قضايا وآراء

الدبلوماسية البرلمانيـة / صبحـة بغورة

بموجب وثيقة رسمية توجه الى صاحب السلطة في البلد المقصود، اتسع مضمونه في العصر الحديث فصار يعني إدارة الشؤون الخارجية للدولة ورعاية المواطنين وادارة العلاقات الدولية والجهود المبذولة للتوفيق بين مصالح الأمم بموجب القوانين والمعاهدات الدولية والسعي لحل الخلافات بينها بطرق سلمية أساسها الفطنة والذكاء والمرونة لإبعاد خطر النزاعات المسلحة، الدبلوماسية علم وفـن هدفها تحقيق مصالح الدولة على الصعيد الخارجي، علم يعتمد على الإحاطة بالقوانين والأعراف الدولية، وفـن يتطلب الكياسة والفراسة واللباقة في التعاطي مع الملفات المطروحة .

البرلمان هيئة نيابية ذات اعتبار قانوني ومكانة سياسية هامة تستمدهما من نص الدستور، وللبرلمان جملة من الواجبات مدعومة بحزمة من الصلاحيات تتشكل منهما مهامه ويكتسب من مجموعهما أهميته في تنظيم شؤون الدولة، أنه يشرع القوانين ويدرس ويناقش مشاريع القوانين التي يحيلها عليه مجلس الوزراء ويصادق على برامج عمل الحكومة ومخططاتها ويراقب عمل الجهاز التنفيذي وأدائه ويقيم حصيلته السنوية ويسهر على ضمان التعامل الايجابي والفعال مع كل قضايا الوطن سواء من جانبه ومن مجموعة النواب أو من جانب وزراء الحكومة، وهو يستمد مصداقيته من شرعية صناديق الانتخابات وأصوات الشعب واختيار المواطن أي أنه بذلك واجهة تعبر عن إرادة الشعب في إطار الدولة .

 أحدثت التطورات المتسارعة والمتغيرة في العلاقات الدولية تأثيرات كبيرة على الشؤون الداخلية للأمم سرعان ما انعكست على طبيعة الحياة الاجتماعية للدول بعد تنامي التبادلات الدولية لذا فقد فرض هذا الوضع على البرلمانات الوطنية ضرورة التدخل على مستوى الساحة العالمية من أجل تقديم مساهمتها في إطار الجهود الدولية المبذولة من أجل تحقيق السلم والديمقراطية والأمن والتعاون والتنمية وهي مسائل هامة وتتمتع بالطابع العالمي وذات هامش دولي للتحرك في مجال واسع يدفع البرلمانيين في نشاطهم اليومي إلى التعاون مع برلمانيي الدول الأخرى في ميادين عديدة مثل حقوق الإنسان الأساسية وقضايا البيئة ووالمسائل الخاصة بالتنمية المستدامة، بالإضافة إلى تبادل الخبرات في ميدان التشريع والتجارب في مجالات العمل البرلماني بصفة عامة، وهو ما ساعد لاحقا على فتح المجال واسعا للحديث عن مدى إمكانية قيام هذه البرلمانات بتقديم يد المساهمة في إحداث تقارب ما بين الثقافات والديانات والحضارات وتصور سبل التواصل لتسهيل الفهم المتبادل فهما جيدا، وبما أنه من المفروض أن تمثل برلمانات العالم صروحا راقية للممارسة الديمقراطية الفعلية وتكون مجالات واسعة للحوار الهادف والبناء لذا فكان من الطبيعي التطلع إليها بعيون الأمل أن تستشعر هذه البرلمانات واجبا عليها بان تكون بحق جسورا ممتدة دائما توصل بين شعوب العالم، وبما أن الأمر هنا يتعلق بالعلاقات الدولية وبافتراض أنه يجب أن يكون الجهد البرلماني على الصعيد الخارجي في توافق كامل وتقارب تام مع دبلوماسية الدولة فالبرلمان إذن يكون هنا في موقع من يسعى للتعبير عن إرادة الدولة المستندة إلى الشرعية والى سيادة الشعب على الساحة الدولية هذا من جهة، ومن جهة أخرى فان للجهود البرلمانية أهميتها في التأثير على دوائر بلورة الاتجاهات وأوساط رسم السياسات ومراكز اتخاذ القرار وذلك بحكم استقلالية النواب وهامش حركة النشاط الواسع المتاح أمامهم، وإذ تحمل هذه الجهود في ثناياها صوت الشعوب فان ذلك يتيح لها أيضا إمكانية الاتصال السهل والتعارف العفوي دون قيود أو ما تفرضه واجبات التحفظ وإجراءات الحذر .

