قضايا وآراء

تحليل ونقد الظاهرة الكردية في العراق (7-8) / ميثم الجنابي

بمعنى انتقالها من "قضية قومية" الى مشكلة مزمنة متعددة المستويات. الامر الذي يجعل من الضروري بالنسبة للعراق بلورة خطة عملية واضحة من اجل حلها النهائي. بعبارة أخرى، إن الحراك السياسي العراقي يدفع في هذا المجال «القضية الكردية» إلى الأمام بوصفها قضيه خياره الاستراتيجي في بناء الدولة الوطنية والنظام السياسي البديل. ومن ثم تتراكم أهمية حسمه النهائي لهذه القضية من خلال وقوفه أمام مفترق حاد أيضا، وهو أما المطالبة بالاندماج الوطني الثقافي للأكراد فيه أو «فطمهم» عنه. بمعنى تراكم الهواجس والمشاعر والرؤى السياسية عما يمكن دعوته بتحرير العراق من ثقل «المشكلة الكردية».

وتقف هذه الهواجس والمشاعر والرؤى بالضرورة أمام مفترق طريقين، وهما أما الاندماج وأما الانفصال. غير أن لكل منهما مشروعه الخاص. وبالتالي فإن لكل منهما مقدماته النظرية، وأساليبه ووسائله وغايته العملية.

ففيما يتعلق بمشروع الاندماج السياسي الثقافي بالعراق، فقد سبق وان وضعت فلسفته العامة فيما أسميته بإستراتيجية المثلث البناء في كتابي (العراق ومعاصرة المستقبل). وينطلق هذا المشروع من فاعلية وضرورة تحويل «الدولة الكردية» المفترضة من كيان تقليدي إلى كينونة ثقافية سياسية. وذلك عبر بنائها على أسس ثقافية وسياسية تذلل جذر القومية العرقية. وهو مشروع يفترض من الحركات القومية الكردية العمل على صياغة رؤية سياسية ذات مبادئ عامة وقواعد معقولة لتحقيق «مناطق كردية ثقافية - سياسية» والانتقال عبرها بصورة تدريجية إلى «كردستان جيوسياسي ثقافي» متداخل عضويا في منطقة آخذة بالتكامل الاقتصادي والسياسي باعتباره ضمانة الاندماج والتكامل الكردي. كما أنها ضمانة إزالة الفتيل وإمكانية الفتنة، وكذلك ضمانة ظهور شعب كردي ثم قومية كردية قابلة للتطور والارتقاء، تشكل رصيدا إضافيا لقوة المنطقة وتطورها واستقلالها. مع ما يترتب على ذلك من تأسيس إمكانية الحركة المتناسقة للتطور الذاتي للمنطقة وشعوبها اجمع. وشأن كل مشروع إستراتيجي من هذا القبيل، يفترض تأسيس مقدماته وغاياته بمعايير الرؤية الواقعية والعقلانية، بمعنى ضرورة خلوه من الأبعاد الأيديولوجية والقيم النفسية لكي يجري فهم خصوصية القضية القومية الكردية وشروط تكاملها الذاتي المحتمل.

إن الإشكالية الكبرى والجوهرية للأكراد تقوم في ضعف تكاملها الذاتي. ويشمل هذا الضعف البنيوي في الواقع كل مكوناتها. وليس انفصال أو انفصام القومية والدولة و«تجزئة» الأكراد في دول ومناطق مختلفة من الناحية القومية، ومتداخلة من الناحية التاريخية والثقافية والدينية، سوى الصيغة الأكثر حساسية لهذا الضعف البنيوي. وليس اعتباطا أن تتخذ الحركة القومية الكردية المعاصرة في الأغلب، صيغة البعد السياسي. فهو المظهر الأكثر حساسية وقوة في التعامل مع واقع التجزئة والانفصام والإشكاليات العديدة المترتبة على ذلك في ميدان الحياة الاجتماعية والثقافية وغيرها من ميادين الحياة.

