قضايا وآراء

فلسفة الكمال الإنساني عند الجيلي / ميثم الجنابي

وليس مصادفة أن يعاني المفكر في مجرى إبداعه عما يعتبره العمل الأكبر و"الأخير" من إرهاصات عادة ما تؤدي به إلى تلف ما أجهد به نفسه سنوات عديدة. فالكمال الذي سعى إليه واجتهد من اجل أن يكون مفهوما ومقبولا للآخرين، يتحول بين ليلة وضحاها إلى هوة تبتلع السنين والجهاد والاجتهاد، ويضعه أمام مرآة نفسه الجديدة. وحالما ينظر إلى نفسه، فانه يشاهد مفارقة الإبداع نفسه. حينذاك تترامى أمام ناظريه المسافة الشاسعة بين البداية والنهاية، والصورة والحقيقة. فالذروة التي سعى إليها تبدو هاوية، أما الخروج منها فيفترض الغوص في أعماقها من جديد. بينما لا يؤدي جهاده واجتهاده الفردي إلا إلى ترسيخ اليقين القائل، بأن الحقيقة في الأعماق، أي معاناة تجعل من إتلاف ما أنجزه المبدع أمرا معقولا، أما برمي مخطوطته في النار أو تمزيقها أو نثر أوراقها في بحر هائج أو نهر هادي أو بحيرة ساكنة، أو ببعثرة أوراقها في مهب الريح أو إهمالها في زاوية وسخة أو حانة مليئة بالعابرين. ومهما تنوعت الأماكن، فإنها ليست في الواقع سوى البعد الظاهري للمعاناة. أما أعماقها الباطنة فتقوم في بقاء حروفها وألوانها الحية عن رؤية الكمال وإبداعه.

وقد واجه عبد الكريم الجيلي هذه الحالة عند شروعه في كتابة مؤلفه {الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل} وانتهاءه منه. بل أننا نعثر في تسمية الكتاب نفسه على صدى هذه المعاناة. إذ يحتمل انه فكر في بداية الأمر بعنوان "الإنسان الكامل"، لاسيما وانه الكيان والنموذج الذي احتل موقعه المتميز في الفكر الصوفي سواء بالنسبة لمعالم الطريقة (من مريد وشيخ وبدل وقطب) أو بالنسبة لمجرى مجاهدة العثور على الولاية وتحقيقها في النفس. وقد يكون أضاف في وقت لاحق "في معرفة الأواخر والأوائل"، أي المعاصرين والقدماء. وترمي هذه "الإضافة" من الناحية التاريخية إلى محاولة احتواء تجارب الأمم في رؤيتها لحقيقة "الإنسان الكامل"، لاسيما وان "كل أمة من الأمم مقيدة بالخيال في أي عالم كانت من العوالم" كما يقول الجيلي. بمعنى أن كل أمة تبدع في خيالها نماذج عليا لما تعتبره كمالا. بل أنها مقيدة في كل شيء للخيال. والخيال قوة، و"الإنسان الكامل" خيال أيضا، لأنه يقف وراء حدود الحس المباشر باعتباره نموذجا متساميا. أما "الأوائل والأواخر" فإنهم ليسا أطرافا سائبة، بل حلقات مستمرة في مساعي الأمم معرفة حقيقة الكمال ونموذجه الإنساني.

ومن ثم ليست محاولة الجيلي رسم ملامح وحقيقة الإنسان الكامل سوى الصيغة الفلسفية الصوفية التي تسعى لتجاوز تجارب الأديان والأمم كل لحاله، بالخروج على قيود خيالها الجزئي. ولم يعن هذا الخروج الطعن به (الخيال). على العكس فقد كانت منظومة الجيلي إسلامية ثقافية في كل شيء. من هنا بعدها التاريخي وأصالتها وشمولها الإنساني. إذ تعطي هذه الأبعاد لكل إبداع عظمته الخاصة، لأنها تشكل في نفس الوقت هواجس القلق التي تضع المبدع أما اليقين القائل، بأن الكمال هوة، والخروج منها يفترض الغوص فيها. لكي لا يتحول الإبداع إلى هروب وهزيمة. وقد سجل الجيلي هذه الحالة في مقدمته للكتاب، عندما أشار إلى انه اتلف الكتاب بعد أن أنجزه للمرة الأولى، لكنه عاد لكتابته من جديد بعد أن سمع الحق (الله) يأمره به.