 إذن في عالمنا المتسم بتعقيد وتشابك المصالح ما تزال تتأكد الحاجة دوما إلى ضرورة تعميق التعاون بين برلمانيي الدول وتنويع ميادينه وتوسيعه إلى مختلف المجالات، ومن هنا برز مفهوم التعاون البرلماني كمفهوم جديد فتح أبواب الأمل أن يتطور أكثر نحو الإسهام في توطيد الجهود المشتركة في إطار من التشاور والتنسيق من اجل تقريب الآراء سياسيا واجتماعيا وثقافيا على الصعيد الدولي بعدما نزعت العولمة الصفة الإنسانية من طبيعة وواقع العلاقات الدولية في عالم يتحرر اقتصاديا وبذلك تم الانتقال الموضوعي والهادئ من مفهوم التعاون البرلماني إلى الدبلوماسية البرلمانية التي أصبحت وسيلة لترقية مجالات تبادل الآراء وتنسيق الأنشطة وأداة لدفع التعاون بين الأمم حيث يقوم أعضاء البرلمان بها ومن خلالها بتوضيح وفي إطار رسمي وشرعي لأعضاء البرلمانات الأخرى المواقف الرسمية لبلدانهم من مختلف القضايا سواء ذات الطابع الوطني أو الإقليمي أو ذات الطابع الدولي، وعليه يمكن القول بأن الدبلوماسية البرلمانية تعكس الاتجاه الذي يؤكد أن ديمقراطية الحياة الداخلية للأمم تبني امتدادها على ديمقراطية العلاقات بين هذه الأمم ولذلك فهي تشغل حيزا كبيرا في مجال العلاقات الدولية إذ يعتبرها البعض دبلوماسية مكملة ومرافقة للنشاط الدبلوماسي الحكومي بمعنى أن البرلمانات بإمكانها أن تقوم بدور تكميلي وليس تنافسي مع الحكومات أي أنه ينتظر منها أداء دور دولي فعال في معالجة القضايا الدولية واحتواء الأزمات ومن ذلك أيضا إيجاد الدوافع السياسية اللازمة لإنجاح مشروع ما لأن الدبلوماسية البرلمانية تتمثل في الروابط التقليدية بين المؤسسات التي نشأت تلقائيا في أوطانها ولذلك تبرر هذه الروابط للبرلمانيين مشروعية الاهتمام بالقضايا الدولية العابرة للحدود .

 

  * إطار التطور التاريخي للدبلوماسية البرلمانية  : جاء مفهوم الدبلوماسية البرلمانية مع مجيء البرلمانيين الذين احتاجوا إلى اللقاء مع نظرائهم المنتخبين من الشعوب الأخرى للتشاور وهو ما انتهى إلى مفهوم العلاقات البرلمانية الدولية، والعلاقات البرلمانية الدولية هي أقدم من العلاقات المتعددة الأطراف بين الدول، وقد تأكدت مكانتها وفرضت نفسها كواقع سياسي في ظل عولمة التبادلات التجارية وشمولية الاقتصاد وما ترتب عنها من التبعية المتبادلة والمصالح المشتركة المتزايدة بين الأمم فكانت هي عاملا من عوامل الزوال التدريجي للحاجز الحديدي المتمثل في العراقيل الإيديولوجية التي تشكلت بعد نهاية الحرب الباردة وما تبعها من انغلاق بين الشرق والغرب، كان صدى هذا المفهوم الجديد واسعا لاسيما في البلدان المتطورة وفي أوساط الحركات السلمية، ثم بدا وكأن التطور المفرط في العلوم والتكنولوجيات في مجال الحرب والذي كان من الصعب التحكم فيه قد نقل ساحات العمليات من ميدان المواجهة العسكرية إلى كواليس أقل خطورة وهي الدبلوماسية وساعد في تحقيق ذلك اتجاه العمل الدبلوماسي إلى " التخصص " بعدما وجدت الدبلوماسية نفسها أمام مجالات أحيانا تقنية خارجة عن الميدان السياسي التقليدي في الاتفاقات والمفاوضات الدولية وهو ما نشأ عنه لاحقا مفاهيم جديدة ومنها مثلا الدبلوماسية البرلمانية