إن وجود الأكراد بين قوى قومية ودولتية (فارسية وعربية وتركية) لها تاريخها السياسي والثقافي الكبير والمؤثر في المنطقة، هو أحد العوائق الكبرى التي حالت دون نشوء وتبلور الحركة القومية الكردية بطريقة تكفل لها إمكانية التعايش والاندماج في المنطقة بهيئة دولة وقومية مستقلة. وهي ملابسات أدى التدخل الكولونيالي الأوربي في القرن العشرين وتقسيم السلطنة العثمانية بأثر الحرب العالمية الأولى إلى غرسها بطريقة يبدو من المستحيل تغييرها. إذ أدى إلى تكريس وتعميق وتوسيع الضعف البنيوي التاريخي المميز للأكراد وحركاتهم السياسية المعاصرة. مما أعطى للضعف البنيوي المشار إليه أعلاه طابعا منظوميا. ويتكون هذا الضعف البنيوي المنظومي من ثلاثة أضلاع أساسية هي:

•    ضعف التكامل القومي،

•    التجزئة الجغرافية السياسية،

•    الاندماج المستلب في الإرث التاريخي والثقافي للمنطقة.

والمقصود بضعف التكامل القومي هو أن الأكراد لم يتشكلوا بهيئة دولة لها تاريخ خاص مؤثر وفعال في بلورة تقاليد سياسية وثقافية مستقلة وطويلة الأمد على أي مستوى كان. الأمر الذي جعل من "التاريخ الكردي" مجرد زمن لا غير. وهو ضعف جلي على خلفية كون الأكراد هم من سكان المنطقة. ووجد هذا الضعف انعكاسه أيضا في البنية الاجتماعية القبلية والجهوية الراسخة بما في ذلك في الوعي القومي والسياسي المعاصر. كما حصل هذا الضعف على امتداده في التجزئة السياسية للأكراد في دول عدة. مما أدى بدوره إلى الضعف الثالث المكمل ألا وهو استلابهم الثقافي تجاه ارثهم المشترك مع الفرس والأتراك والعرب.

ومن تأثير أضلاع هذا المثلث ظهرت مختلف أشكال ونماذج القضية الكردية وحركاتها الاجتماعية والسياسية. ويطغي على هذه الحركات جميعا الطابع القومي العرقي. وهو أمر طبيعي في ظل عدم استكمال الصيرورة الكردية المعاصرة في كيان له استقلاليته النسبية وتأثيره المتميز والفعال في المنطقة، بوصفهم أحد مكوناتها. وقد حاصر هذا المثلث القضية الكردية في جوانبها القومية والجغرافية السياسية والثقافية، بحيث يصعب حلها دون فك أضلاعه بطريقة لا تجعل «كردستان» فجوة لا مكان فيها للتكامل والتطور الطبيعي. الأمر الذي يطرح مهمة حلها بطريقة يعيد للأكراد إمكانية التكامل في قومية سياسية ثقافية مندمجة في المنطقة.

فمن المعلوم أن القضية الكردية كانت في غضون عقود عديدة وما تزال أحد مصادر «القلاقل» الفعلية بالنسبة للدولة التركية والإيرانية والعراقية. كما كانت هي «ضحية» التلاعب بها من جانب هذه الدول أيضا. وقد كانت النتائج دوما تصب في اتجاه تخريب أمن وتكامل المنطقة ومكوناتها. والسبب في ذلك يكمن في تداخل الإشكاليات القومية والجيوسياسية والثقافية للقضية الكردية.

فمن جهة يصعب تحديد هوية القومية الكردية بصورة دقيقة وذلك بسبب عدم تكاملها الذاتي والمواقف المختلفة تجاهها من جانب تركيا وإيران والعراق. فكل من هذه الدول ينظر إلى «القضية الكردية» ضمن حدوده فقط. كما أن الحركات الكردية عادة ما تتعامل مع قضيتها القومية ضمن حدود جيوسياسية محددة.

فإذا كان الأكراد بالنسبة للعرب (العراقيين والعرب عموما) هم كيان قومي مستقل ومتميز ومعترف به أيضا على مستوى العرق واللغة والتقاليد، فان المسألة لا تبدو بهذه السهولة بالنسبة للأتراك والإيرانيين. الأمر الذي يفسر جزئيا نضوج الحركة القومية الكردية في العراق والاعتراف بها من جانب جميع القوى العربية بغض النظر عن اختلافاتها السياسية والأيديولوجية. بينما عانت وما تزال تعاني من تعقيدات جمة في كل من تركيا وإيران.

