قضايا وآراء

نسق الأشكال التجريدية في تماثيل عصر قبل الكتابة في العراق / زهير صاحب

لم يُبقي لنا أي شيء منها في الغابة . وهَربَ احد البدائيين ذات مرة أيضاً، حين شاهد صورة أسد في أحد الشوارع . وحين سُؤل عن سبب هروبهِ، أجابَ : إننا نستطيع قتل الأسود حين نراها كل يوم، إلا أننا لا نستطيع قتل صورها . وتفسير ذلك، هو إن (المنطق) البدائي قد أوجد علاقات (ذهنية) بين الأشياء المتشابهة، معتبراً هذه العلاقات على أنها حقيقة وقائمة في الوقع فعلاً . ويبرز من هذه الفكرة، نوعاً من الأستعاضة عن الأشياء بصورها، حيث تقوم فاعلية الشيء وخصوصيتهِ على الصورة (الكلمة) والتداعيات والتشابهات في الذاكرة أو الصور الذهنية للجماعة .

 

وتشير الأدلة الأثرية، إلى إن نسق الأشكال التجريدية متأخرة زمنياً عن مثيلاتها من نسق الأشكال الواقعية التعبيرية . وربما كان شأن ممارسة الفنانين والمتلقين في نحت ومشاهدة واستخدام الأشكال الواقعية التعبيرية، ولفترة طويلة، أن بدت الحاجة ملحّة إلى التحول نحو التبسيط والأختزال وصولا إلى التجريد في سماتها الفنية، طالما أن كل ماله نفس الشكل له في ذات الوقت نفس المضمون أو الفعل السحري . فربما كان مجرد (التلميح) بنوع من ملامح الصلة الشكلية مع مرجعياتها، كافياً لأدراك قوة وفاعلية الشكل الرمزي (السحرية)،  وقد وجد الفنان والمتلقي على حد سواء في ذلك، إرضاءً أكثر لنزوع الذهن، حيث لم يبقى منها من سمات مشتركة مع الأصل إلا إمارت بعيدة .

 

كما إن (تَرسّخ) مضامينها الرمزية في حركة الفكر الاجتماعي، وحصولها على أهمية قدسية، بعد أن تم أختبار فاعليتها السحرية لمرات عديدة . أن اكتسبت وحُمّلت (مدلولاتها) قيماً مطلقة . ليس بصدد ما يتعلق بأفكار الخصب في (جسد) المرأة فحسب، بل حققت صلة بالقوى الروحية المتحكمة في ذلك، فتوسعت مضامينها لتشمل كل مظاهر الخصب في الوجود، الأمر الذي حَرَّر أشكالها من مرجعياتها، نحو نوع من الإطلاق في بنية الشكل . فصلة التشبيه المادية المنظورة، قد أمكن الأستعاضة عنها بصلة روحية، هي صلة الرمز . حيث أنتصرت قيم الرمز الجوهرية الروحية، بالتحول من الفردية إلى الأعمام المطلق . ذلك أن بنية هذه الأشكال التجريدية الرمزية، لابد أن تكون بشكل تقابلات تسمو على الوقائع، وإلا فقدت كل مالها من قيم باعتبارها حقيقة . فقد كان هدف الفن في بنية هذه الأشكال، ليس التقليد، بل الكشف عن الصيغ التي تساند الفكر الإنساني في الدخول بصلات وثيقة مع عوالمهِ الميتافيزيقية .

 812-zohir

وتتركز الرؤية الفنية الإبداعية للفنان في هذا النوع من الأشكال التجريدية، إلى أنتزاع عدد من السمات الأساسية للشكل، لتكوين جوهره العام، وفي صيرورة من الخلق، تقوم على معادلة، أن كل ما له نفس الشكل، له أيضاً ذات الجوهر . ومن هنا يمكن أن نصل إلى نوعٍ من الرمزية الواعية، في توظيف وإنتقاء مظاهر الأشياء، باتجاه مطامح الوعي الجمعي . فقد كان (الفكر) يبحث عن البنية الأساسية للأشكال، لإبداع نوع من الأشكال المستخلصة أو المتحررة من طبيعتها، بأشكالها الخالصة المجردة من التفاصيل . فهنا يظهر الشكل وبما يتناسب مع النزوع الذهني للفنان، فيُحّمل الشكل أقصى طاقاتهِ تعبيراً، بدلاً من التمثيل الذي يعتمد التدقيق البصري المباشر .