طبعا أننا نستطيع تأويل فكرة التلف هذه على أنها جزء من تقاليد "الوفاء في البلاء" استنادا إلى أن "البلاء للقلب كاللهب للذهب" كما تقول الصوفية. غير أن الكتب العظيمة ينبغي أن تحترق في بداية الأمر لكي يظهر لمعان حروفها المعنوية في أعماق المبدع نفسه. ومن ثم ليس أمر الحق إياه بإعادة كتابة "الإنسان الكامل" سوى إعادة البحث عن حقيقة الكمال بعد أن تراكم رماد الأوراق الذي نثرته رياح النفس وهواجسها في زوايا يصعب جمعه منها. آنذاك لا شيء يبقى غير أثر الحريق على قاع الروح. ولا تعني هذه الصيغة الرمزية في الواقع سوى جلد الصبر أمام حيرة المعرفة ودهشة المكاشفة وقلق اليقين ومكابدة الفناء في الحق والبقاء في الحقيقة، بوصفها المكونات الجوهرية لمعاناة اليقين بين سندان الهوى ومطارق الحقيقة.

بعبارة أخرى، إن الجيلي يطالعنا من وراء أمر الحق إياه بالكتابة، الصيغة الرمزية التي طالعنا بها النبي محمد وأمر الحق إياه بالقراءة. والفرق بين القراءة والكتابة هو كالفرق بين البداية والنهاية. لكنه فرق يضمحل في رؤية القراءة كتابة، والكتابة قراءة. ونرى هذا الاضمحلال في محتويات كتابه باعتباره معرفة الأوائل والأواخر في بلوغ ذروة الكمال. إذ ليس "الإنسان الكامل" في الواقع سوى نموذج الأنا المتكاملة في مدارج اليقين، والفعل بمعايير الحق المطلق. من هنا فكرة الجيلي نفسه عما اسماه باجتماعه بالنبي محمد بوصفه الإنسان الكامل وهو بصورة شيخه شرف الدين إسماعيل الجبرتي في زبيد عام 796 هجرية. ولم يعن ذلك تعبيرا رمزيا عن تناسخ الأرواح أو الإقرار به، بقدر ما يعني استنساخا صوفيا لروح الإسلام الثقافي.

إن الاستنساخ الصوفي لروح الإسلام الثقافي يعني التوليف المبدع لفردانية الصوفي ومرجعيات الثقافة الكبرى. ومن ثم فلا تكرار ولا تقليد. كما أن "خروجه" عن المألوف هو بناء متجدد لصرح المرجعيات الثقافية الكبرى. من هنا نرى الجيلي يشدد في تحديد مهمة كتابه إلى أن يكون "للسالك إلى رفيقه الأعلى كالرفيق الرقيق" وان يكون "للطلب لتلك المطالب كالشفيق الشفيق". بمعنى "الخروج" على تقاليد الإلزام والإفحام، وإكراه الحلال والحرام المتراكمة في مدارس الفقه الجامدة.

ووضعه هذا ال"خروج" بالضرورة أمام الإشكالية الكبرى التي يولدها "الاستنساخ الصوفي" لروح الإسلام الثقافي. بمعنى الوقوف أمام إشكاليات التوليف المبدع لفردانية المفكر وتقاليد المرجعيات الثقافية الكبرى. لهذا نرى الجيلي يشدد على أن ما يكتبه "مؤيد بكتاب الله وسنّة رسوله"، أما الخلاف الظاهري بين كلامه وبين القرآن والسّنة، فانه يجري "من حيث مفهومه لا من حيث مراده". ومن الممكن فهم حقيقة هذه الفكرة بمعايير الإخلاص لا بمعايير النية.