 

  *مفهوم الدبلوماسية البرلمانية  : الدبلوماسية البرلمانية هي نمط خاص للدبلوماسية الجماعية المفتوحة تتخذ من المنظمات الدولية والإقليمية مسرحا لها كما هو الشأن بالنسبة للاتحاد البرلماني الأوروبي واتحاد الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي وجمعية برلمانات آسيا للسلام والاتحاد البرلماني العربي ... الدبلوماسية بتعريفها التقليدي هي التطبيق العملي لفن تحقيق الممكن، وقد توسعت الدبلوماسية باتساع دوائر التعاون الدولي وتعاظم مصالح الشعوب وتداخلها، وأضاف ظهور الدبلوماسية البرلمانية للعمل الفكري السياسي بعدا جديدا متعدد الآثار والنتائج، والدبلوماسية البرلمانية تعمل ولاشك بالتوازي مع الدبلوماسية الرسمية في تحقيق أهداف تساهم في حل النزاعات واحتواء الأحداث، كما تقوم بدور استكشافي أو استشرافي مكنها من أن تكون أداة فعالة داخل النظام الدستوري للدولة وفي علاقات الشعوب بعضها البعض بسبب ما يتاح لها من حرية أكبر ورقعة نشاط أوسع باعتبار أن القائمين بها ليسوا من أهل السلطة التنفيذية المقيدين بضوابط محددة وهوامش ضيقة لحركتهم، فهم متحررين نسبيا من قيود الصفة التنفيذية والتزاماتها .

مما سبق تتضح حقيقية أن الدبلوماسية البرلمانية هي قوة اقتراح فاعلة وأداة هامة في توفير سبل الاتصال ونقل المعلومات وتليين المواقف بين الأطراف المتنازعة في أوقات الأزمات، حيث تكون مؤهلة للاضطلاع بدور " نبيـل " في تقريب وجهات النظر سواء في شكل وساطة حميمية أو نصح راشد بصدق وإخلاص لطرف أو أكثر بما قد يؤدي على أقل تقدير إلى عدم تصعيد التوتر القائم أو التخفيف من حدته واتقاء مخاطره وانعكاساته المضرة على المصالح المشتركة للمتنازعين واحتواء ما قد يحمله من تهديدات على السلم والأمن الدوليين، ومن هنا اكتسبت الدبلوماسية البرلمانية دورها الحيوي في منح المزيد من الفعالية للسياسة الخارجية للدول ولنشاط المنظمات الحكومية وغير الحكومية في خضم هذا العالم الجديد والمتغير الساعي نحو إعادة ترتيب أوراقه ومساره حفاظا على الأمن وتدعيما السلم وتكريسا للتعاون وتحقيقا للمصالح الحيوية المشتركة .

