قضايا وآراء

العين اليـقظة غمضت!! .. ماذا في كنّـــز(إمري سليم)؟؟

إن قلبي الآن يخفق بشدة علي كنز ثمين جداً، يضم تاريخ العراق الممتد من أواخر أربعينات القرن الماضي، وحتي إلي ما قبل أشهر قليلة ! هذا الكنز، الثر والأثمن من أي شيء  في رأي المتواضع، يضم أكثر من 150 ألف لقطة فوتغرافية ومئات الأفلام السينمائية خاصة (16 ملم) ومثلها أشرطة فيديو، وثّقت أحداث جسام شهدها العراق في العهد الملكي والجمهوري في مراحله السياسية المتباينة المتناقضة !

العين التي غمضت هي لشيخ المصورين العراقيين إمري سليم أو كما يحب أن نسميه (الحاج إمري) الذي لبي نداء ربه قبل فترة .. أما الكنز الذي بدأ بالبحث عن حارس جديد له هو صناديق(النكتف)  لأفلام بالأسود والأبيض والملون، تحكي شرائحها حكاية العراق، بحرِه وبرودته، غنجه وزعله، عنفوانه وسكوته المريب، الرائع، والذي لا يعرف كنه أحد .. هذا التاريخ المعاصر للعراق، الآن نائم في إطمئنان، لكنه إطمئنان هش إذ أن راعي هذا التاريخ وحافظه، تركه مجبراً إلي الأبد إلي حيث إلا ... قرار !!

إن إمري سليم، طفل، بشارب ونظارات لا تفارقه ..وضحكة خجلى.. وكاميرا أحس أنها بمعزة أولاده .. إنه لصيق ومحب للصحافة التي ما تركها يوماً حتي ليشعرك أن صرخته الأولي في الحياة كانت علي يد قابلة صحفية مأذونة !

ولا أظن أن مؤتمراً انتخابياً للصحفيين منذ تأسيس نقابة الصحفيين في عام 1959 برئاسة نقيبها الأول الجواهري العظيم، لم يحضره (إمري سليم) ويصّوره منذ حضور أول زميل أو زميلة لقاعة الإنتخابات حتي مغادرة القاضي وإعلان النتائج .. وكان لي الشرف أن أحظي بثقة خمس دورات إنتخابية، كنت فيها عضواً لمجلس نقابة الصحفيين العراقيين .. وقد وثق هذه المؤتمرات، حتي أصبحت صوره مرجعاً تاريخياً للصافحة العراقية ..

ولا أظن كذلك، أن صحفياً، أو صحفية عراقية، لم ينلها شيء من العطاء الفني لإمري سليم، سواء في التصوير العائلي أو المهني .. لقد كان محله القديم في الشارع المقابل لحديقة الأمة وسط بغداد، مكاناً لملتقي الصحفيين، وعندما اختار (محل) إستوديو آخر في ساحة التحريات وقبله في شارع النضال، ببغداد  بقى الحال كما هو : لا يحلي اللقاء إلا عند إمري سليم !

هباه الله بإبن، سار علي نهج والده في حب التصوير، لكنه حب مختلف، إذ أنه وجد نفسه في التصوير التجاري فيما كان الوالد، المعلم، إمري سليم هاوٍ، محب للتصوير .. بل كثيراً ما رأيته ماداً يديه إلي محفظته، ليدفع ثمناً لغداء عمل مع الصحفي فلان أو حاملاً هدية لزميل آخر .. دائماً وجدته شاكراً ربه الذي وهبه رزقاً حلالاً في استوديو راق أنشأه بجهده وتاريخه وعرقه، حتي أصبح هذا الأستوديو ملتقي العوائل المحبة لفن (إمري سليم)، دخل معهم صالونات حفلاتهم وسجل أفراحهم بأحلى ما يمكن .. غير أن هذا العمل، لم يمنعه من ترك مصدر رزقه متوجهاً إلي تصوير لقاء صحفي أو لأقتناص صورة لا تتكرر في مشوار الذهاب والإياب .