ولا يعني الخلاف بين المفهوم والمراد هنا، سوى الخلاف الظاهري الذي يمكن أن تولدها أفكاره في أذهان الآخرين على أنها "خروجا" عن المألوف. أما في الحقيقة، فان مفهومه مراده، ومراده مفهومه، لأنهما الوجهان الدائمان لتكامل الأنا الصوفية ومساعيها صوب الكمال. وذلك لان وسيلة الكمال وغايته هو الإخلاص للحق. والإخلاص للحق هو سرّ البحث عن الكمال، باعتباره الحركة التلقائية للروح الباحث عن المطلق والمتكامل في مجرى معاناته لحل الإشكاليات الكبرى للثقافة. وليست هذه الإشكاليات سوى إشكاليات وعي الذات، التي تشكل بالنسبة للروح الصوفي محور ومسار إبداعه الذاتي. من هنا إمكانية الخلاف بين ما فهمه الجيلي وبين مراده. إذ ليست حقيقة المراد سوى إخلاصه للحق، أما مفهومه فهو تعبير عنه. والخلاف الممكن بينهما هو الشرارة المتولدة من حيرة المعرفة الباحثة عن يقين واندهاشها به. فهي المعرفة التي تضع المرء دوما عل محك الإخلاص، لأنها تتمظهر بوصفها إخلاصا للذات الإلهية والإنسانية. وذلك لان الصفة تبلغك حال الموصوف، ثم هي تابعة له وتوجد بوجود الموصوف وتفقد بانعدامه. ومن ثم فان التحلي بصفات الله يعني الوجود بوجودها.

وقد ضع الجيلي هذه المقدمة في فكرته عن إمكانية الكمال غير المتناهي، انطلاقا من أن الصفة "عند المحقق هي التي لا تدرك وليس لها غاية بخلاف الذات، فانه يدركها ويعلم أنها ذات الله، ولكن لا يدرك ما لصفاتها من مقتضيات الكمال. فهو على بينة من ذات الله ولكن على غير بينة من الصفات". ومثال ذلك أن الإنسان عندما يعلم "إن ذات الله هي ذاته" آنذاك يدرك الذات (الإلهية) وعلمها استنادا إلى أن من عرف نفسه فقد عرف ربه. ولم يبق أمامه سوى أن يعلم أن لهذه الذات من الصفات والتحقق بها، مع إدراك بأنه لا سبيل إلى إدراك غاية الصفة البتة. وسبب ذلك يقوم في أن عدم التناهي هو من صفات الذات لا من الذات. فالذات مدركة معلومة محققة الصفات مجهولة غير متناهية. ومن الممكن ملاحظة ذلك في صفات الإنسان نفسه. إذ أننا نرى ونعاين ذات الإنسان، وأن ما فيه من صفة الشجاعة والسخاء والعلم، فانه لا يدرك بشهود، بل يبرز منه شيئا فشيئا على قدر معلوم. وبالتالي، فان من لا يدرك الصفة لم يدرك الذات. إذ لهذه الحقيقة وجها آخر جعل منه الجيلي أسلوبا معاكسا ومكملا في نفس الوقت لما سبق وان وضعه قبل قليل. وأوضح ذلك من خلال فكرته القائلة، بان الصفات من حيث الإطلاق هي معان معلومة، أما الذات فأمر مجهول. وبما أن المعاني المعلومة أولى بالإدراك من الأمور المجهولة، لذا فانه لا سبيل إلى إدراك الذات بوجه من الوجوه. وذلك لعدم تناهي الصفات. من هنا استنتاج الجيلي باستحالة إدراك صفات الله وذاته.