على مدى السنوات الأخيرة عرفت الممارسة الدبلوماسية البرلمانية ازدهارا كبيرا سواء على الصعيد الوطني من خلال تبادل الزيارات بين المجالس البرلمانية وإنشاء لجان الصداقة، أو من طبيعة المواضيع التي تتصدر جداول أعمالها، وأيضا في مستوى المحافل الدولية بالعديد من المجالات السياسية والمنتديات التنموية مما جعلها تتبوأ مكانة مرموقة تؤهلها للقيام بدور هام ومتنامي في وضع أسس راسخة ونسج قواعد ثابتة ورسم أخلاقيات سامية للعلاقات الدولية بالإضافة إلى المساهمة في تعزيز وتلطيف حدة المتغيرات غير الملائمة المؤثرة في حسابات القوى الدولية، ومن أبرز مظاهر ازدهار هذه الممارسة ارتفاع أعضاء الاتحاد البرلماني الدولي إلى 146 بلدا وتشكيل ثلاثين مجلسا برلمانيا دوليا، وإقامة الجمعية العامة للأمم المتحدة جسرا مع البرلمانات الوطنية بدعوة وفد برلماني عن كل دولة عضو للمشاركة في كل جلسة علنية للجمعية، بالإضافة إلى أن هناك تسريب لفكرة البعد البرلماني في هيئة الأمم المتحدة أي تعزيز هذه المنظمة بجناح برلماني . يمكن أن يكون للجمعيات البرلمانية أسس إما جغرافية مثل الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا، والجمعية البرلمانية الأورو متوسطية الحاملة لحوار سياسي بين البرلمانيين الممثلين للدول المتوسطية المشاركة في مسار برشلونة والبرلمانات الوطنية للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي والبرلمان الأوروبي بخصوص المساهمة في التفكير حول أسس إنشاء الاتحاد من اجل المتوسط، والجمعية البرلمانية للكومنولث ومجلس الشورى في مجلس التعاون لدول الخليج العربية ومجلس الشورى لاتحاد المغرب العربي .. وإما أسس خاصة بالموضوع مثل الجمعية البرلمانية لمنظمة حلف الشمال الأطلسي بالنسبة لقضايا الأمن والدفاع، والجمعية البرلمانية الفرانكفونية بالنسبة لقضايا تطوير اللغة الفرنسية ...

ومن أجل ممارسة النشاط الدبلوماسي البرلماني كان لابد من توفر عدة مقتضيات وجعلها في صيغة جملة من الشروط من شأنها إكساب هذا العمل المزيد من الاحترافية المهنية والكفاءة والجدوى والفعالية ومنها ما يلي :

ـ الإلمام بالقواعد الإجرائية وحسن استخدامها ومن هنا جاء وصف الدبلوماسية في هذا الإطار بأنها " برلمانية "

ـ التفتح على مختلف التوجهات والرؤى الحضارية بعيدا عن التعصب الإيديولوجي.

ـ إشراك مختلف أطياف وقوى المجتمع المدني في بلورة المواقف وتوزيع الأدوار وطنيا ودوليا،ويعتبر عقد الندوات وتنظيم الملتقيات وإجراء الأيام الدراسية هي فرص مثلى لترقية الثقافة البرلمانية من جهة وتطوير الحوار المستمر مع النخب السياسية والتفتح على قضايا المجتمع .

ـ الوعي العميق بطبيعة ومغزى وأهداف المواقف الوطنية الرسمية من القضايا الوطنية والدولية، وبتصورات المجتمع المدني بشأن المسائل المشتركة ذات العلاقة كدعامات وقائية وحيوية لتأسيس علاقات طيبة بين مختلف الأطراف وعلى مختلف الأصعدة.

ـ الاتصاف بالاحترافية وبالكفاءة العلمية والمهنية لدى المعنيين بالعمل الدبلوماسي البرلماني ومعرفة الأهداف المرسومة له .

ـ العمل المتواصل المنسق والمنسجم في مختلف المحافل لتوطيد جسور التعاون بين المجالس المماثلة إقليميا وقاريا وتلك المناظرة دوليا بشكل مستمر ومتجدد قوامه توازن المصالح والتعاون في كنف الاحترام المتبادل.

ـ جعل العمل الدبلوماسي البرلماني في خدمة ودعم فضائل الديمقراطية وتكريس مبادئ حقوق الإنسان وتعزيز الحريات الأساسية وحرية الرأي والتعبير كمقومات حضارية في المجتمعات المعاصرة.