أما الجانب الجيوسياسي، فان «التنازل» عن الأرض بالنسبة لتركيا يعني تهديد وجودها الجغرافي والتاريخي والسياسي، بينما يشكل بالنسبة لإيران بعدا لا يمكن القبول به لا من وجهة نظر التاريخ ولا الجغرافيا ولا السياسة. ولا تقل المسألة من تعقيد بهذا الصدد بالنسبة للعراق.

أما الجانب الثقافي فانه الوحيد الذي يصعب مصادرته من قبل أي طرف كان، وخصوصا ما يتعلق منه بالتراث الإسلامي. فهو الإرث الذي يتقاسمه الجميع بقدر يتوقف حجمه ومعناه على مستوى الانتماء إليه وتمثيله.

مما سبق يتضح حجم المعاناة الفعلية بالنسبة لقيام «كردستان» مستقل أو دولة «كردستانية» بالمعنى التقليدي للكلمة. إلا انه يفسح المجال أمام تكاملها على المدى البعيد بطريقة ثقافية سياسية تجمع في ذاتها مضمون الدولة والقومية عبر تكاملهما الطبيعي في المثلث التركي – الإيراني - العربي، أي عبر تكوين ما ادعوه «بالمثلث البنّاء». بمعنى العمل من اجل تحويل القضية الكردية من معضلة إلى مسألة، ومن «مصدر للقلاقل» إلى «ساحة للأمان» ومن «ورقة للعب» إلى «وثيقة تعاون»، باختصار تحويلها من قضية اختلاف إلى أسلوب للتعاون. وهي إمكانية قائمة في القضية الكردية ودول المثلث نفسها، من خلال تحويله إلى مربع البناء الجديد.

ويمكن صنع هذا المربع عبر تكامل «كردستان» فيه بصورة تدريجية. وهو تكامل يمكنه أن يحوّل المثلث إلى مربع، أي دمج «كردستان» في عمل «المثلث البنّاء»، ومن خلاله تكامل الأكراد و«كردستان» في كيان ثقافي سياسي إقليمي يمثل صيغة نموذجية ومصغرة «لخلافة ثقافية»، ليست دينية أو قومية أو دولتية.

ينطلق هذا المشروع من إدراك الأبعاد العميقة والبعيدة المدى للمصالح الحيوية والجوهرية لدول المثلث نفسها أيضا. انطلاقا من أن ضعف الأكراد و«كردستان» هو ضعف للجميع. وعلى عكس ذلك، تصبح قوة الأكراد و«كردستان» قوة إضافية للجميع. والمسالة هنا ليس فقط في أن الأكراد و«كردستان» هي بقعة لا يمكن إزالتها من الجغرافيا والتاريخ والثقافة، بل وللدور الرمزي الذي يمكن أن يضطلعا به في إعادة توحيد المنطقة بطريقة نموذجية على المدى البعيد في حالة وضع المسألة الكردية بصورة سليمة ضمن آلية فعل ما أسميته «بالمثلث البّناء». وهي آلية يمكنها الفعل بطريقة إيجابية بهذا الصدد في حال استنادها إلى رؤية عقلانية وواقعية عما أدعوه بالحدود الثلاثة وهي:

•    الحدود القومية ومنطق الدولة العصرية،

•    والحدود الجغرافية للدولة ومنطق المصالح الاقتصادية والسياسة،

•    والحدود الجيوسياسية للثقافة والتاريخ المشترك.

فهي أضلاع المثلث البديل لمثلث الضعف البنيوي، أي ضعف التكامل القومي، والتجزئة الجغرافية السياسية، والاندماج المستلب في الإرث التاريخي والثقافي للمنطقة. وذلك لان الحالة التاريخية والجغرافية السياسية والثقافية «لكردستان» المعاصر تفترض من الحركات القومية الكردية بهذا الصدد معرفة الحدود الذاتية لها في ميدان العلاقة الواقعية بين القومية والدولة العصرية، بين الجغرافيا والمصالح الاقتصادية - السياسية للدول، وأخيرا بين الجغرافيا السياسية للثقافة والتاريخ المشترك للمنطقة.