ولم يقصد الجيلي بذلك استحالة المعرفة أو إمكانية تحققها، بقدر ما كان يعني الإقرار بالحركة غير المتناهية صوب الكمال وضرورتها في الوقت نفسه. إن هذه الدورة غير المتناهية والمعكوسة لعلاقة الصفات بالذات هي النموذج المتسامي لإمكانية تحقيقها في الإنسان باعتبارها ذات وصفات. وهي إمكانية قابلة للتحقيق بطريقة "السحق والمحق الذاتي"، كما يقول الجيلي. بمعنى طريق الفناء في الحق والبقاء في صفاته. وكتب بهذا الصدد يقول، بان إدراك الذات العلية أمر ممكن عن طريق "الكشف الإلهي" الذي يوصل المرء إلى بلوغ حال "انك إياه وهو إياك" ولكن بدون حلول ولا اتحاد. ولا يصل إلى هذا القدر من الإدراك إلا بطريقة "السحق والمحق الذاتي". وهي ذروة ممكنة التحقيق من خلال ما اسماه الجيلي بفناء المرء عن نفسه بظهور ربه، وبالفناء عن ربه بظهور الربوبية، وأخيرا بالفناء عن متعلقات صفاته بمتحققات ذاته. ذلك يعني ضرورة التدرج المتكامل عبر تذليل النفس (الغريزة) والارتقاء إلى مستوى الفكرة المتسامية ومنها إلى مستوى المطلق بذاته والتحقق بصفاته. ومن الممكن بلوغ هذا الارتقاء من خلال التذليل الدائم لمتعلقات الصفات وطابعها الجزئي. مما يجعل منها عملية غير متناهية تؤدي إلى أن يبلغ المرء حال "انك إياه وهو إياك". وليست هذه الصيغة سوى التعبير الأدبي عن نموذج الكمال المفترض، الذي يجعل من الإنسان والحق (الله) مرآتين متقابلتين توجد كل منهما في الأخرى.

لا تعني "انك إياه وهو إياك" سوى الأوجه المتقابلة في الفعل الدائم للكمال. فعندما يتطرق الجيلي إلى مسألة أنه لا سبيل لمعرفة الله إلا عن طريق أسمائه، فإنه اتخذ من الاسم "الله" نموذجا للتدليل على فكرته المذكورة أعلاه. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن الحق جعل من اسمه "مرآة للإنسان. فإذا نظر بوجهه فيها علم حقيقة كان الله ولا شيء معه. وكشف له حقيقة أن سمعه سمع الله، وبصره بصر الله، وكلامه كلام الله، وحياته حياة الله، وعلمه علم الله، وإرادته إرادة الله. كل ذلك بطريق الأصالة".

وإذا كانت هذه الصيغة تعكس في ظاهرها تقاليد الرؤية الكلامية عن علاقة الذات بالصفات الإلهية من سمع وبصر وكلام وحياة وقدرة وإرادة وعلم، فإنها تحتوي في منظومة الجيلي على بعد آخر لا علاقة له بقضية إثبات الله والتدليل عليه، بل بكيفية تحولها إلى مكونات جوهرية بالنسبة لصقل الذات الإنسانية بصفات الذات الإلهية، وبالتالي بلوغ "التقابل" بين الله والإنسان في النموذج. بمعنى بلوغ إدراك الوجود الحقيقي للإنسان باعتباره وجوده "بمحققات ذاته". ولهذه العبارة امتدادها المتكامل بين الله والإنسان ومهمتها تذليل البون الشاسع بينهما عبر جعل المساعي الإنسانية صوب الكمال أسلوبها الأمثل. من هنا استنتاج الجيلي عن أن المرء حالما يبلغ إدراك حقيقة الحق وحالما يرتقي ويتصفى من "كدر العدم إلى العلم بوجود الواجب" عبر "ظهور العدم من خبث الحدث"، حينذاك يصير مرآة لاسمه الله. فهو حينئذ مع الاسم كمرآتين متقابلتين توجد كل منهما في الأخرى". وليست هذه الصيغة سوى التعبير عن الطريق الباطني للتحقق بالصفات الإلهية. إذ لا يعني حصول مظهر أسم الله في الإنسان سوى الفناء عن النفس، كما لا يعني الترقي في الصفاء من كدورات العدم سوى التعلق بفكرة الربوبية (الفكرة المتسامية أو المبدأ الأعلى)، كما لا يعني الظهور بمظهر القدم من خبث الحدث سوى التحقق بالذات، أي التحقق بالحقيقة في كل شيء. حينذاك يصبح فعل الإنسان فعل المطلق.

***

The article is supported by the Russian State Fund No. 10-03-00411-?.

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2078 الأثنين 02 / 04 / 2012)


في المثقف اليوم