ـ المساعدة على بلورة المواقف وتوحيد طرق العمل من حيث الأهداف ـ وليس بالضرورة من حيث الوسائل ـ في إطار من التكامل والانسجام مع الدبلوماسية الرسمية للدولة.

ـ الارتكاز على استغلال التوجهات والنوايا الحسنة الحقيقية لتقوية علاقات الصداقة والتعاون الثنائية والمتعددة الأطراف وتمتين وشائج التقارب والتفاهم بتقريب وجهات النظر المتباينة أو بتعزيز مصداقية الرؤى المتطابقة.

وعلى ما سبق يبدو أن الدبلوماسية البرلمانية تعنى أساسا بتأكيد ما يلي :

ـ الالتزام بالسلم والتنمية المستديمة .

ـ دعم المساعي الوطنية التي تقوم بها الحكومات.

ـ تقوية المسار الديمقراطي وتدعيم المؤسسات التمثيلية ( النيابية ) بحكم أهمية دورها في تعزيز حقوق الإنسان المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

ـ نشر المثل والأخلاق العليا في مجتمعاتها باعتبارها منابر تمثيلية للتعبير تتداول عليها كافة الحساسيات السياسية الأكثر تمثيلا في المجتمع وتغلب فيها المساواة دون تجاهل الاختلافات .

لقد أظهرت السوابق التاريخية محدودية العمل المتعدد الأطراف وعجز الدبلوماسية الرسمية في أحيان كثيرة على مواكبة تقلبات التوجهات السياسية الخارجية والتوافق مع متغيراتها لذا تجلت الحاجة إلى تحريك آليات "هادئة " متمثلة أساسا في البرلمانات التمثيلية والمجتمع المدني الفاعل وجمعيات الصداقة والأخوة بين البرلمانات في البلدان الشقيقة والصديقة كرافد من الروافد السياسية المساعدة على تقريب وتعزيز جسور بناء الثقة في العلاقات الدولية الثنائية أو المتعددة الأطراف .

 

 * مقومات الدبلوماسية البرلمانية وأهدافها:

طبيعي أن تكون لكل دولة غايات إستراتيجية ومصالح وطنية داخلية وخارجية ووسائل تسخرها لتحقيق أهدافها، وفي ذلك تعمل العديد من البلدان على حشد وتعبئة كل إمكانياتها المتوفرة ووسائلها الممكنة ومنها إقحام المؤسسات والتمثيلية في خدمة مسارها ومنها المجالس المنتخبة على اعتبار أن السياسة الخارجية هي مرآة للسياسية الداخلية، فتثمين دور المؤسسات البرلمانية في تحقيق هذه الغايات يجعلها تنشط أكثر على الصعيدين الداخلي والخارجي في إطار ممارستها لنشاطها الدبلوماسي خاصة في مسارات التعاون الدولي والشراكة تحقيقا للأمن والسلم والرفاهية وخدمة للمصالح العليا والقيم العالمية المشتركة .

 

 * مميزات الدبلوماسية البرلمانية

تتميز الدبلوماسية البرلمانية بعدة خصائص رئيسية وأهمها ما يلــي :

ـ التعدديـة، وهي تلك التي ترمز إلى عدد المشاركين في الدبلوماسية البرلمانية وتعدد وتداخل القضايا المدرجة في جدول الأعمال وبرنامج العمل، فعدد المشاركين يعني تعدد المصالح وتداخلها .. وتضاربها أحيانا .

ـ العلانيــة، وهي صفة متلازمة مع النشاط البرلماني الدبلوماسي إذ غالبا ما تسبقه أو تصاحبه بيانات إعلامية واسعة تتسم بقدر كبير من الإثارة التي قد يغلب عليها الطابع الإيديولوجي، والعلنية من أساليب التعاملات العصرية وترتبط بأهمية إعلام الرأي العام بضرورة تقبل الحلول التوافقية في تسوية القضايا الدولية ومع ذلك قد تتخذ الدبلوماسية البرلمانية أسلوبا آخرا يتمثل في الجمع بين المناقشات العامة العلنية والمفاوضات الخاصة الجانبية التي يطلق عليها اصطلاحا   " دبلوماسية الكواليس " أو " الدبلوماسية الهادئة " التي يجمع بينها التفاعل المستمر في أسلوب التفاوض .

