قضايا وآراء

تحليل ونقد الظاهرة الكردية في العراق (8-8) / ميثم الجنابي

كما تكشف عنه مجرى الأحداث السياسية وطبيعة مراوغتها بعد الثامن من نيسان عام 2003 وحتى اليوم، هو بقاء وترسخ وتعمق وتوسع معالم ما أسميته بالضعف البنيوي. بمعنى أننا نقف أمام نفس «السياسة» المميزة للحركات القومية الكردية في مراحل ضعف الدولة واضطرابها الداخلي. والمقصود بذلك «انتفاض» و«مشاكسة» القوى القومية الكردية مع كل انعطاف أو ضعف في الدولة العراقية. ذلك يعني أن الأكراد لم يندمجوا في بنية الدولة العراقية. وكمية الأمثلة لا تشكل نوعية في الحكم بقدر ما أنها تعبير عن نماذج متنوعة لعقدة تحولت إلى عقيدة في موقف الحركة القومية الكردية في العراق من العراق. وقد يكون الخبر الأخير الاجتماع الذي "عقدته حكومة إقليم كردستان الجديدة يوم الأحد (07. 04. 2012) وقررت بموجبه اعتبار يوم التاسع من نيسان عطلة رسمية في جميع المؤسسات والدوائر الحكومية في الإقليم" آخر الأمثلة وأكثرها نموذجية، كما لو أنها ترد على قرار الحكومة العراقية باعتبار هذا اليوم يوم عمل رسمي.

بعبارة أخرى، أن العراق يريد التحرر من آثار الغزو والاحتلال، والحركة القومية تريد أن تجعل من الاحتلال "عيدا قوميا جديدا للأكراد"! والسؤال الذي يبرز للوهلة الأولى هو كيف يمكن لقوة تدعي الرغبة بالحرية وتجعل من الاحتلال عيدا؟ وكيف يمكن تحويل الاحتلال إلى حرية؟ والاستعباد إلى عيد؟ ولماذا يجري ذلك؟ هل هو بسبب عمى الضمير؟ او غياب العقل؟ او نفسية المشاكسة؟ او حب الخروج على منطق الرؤية الوطنية العراقية؟ او العمل حسب قاعدة خالف تعرف؟ او إعلان البهجة الفرحة للخنوع والعبودية للأمريكيين الذين هم أنفسهم اعتبروا الغزو احتلالا؟ او لهذه جميعها؟ او لأشياء أخرى يصعب معها فهم هذه الذهنية؟ او أنها تعبير عن خصوصية الذهنية الكردية بالمعنى الذي يعرفها العراقي؟ وكيف بإمكانها التعامل على سبيل المثال مع اقتراح "قومي" عراقي يدعو إلى اعتبار "حرب الأنفال" "عيدا وطنيا" في محاربة "الخونة والعملاء" الذين مهدوا لدخول القوات الأجنبية (الإيرانية في الحالة المعنية) إلى العراق زمن الحرب؟ ومن الممكن الاستفاضة في فرضيات عديدة أكثر واقعية وعقلانية وإنسانية من إعلان يوم الاحتلال للعراق "عيدا كرديا"!

إلا أن كل هذا التسخيف غير المتناهي للعقل والضمير يعكس أساسا ما ادعوه بالخلل الجوهري في الحركة القومية الكردية (في العراق)، وكونها ليست عراقية. وهو خلل حصل على نموذجه الفاقع في سياسة المغامرة والمؤامرة والابتزاز، التي بلغت ذروتها في سيادة نفسية الغنيمة والاستيلاء على الأرض، بينما يفترض مضمون الحركة الاجتماعية الديمقراطية الارتقاء إلى مصاف تأسيس فكرة الشرعية والمواطنة. فهي الفكرة التي تضمن للجميع حقوقا متساوية، باعتبارها الغاية النهائية من كل نضال حقيقي وإنساني.

لكننا نقف أمام ظاهرة بقاء الحركة القومية الكردية في العراق ضمن شروط تكونها التاريخي الضيق، الذي يدفعها أكثر فأكثر صوب التجوهر العرقي. مما يشير بدوره إلى قضيتين،

  • الأولى هي سيادة البقايا العرقية،

وقد تكون الأساليب التي جرى تجريبها في كل السنوات العصيبة ما بعد سقوط الدكتاتورية وحتى اليوم دليلا على ذلك. فعوضا عن العمل بمعايير الدولة الشرعية الديمقراطية والمجتمع المدني، نرى «إنذار» المطالب «التي لا يمكن التنازل عنها» عن تقاسم الثروة والحصول إلى مدن عراقية وأراض وما شابه ذلك. بمعنى بروز المضمون الفعلي والدفين لنفسية الغنيمة. ويضع هذا الواقع أمام الحركة الاجتماعية والديمقراطية في العراق مهمة كبرى ألا وهي كيفية بلورة إجماع عراقي على إستراتيجية فصل العراق عن الأكراد.