ويفترض هذا الإدراك أن يكون ملازما لطبيعة الحركات السياسية والاجتماعية الكردية. فالحركات الكردية جميعا هي حركات قومية عرقية من حيث بواعثها ونياتها وغاياتها ورؤيتها لمجريات الأحداث. ولا يمكنها تخطي هذه الحدود «القومية» بفعل ضعف التكامل القومي للأكراد على مستوى القومية والجغرافيا السياسية والثقافة وانعدام الدولة. مما يفترض بدوره أن يكون البديل النظري والعملي بهذا الصدد مدركا لحدود العلاقة الواقعية بين "القومية" الكردية والدولة التي يقطنوها حاليا. بمعنى ضرورة إدراك أولوية وجوهرية قواعد ومتطلبات الدولة العصرية والنضال من اجلها، بوصفه الأسلوب العقلاني والواقعي لتحقيق التكامل الكردي القومي والثقافي والسياسي ضمنها. ولا يمكن بلوغ هذا الإدراك نظريا وعمليا دون العمل حسب قواعد المنطق العصري لدولة الحقوق والمؤسسات الشرعية.

ومن هذه المقدمة الجوهرية فقط يمكن تأسيس الخطوة الثانية المتعلقة بادراك حدود الجغرافيا ومنطق المصالح الاقتصادية - السياسة للدولة التي يقطنوها حاليا. فالجغرافيا السياسية لدول الانتشار الكردي الثلاث (تركيا وإيران والعراق) ليست فقط كيانات يصعب التلاعب بها أو تغييرها فحسب، بل وهي حدود خارجية لها أيضا. وإدراك هذين الجانبين (الكيان والحدود) ينبغي أن يشكل مضمون الإدراك العقلاني والواقعي لما أسميته بحدود الجغرافيا السياسية ومنطق المصالح. ولا يمكن بلوغ هذا الإدراك نظريا وعمليا دون العمل من اجل تحويل جانب «الكيان» المذكور أعلاه إلى كينونة فاعلة في بناء المؤسسات الحكومية المندمجة في المصالح الاقتصادية والسياسية لكل دولة من الدول الثلاث، وتحويل جانب «الحدود» الخارجية فيها إلى «حدود» داخلية فاعلة في بناء التكامل الاقتصادي والسياسي للأكراد. .

ويشكل إدراك حدود الجغرافيا السياسية للثقافة والتاريخ المشترك الخطوة الضرورية الكبرى الأخيرة صوب تركيب أضلاع «المثلث البنّاء» ضمن «كردستان». فهو البعد الأخير في مثلث البديل العقلاني والواقعي لتكامل الأكراد وتذليل ضعفهم البنيوي ضمن كل دولة من الدول الثلاث. بمعنى العمل من اجل تكامل الثقافة الكردية ضمن كل دولة على انفراد من خلال التفاعل الجوهري والبناء مع الثقافة الأوسع (التركية والفارسية والعربية). فهو الأسلوب الذي يحررها من الانغلاق والانعزال من جهة، ويدمجها في حركة إبداعية فاعلة تساهم في تعميق النظام العقلاني والحرية الاجتماعية من جهة أخرى. ومن خلالها يمكن استعادة تأثير وفاعلية الإرث التاريخي المشترك في الهموم الكبرى العاملة على تقريب دول المنطقة واختفاء الحدود الجغرافية والسياسية بينها. وهو مضمون ما ادعوه بإستراتيجية المثلث البنّاء، أي المثلث القادر على بناء تكامل ذاتي للمنطقة والأكراد على السواء في عملية تاريخية يمكن «لكردستان» المفترضة أن تتحول إلى كردستان واقعية، هي كردستان قومية – ثقافية.

غير أن هذه العملية تفترض بدورها بناء أضلاع المثلث البنّاء داخل كل دولة من دول المحور الثلاث داخليا وخارجيا. إذ أنها متوقفة أيضا على

•    حلّ إشكالية الحدود القومية حسب منطق الدولة العصرية، من خلال السعي لبناء «القومية الثقافية»، أي الدولة الشرعية الحاضنة لكل أقوامها بطريقة مبنية على أساس أولوية وجوهرية القانون والعدل التام.

•    وحلّ إشكالية الحدود الجغرافية السياسة حسب منطق المصالح الجوهرية للدولة والمجتمع بما يضمن فعالية الاستقرار والحداثة.