وتتجلى الدبلوماسية البرلمانية أيضا وبصورة نشطة في اجتماعات المجموعات الجيو ـ سياسية بين أعضائها أولا ثم مع غيرها حيث يحتل التفاوض والتحاور والإقناع دورا معتبرا في النشاط البرلماني الدبلوماسي للوصول إلى التوافق، كما أن صياغة أي قرار أو توصية تتطلب إجراء مناقشات ومفاوضات بين أطراف عديدة معنية بموضوعها والدبلوماسية البرلمانية مجالا مناسبا لذلك وهو أسلوب لا يختلف في الواقع عن النشاط الدبلوماسي التقليدي من حيث الشكل والفنيات وتقنيات التفاوض إن لم يكن أكثر .

من أبرز الإشكاليات التي تعرض لها مفهوم الدبلوماسية البرلمانية أن هناك من يعتبر الدبلوماسية الرسمية هي الصوت الوحيد للتعبير عن آراء أي بلد على الساحة الدولية، بينما يؤكد رأي آخر عدم وجود تعارض بين الدبلوماسية الرسمية مع الدبلوماسية البرلمانية لأن الدبلوماسية البرلمانية رسمية أيضا إذ لا يمكنها أن تعبر عن مواقف غير معترف بها على الصعيد الدولي، وهناك آراء كثيرة تمنح الدبلوماسية البرلمانية أهمية خاصة على الصعيد الدولي بصفتها محركا ومكملا لإدارة الشؤون الدولية والعلاقات بين الدول وإكسابها شيئا من الخصوصية، وتؤكد مثل هذه الآراء أنه لا يمكن للدبلوماسية الرسمية والبرلمان التعارض في المواقف أو تجاهل الآراء أو التنافس في الأهداف والمصالح، فيما يرى آخرون أن البرلمانيين مهما عرف عنهم لباقتهم في تقديم الحجج والإقناع فهذا لا يسمح بإنزالهم منزلة السلك الدبلوماسي . ومن الإشكاليات الأخرى المعروفة في إطار نفس الموضوع أن النظام البرلماني في العديد من الدول قد تم وضعه على أساس الازدواجية، بمعنى وجود غرفتين برلمانيتين : غرفة أولى وهو مجلس شعبي ذات بعد وطني يتشكل من نواب كلهم منتخبون انتخابا سريا وحرا ومباشرا من قبل الشعب، وغرفة ثانية عليا يتشكل ثلثاها من أعضاء منتخبون على مستوى المجالس المحلية المنتخبة سابقا والثلث الباقي يتم تشكيله بالتعيين من قبل السلطة العليا في البلاد ممثلة في الحاكم وفي ظل هذه الازدواجية قد يحدث أن لا تتوافق الاتجاهات السياسية ومن ثمة تختلف المواقف المعبر عنها من بعض القضايا الدولية ويكون أثر ذلك واضحا في عدم إمكانية تسويق موقف سياسي محدد من مسألة دولية معينة على المستوى العالمي هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فهناك ما يعتبر عنصرا معمقا لفرضية عدم التوافق وهو أن النظم البرلمانية لا يمكن أن تدعي الديمقراطية ما لم تكن هناك أحزاب سياسية نشطة تشكل مشهد التعددية الحزبية، وهذا المشهد في حد ذاته يؤكد وجود تيارات سياسية مختلفة تتباين مرئياتها وتختلف منطلقاتها عن بعضها وينعكس ذلك على مواقفها من خلال النواب الذين ينتمون لهذه الأحزاب من القضايا الدولية التي ترتبط بها المصالح الحيوية للبلاد، فالقيود الحزبية المفترضة على النواب والمؤسسة على عقيدة الحزب ومذهبه السياسي هي ما ستضع الممارسة الفعلية للدبلوماسية البرلمانية في أكثر من موقف حرج بسبب عدم الانسجام والتوافق في الرأي هذا إن لم تتسبب مثل تلك الأوضاع في تعقيدات التمثيل التي قد تفضي إلى تعمد إقصاء الأعضاء غير المنسجمين والتضحية بهم في سبيل إنقاذ قضية من مخاطر التهميش أو تعرض مصلحة للضياع أو حق للفقدان، كذلك يسوق أنصار احتكار الدبلوماسية الرسمية للنشاط الخارجي إشكالية ثالثة تتمثل في عدم ضمان تواجد النواب في حالة نشاط رسمي طوال العام إذ من المعروف أن البرلمان يعقد دورتين برلمانيتين في العام والفترة الفاصلة بينهما لا شيء خلالها يجعل النواب في حالة استنفار وتصبح فرصة التقائهم مستبعدة وأما إمكانيات جمعهم فنادرة وقد يحدث أن يكون هذا سببا مباشرا في ضياع فرصا حقيقية ومؤكدة للاتصال والتواصل وبالتالي يضعف شيئا فشيئا بريق فكرة الاعتماد على تدخل الدبلوماسية البرلمانية خاصة وانه ليس لوزارة الخارجية أي وصاية أو سيطرة على نواب البرلمان، ولكن في المقابل هناك من يؤكد على أهمية ما أصبح يسمى" بالدبلوماسية الحزبية" سواء في شكلها الثنائي المباشر أو من خلال علاقات متعددة الأطراف في إطار برلماني من أجل لعب دورا أساسيا ومحوريا في دعم وتفعيل الدبلوماسية الوطنية حيث أن مجالاتها المتمثلة في تعزيز العلاقات الثنائية بين الحزب والأحزاب الصديقة تفتح الأبواب أمام تبادل الخبرات وزيارات الوفود للتواصل وللتعارف ومن ثمة للتعرف على وجهات النظر حول القضايا السياسية ذات الاهتمام المشترك بالإضافة إلى اشتراك الأحزاب في الفضاءات الإقليمية والدولية وإمكانيات إبرام مذكرات تعاون تتسع إلى عدة مجالات، هذا إلى جانب قدرة الأحزاب الكبيرة ذات الانتشار الواسع في تعبئة المواطنين داخليا وخارجيا حول البرامج الوطنية للتنمية واستغلال القدرات والكفاءات لصالح جهود الارتقاء الوطني .

