيقول:

المرآة تريد أن تتكلم

وفي بيت آخر :

دخلوا المرآة وأغلقوا

الباب وراءهم

وسيعمد إلى اخراجنا من جديد لنمعن النظر بعين العطف عندما يداعبك بحلمه الجميل الذي يخرج من بين ثنايا التوتر والفزع فيقول :

كان المنظر بهيا وبديعا

حتى ظننت أنك تدخل في حلم عميق .

وفي بيت آخر :

يمكن أن ينضج الضوء في

غرفة مظلمة .

ثانيها : تتمحور حول البعد التخييلي المسكون بمقاربة تسطع في الانسان، فينقلنا إلى أوضاع هذا الانسان الباحث عن هوية حقيقية من خلال كثرة الحنين المصحوب بتوتر حساس يرتكن إلى الاستشهاد بقيم الماضي، فتتضح اللغة البانية لتفعمنا سلطتها من خلال وظيفتها السحرية، وهذا راجع بالأساس إلى تفوق النتاج الشعري العربي إلى حد ما عن بقية الأجناس، وهذا له تأثير واضح على ابراز الذات الشاعرة المتفلسفة  المشوبة بالقوة والتميز والإبداعية . فهي لغة عذبة تأسرنا مليا من خلال انسيابيتها فنزداد تعطشا إلى صور محاسنها لتنقلنا إلى عدة أزمنة أهمها :

الزمن النفسي: هنا يتولد الكيان النفسي الخاص غير الخاضع لضوابط مقرونة بالشيء، وإنما هي سفرة في شعاب النفس يحددها الاحساس بطبيعة الحدث . فهي تعكس زمن المعاناة والأحلام في أغلب الأحيان .

الزمن الافتراضي للصورة : يحاول الشاعر أن يراكم صوره في ذهننا بأقصى سرعة فتخلق لنا علاقة حميمية معها وندرجها ضمن حاجتنا إليها، ونشكل ألبوما من خلال رؤيتنا الافتراضية المتعددة لكنها في نهاية المطاف تحمل اسم الشاعر .

الزمن الكوني : يسافر فيه الشاعر إلى مقومات الكون التي تبرز صيرورته، فيأخذنا إلى البحر والشمس والقمر وهناك حيث ندركه حسيا، ونمعن النظر في الأفق اللامتناهي .

ماأوقفني كثيرا في هذه المرثية هو القسم التاسع أقصد بورتريه لعائلة منقرضة . حيث تتداخل كل الأطياف، الوالد، الوالدة، الولد، البنت . إنها السلالة التي تبحث في جبة الوطن عن الوطن الذي ضاع . فقد استطاع مكي الربيعي أن يبعثر ذاته بين جميع الأطياف ليرصد لنا اللوعة والاسى في نفس الوقت .

وفي النهاية نقول مهما حاولنا أن نقف ونمعن النظر في هذه المرثية نجد أنفسنا لاحول لنا ولا قوة في رصد سيكولوجية الانسان المقهور للوطن والمتعطش للشعر :

لاحياة إلا في الشعر،

لاشعر إلا بعد الموت

كما قال مكي الربيعي .

 

 

هشام ناجح / المغرب

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2077الأحد 01 / 04 / 2012)

في المثقف اليوم