•    وحلّ إشكالية الثقافة المشتركة والقومية من خلال بناء منظومة الإبداع المشترك المحدد بأولوية الهموم المشتركة لا حسب قواعد الهيمنة والاستبعاد.

ويشكل النضال من اجل إنجاز هذه العملية فعلا جوهريا بالنسبة لتكامل الأكراد على مستوى القومية والسياسة والثقافة. لاسيما وأنها العملية الوحيدة الواقعية والعقلانية لتكامل المنطقة سياسيا واقتصاديا وثقافيا وجغرافيا. فهو التكامل العقلاني الذي يمكنه أن يؤدي إلى اختفاء الحدود الجغرافية والسياسية من خلال الاستعاضة عنها بقواعد النظام الاقتصادي والحقوقي والثقافي. الأمر الذي يعطي «لكردستان» إمكانية الظهور الواقعي والفعلي عبر الاندماج الاقتصادي والحقوقي والثقافي في المنطقة دون صراع واحتراب وخسائر بشرية واقتصادية وثقافية لا معنى لها ولا ضرورة.

يقدم هذا المشروع للأكراد و«كردستان» مهمة تاريخية جديدة في المنطقة، ألا وهي مهمة الظهور بهيئة قومية ودولة «بلا حدود»، بمعنى أن ظهورهما (الدولة والقومية) مرهون باختفائها (الحدود الجغرافية – السياسية). وبالتالي يعطي «لكردستان» المفترضة دور الفاعل المهم والضروري في توحيد أهم مكونات العالم الإسلامي (العرب والفرس والأتراك). كما يمكنه أن يجعل من «كردستان» مكونا جيوسياسيا وثقافيا أضافيا في المنطقة. بل يمكن القول، بان تحقيق هذا المشروع يشكل بحد ذاته ظاهرة جديدة في التاريخ السياسي للمنطقة، تضمن للجميع إمكانية الاستقرار والاستقلال والتطور التلقائي والتكامل الاقتصادي والسياسي والثقافي.

وينطلق هذا المشروع من فاعلية وضرورة تحويل «الدولة الكردية» المفترضة من كيان تقليدي إلى كينونة ثقافية – سياسية. وذلك من خلال بنائها على أسس ثقافية وسياسية تذلل جذر القومية العرقية. وهي ظاهرة يمكن رؤيتها في الكثير من الدول المعاصرة، مع أن لكل منها خصوصيته، ولا يشكل أي منها نموذجا شاملا. فالولايات المتحد هي بمعنى ما أمة (أمم) بلا دولة، ودولة بلا أمة. بينما هي دولة قوية ومتماسكة. وسبب ذلك يقوم في أولوية الأمة الثقافية على الأمة العرقية فيها. كما تشكل سويسرا نموذجا آخر لهذه الظاهرة، بمعنى «دولة بلا قومية وقومية بلا دولة».

طبعا ليس المطلوب أن تكون «كردستان» «ولايات متحدة» أو «سويسرا» المنطقة، وذلك لتباين المقدمات والمكونات والتاريخ والثقافة. ولكن من الممكن توقع «ولايات متحدة» تدمج فيها إيران وتركيا والعراق وسوريا (والعالم العربي والشعوب التركية والإيرانية على المدى البعيد) على غرار التجربة الأوربية المعاصرة (الاتحاد الأوربي). وهي إمكانية تتوقف من حيث الجوهر على كيفية إعادة صياغة الفكرة القومية عبر نقلها من مستوى وميدان الفكرة العرقية إلى مصاف القومية الثقافية. ولا تعني هذه الفكرة «حرق المراحل» بالنسبة لشعوب المنطقة، وذلك بفعل اشتراكها العريق في تراث مشترك يكفل الارتقاء إلى مصاف الرؤية الثقافية مع الاحتفاظ بالخصائص القومية. لاسيما وان القومية الثقافية من حيث الإمكانية والواقع هي حاملة القومية السياسية، والقومية السياسية هي حاملة القومية الثقافية. وهي فكرة يمكن رؤية نموذجها الأوربي في تجربة تجسيد «الاتحاد الأوربي» المعاصر.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن مهمة هذه الأمثلة تقوم في قدرتها فقط على مساعدتنا في رؤية «الممكن» و«الاحتمال الغريب»، بمعنى الاحتمال القادر على تذليل الاستغراب المتوتر لرجل السياسة العادي وأنصاف المتعلمين وحنق الرومانسيين الراديكاليين. وفيما يخص الحركات القومية الكردية، فان صياغة رؤية سياسية ذات مبادئ عامة وقواعد معقولة للعمل من جانبها في تحقيق «مناطق كردية ثقافية - سياسية» ومنها إلى «كردستان جيوسياسي ثقافي» متداخل عضويا في منطقة آخذة بالتكامل الاقتصادي والسياسي هو ضمانة إزالة الفتنة القومية والسياسية. وفي حصيلته يعطي لجميع أقوام المنطقة ودولها إمكانية الحركة المتناسقة للتطور الذاتي ومعاصرة المستقبل بمعاييرها الخاصة وإمكاناتها الفعلية.