أمس، تساءلت في سري، من الذي صور وداع هذا الرجل الكبير، المتواضع والنبيل، الإنسان الذي لم أشاهده يوماً يغمز من قناة فلان أو يجرح فلاناً حتي ..بوردة قرنفل !

من الذي صور خاتمة حياة هذا النورس، لا أعرف لكني آمل أن يكون هناك زملاءه أو ابنه قد واتتهم الشجاعة وصوروا قداسه !

63 عاماً قضاها إمري سليم في التصوير من عمر حياته التي قاربت ال 80 عاماً.. والمفارقة في هذه الأرقام، أن لي فيها 43 عاماً معه، إذ أني عرفته وأنا في بداياتي المهنية، فيما هو كان شاغلاً الناس في تصوير صحفي فني، راق، لمدة 20 عاماً .. كيف ؟

في عددها الصادر يوم السبت 26 تشرين أول عام 1968، نشرت لي مجلة (المنار) .. تحقيقاً جريئاً بعنوان (أب يطارد سارقة ابنته الصغيرة عدة أشهر) وهذه المجلة بالمناسبة، هي امتداد إسبوعي لصحيفة المنار اليومية، أوسع وأشهر الصحف العراقية وأعرقها مهنية أواسط ستينات القرن الماضي، كان التحقيق الصحفي في وقته خارج السياقات المتعارف عليها آنئذ وهو يتحدث عن محاولة اختطاف غير مألوفة في العراق (هذه الأيام انقلبت الحالة) حيث قامت إمرأة طاعنة في السن باختطاف طفلة في الخامسة من عمرها، في مدينة النجف فسارع والدها بطبع 2800 نسخة من صورة لإبنته وراح يطوف بها في كافة المحافظات حتي اهتدى إليها في منطقة (شهربان) حيث تم إلقاء القبض علي السارقة وهي تهم بعبور الحدود إلي إيران ومعها  (غنيمتها)!!

التقيت بهذا الوالد، وأجريت لقاءً مطولاً معه ومع ابنته .. كانت كاميرا (إمري سليم) تتنقل بمهارة من زاوية إلى أخرى ليخرج التحقيق بصور كانت تنطق من فرط الإحساس ..

صدر العدد، ومع صدوره كانت الضجة التي خلقها، بعد أن أوعز وزير الداخلية بإجراء (تحقيق) عن كيفية الإختطاف وأيضاً أحدث ما يشبه ردة الفعل لدي العوائل مما جعل تلفزيون بغداد يقوم في أعقاب ذلك بإعداد برامج لتهدئة النفوس !

وقد بادر رئيس التحرير المرحوم عبد العزيز بركات، بتكريمي بعشرين ديناراً وبعشرة دنانير لمصور التحقيق (إمري سليم) .. وكم كانت دهشتي .. أن دعاني هذا الرجل الكريم، المبدع، مساءً إلي فندق (تايكر بلاس) ذي الطراز اللندني المعروف والواقع عند مقتربات جسر السنك من جهة شارع الرشيد والذي تم هدمه (آه من غياب الزمن الجميل) ومع انتهاء مراسم الدعوة الكريمة التي حضرها استاذنا الجليل سجاد الغازي أطال الله في عمره، وقبل إستئجاره سيارة أجرة لتوصيلي، أهداني علبة أنيقة بداخلها زجاجة من عطري الأثير (البروت) الذي أصبح حالياً مثل أي شيء في بلادي يباع بسعر بخس .. حيث دخل الغش والتزوير النفوس قبل العطور !!

أعود إلي أستاذ اللقطة المعبرة إمري سليم، فأقول إن الرجل أعطى ما عنده وأجزل العطاء حتي همل صحته .. فانتصر عليه هذا الإهمال وسلب منه الحياة .

 

إقرؤا معي الفاتحة على روح (إمري سليم)..

 

[email protected]                                  

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1193 السبت 10/10/2009)

 

 

في المثقف اليوم