 

وإن مظاهر الأختيار الواعي في التبسيط والاختزال، والتجريد أيضاً، هي السمة الهامة التي تميز بنية هذه الأشكال التجريدية الرمزية . والتي تعتمد على تقشير أغلفة الشكل احدها بعد الآخر وصولاً إلى اللب الذي يمثل الجوهر ـ وبنفس الآليات التي تميز أسلوب النحات (برنكوزي) في نحت أشكاله ـ وهي مظاهر أسلوب تستند إلى الوعي الفكري للجماعة، والذي يقرر ما وراء هذه (التمثلات) من صفات روحية تَتخفّى وراء هذه المظاهر . فالبنية الشكلية لهذه الرموز التجريدية، لم تكن تقصّياً (فوتوغرافياً) لملامح وتفاصيل الأشكال المرئية . بل هي تأويلات للمعنى وتشظية لمفهوم دلالة هذه الأشكال، والتي شهدت في زمنها وعياً إجتماعياً عاماً .

 

وحين نُغيّب عمل المراقبة البصرية والمشابهات المرجعية، نحو تفعيّل دور التأويل والكشف عن البنية الهندسية الخالصة في تركيب مثل هذه التماثيل الفخارية . يظهر إن (الفنان) قد أختزل الشكل إلى شكل أسفين ينتهي بزوج من الأشكال الاسطوانية . وكأنه قد سبق مقولة (سيزان) : بان أساس الأشكال في الطبيعة هي أشكال الكرة والمخروط والاسطوانة . فأنتزع من المرأة كل شيء، عدا الصورة التي يُفترض أن توقظها في الوعي، ليس بكونها امرأة، وإنما على إنها شكل امرأة . وكأن (المشهد) أشبه بالتمرد على الظواهر الخارجية، وأختراقها وتحطيمها من جديد، عَوداً إلى اللب . حيث اللون وحده، والحرية لوحدها في فضائها الذي لا تحدّهُ حدود .

 

وتشير كثرة أعدادها، إلى إنها نوع من المقتنيات الشخصية، حيث يتم الأحتفاظ بها في البيوت من قبل النساء، وربما يعزز صغر حجومها 2 ـ 3 سم، إلى حملها بشكل (دلاية) برقبة المرأة، خصوصاً وان معظم نماذجها كانت مثقوبة من الأعلى . ومن هنا تبرز الأهمية (الطقوسية) لهذا النوع من التماثيل ـ العوذ ـ الفخارية. وعظمة فاعليتها في الأعراف الاجتماعية لمجتمع دور حسونة . بوصفها نوعاً من الرموز الشفيعة والشخصية، وقد جرى العرف الأجتماعي، أن تجد نسوة حضارة حسونة فيها نوعاً من الأستقرار السايكولوجي، إزاء قدرة (الشفيع) المميزة، والتي أكسبها التمثيل التشكيلي خصوصياتها، بوصفها ضرباً من الحوار، بين الشخصية وتمثالها المرافق . إزاء رغبات وتهديدات القوى (الماورائية) التي يصعب التكهن برغباتها .

  

وظهر من فحص معظم نماذجها في المتحف العراقي، إلى أنها مُشكّلة من أطيان طبيعية، فطبيعة (الصنعة) تؤكد بدائيتها . إذ تستطيع كل امرأة من تشكيل بعض نماذجها المبسطة والصغيرة الحجم، وتحرقها في تنور الخبز الخاص بها بوصفها نوعاً من الصناعات الشعبية . حيث يكون خطابها الفكري التداولي، بمثابة نداء تواصل بين الأفراد، بوساطة ضرب من التناغم التعاطفي والوجداني، وقد وجد صداه بشكل تمثلات ذهنية ثابتة .

 

أ. د. زهير صاحب

كلية الفنون الجميلة – بغداد

  

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2080 الاربعاء 04 / 04 / 2012)

في المثقف اليوم