غير أن هذا المشروع الاستراتيجي يبقى، إن أمكن القول، جزء من العقلانية النموذجية التي لم يرتق إليها الوعي القومي الكردي بعد. الأمر الذي يجعل من هذا المشروع مجرد فرضية نظرية، مع أنها عميقة لمحتوى وواقعية. وبالتالي يمكن تحقيقه من خلال بناء ما ادعوه بالمثل العربي الإيراني التركي بوصفه الحاضنة المستقبلية لحل القضية الكردية بالشكل الذي يضمن اندماجها التدريجي في المثلث العام والتكامل الذاتي بهيئة قومية خاصة فيه. ويمكن بلوغ ذلك في حال

•    ارتقاء الإرادة السياسية من مستوى الغريزية الحيوانية إلى مستوى العقل الاجتماعي عند الجميع (دولا وحركات سياسية ونخب).

•    بلورة تقاليد وحدود الإجبار التاريخي السياسي، بمعنى إجبار الحركات القومية الكردية على الاندماج بمعايير الثقافة والسياسة والاقتصاد والحقوق.

وذلك لان إنشاء "دولة كردية" من خلال اقتطاع أراض تركية وإيرانية وعراقية وسورية وأرمينية وأذربيجانية أمرا مستحيلا. كما أن "الدولة الكردية" التي تلازم الوعي القومي العرقي بهيئة كيان شبيه بإسرائيل هو الآخر مستحيل أيضا. فما حدث على غفلة من الزمن (بالنسبة لفلسطين) لا يمكنه الحدوث الآن. إضافة إلى أن إسرائيل ووجودها هو مجرد وقت. وذلك لأن تحللها وتفككها وزوالها أمر حتمي بحكم الضرورة!

مما سبق يمكنني القول، بان مشروع "المثلث البناء" و"المربع البناء" لا يفقد قيمته العملية، وذلك بسبب طابعه الاستراتيجي وبنيته الفلسفية الثقافية وليست الأيديولوجية. لكنه يفقد قيمته العملية المباشرة في حال بقاء الحركة القومية الكردية ضمن ما أسميته بمثلث الضعف البنيوي. مع ما يترتب عليه من نفسية وأيديولوجية الانفصال الظاهرة أو المستترة. حينذاك تصبح مهمة تأسيس بديل واقعي وعقلاني للرؤية العراقية تجاه الفصل القومي للأكراد مخرجا آخرا لمفترق القضية الكردية.

ومهمة هذه الرؤية لا تقوم في التأسيس «لطرد» الأكراد أو «إخراجهم بالقوة» من العراق، بقدر ما ترمي إلى نقد ذهنية ونفسية وآلية الخلل الفاعلة في الرؤية السياسية القومية الكردية. وهو خلل تدعمه تجربة السنوات الأخيرة ما بعد سقوط الدكتاتورية الصدامية. فبعد أن توفرت للمرة الأولى في تاريخ العراق المعاصر إمكانية السير الواقعي والعقلاني في إستراتيجية «المثلث البناء»، نقف أمام سلوك يتصف في اغلب مكوناته بمغالطة منطق الدولة العصرية وآفاق الاندماج السياسي الثقافي والوطني بالعراق.

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2081 الخميس 5 / 04 / 2012)

في المثقف اليوم