ومهما اختلفت الآراء تبقى الدبلوماسية البرلمانية بصفة عامة أداة فعلية أثبتت الكثير من الأحداث والتجارب أنها قادرة على تعزيز وتدعيم نشاط الدول من اجل خدمة الشعوب في السلم والديمقراطية والأمن والتنمية ويمكن أن تكون جدارا أمام أصحاب النفوس الضعيفة التي تريد أن تجعل من العلاقة بين ما هو طبيعي وما هو مكتسب في ثقافة الشعوب مصدرا جديدا للصراعات، وتقتضي الضرورة والحال هكذا أن يقوم البرلمانيون بتفعيل دورهم أكثر في مكافحة الفقر والجهل والمرض وإعداد برامج المساعدة ومخططات التعاون والإغاثة مع المتابعة الدقيقة والمراقبة المستمرة عن قرب لمراحل تطبيق هذه البرامج وكلها في الحقيقية وسائل حقيقية وملموسة لدعم الديمقراطية والأمن الاجتماعي والتنمية بالعمل الحي والملموس، ويقول المؤرخ وعالم السياسة البريطاني " ســـيلي "   " أن التاريخ بدون علم السياسة كنبات بلا ثمر، وعلم السياسة بدون تاريخ كنبات بلا جذور " فالدبلوماسية البرلمانية فرع من فروع المعرفة لا غنى عن تعميق دراستها وتوسيع مجال ممارستها والإلمام الواعي بمقتضياتها والإدراك العميق لمغزاها والتحديد الواضح لأهدافها وهي كلها نوافذ جد واسعة على حقائق عوالم أوســع .

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2085 الأثنين 09 / 04 / 2012)

في المثقف اليوم