فقد استطاع العراق التخلص بعد تجربة قرن من الزمن من ثقل ورذيلة الحركات القومية المتخلفة. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار مقدمات وإمكانيات الحركات القومية العربية التي تفوق مئات المرات مثيلاتها من الحركات القومية الكردية، فمن الممكن توقع مقدمات الخراب في إشراكها في العملية السياسية العراقية.

بعبارة أخرى، إن العراق بحاجة إلى نوع من التكامل السياسي المبني على أسس الرؤية الاجتماعية والحقوقية. بمعنى تخليصه النهائي من ثقل الأيديولوجية القومية الضيقة أيا كان شكلها وشخوصها. من هنا تصيح مهمة تحريره من ثقل القضية الكردية بمعناها السلبي، أي بمكونات واستمرار ضعفها البنيوي، مهمة وطنية كبرى. وهي مهمة تفترض إعادة النظر بالنفس. بمعنى الانطلاق من الفكرة القائلة، بان العراق هو كينونة رافيدينية عربية إسلامية، وبالتالي فهو كينونة ثقافية. أما الأكراد فأنهم أقلية دخيلة عليه. من هنا ضرورة إرجاعها إلى حدودها التاريخية. بمعنى ضرورة البحث عن فصل قومي من اجل ألا يتحول الصراع الآخذ في النمو، والذي جعلت منه الحركات القومية الكردية في غضون العقدين الأخيرين عنصرا جوهريا في تربيتها الذاتية، إلى صراع قومي مع العرب.

ومع انه صراع قائم لم يرتق بعد إلى حد المواجهة لكنه صراع فعلي يحتوي على اغلب عناصرها. فإذا كان الصراع السابق عادة ما يدور بين القوى القومية الكردية والسلطة المركزية، فانه يتراكم الآن بمعايير وعناصر الصراع القومي. وهو احتمال لم تتخلص منه اغلب القوميات في تاريخها المعاصر. ومن ثم يمكنه أن يجعل من الصراع القادم صراعا قوميا بين العرب والأكراد ما لم يجر حسم القضية بصورة واقعية وعقلانية.

إن بقاء الحركة القومية الكردية أسيرة تربيتها العرقية الضيقة، يجعلها بالضرورة أسيرة تصورات ومواقف لا تتسم بالواقعية والعقلانية. ولا يعني عدم قدرتها على الخروج من اسر النزعة العرقية، سوى أنها الحالة التي ينبغي أن يمر بها الأكراد من اجل أن تحترق بمعاركها لتدرك بعد عقود أو قرون من الزمن قيم الأوهام القومية! وهي حالة لا يمكن التدليل المنطقي عليها كما هو الحال بالنسبة للحب والكراهية، لأنها ملازمة لكل صعود قومي.

وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الأكراد هم الوحيدون في المنطقة الذين لم يرتقوا بعد إلى مصاف القومية سواء بالمعنى التاريخي أو الثقافي أو الدولتي، من هنا سريالية أوهام القومية التي لا يمكن مواجهتها بغير إعطاء الحرية لها لكي ترتطم بسواحل اليقين الذاتي! بعبارة أخرى إن الأكراد هم الوحيدون في المنطقة الذين لم يتذوقوا ملذات ومآسي القومية من اجل أن يعرفوا حقيقة الأبعاد الاجتماعية للدولة والأمة والثقافة. كما أنهم الوحيدون في المنطقة، الذين لم يتمتعوا بالفكرة القومية في وقت لم يعد للقومية مذاقها وفاعليتها التاريخية السابقة. من هنا ضعفهم التاريخي وبقاءهم المحكوم بالنفسية العرقية التي تكمن فيها أيضا مأساة الأكراد التاريخية. ولا يمكن الخروج من هذه المأساة عبر الدخول في العراق بل بالخروج منه! فهو القدر الذي طبع ويطبع زمن الأكراد المعاصر. ومهمة العراق تقوم أساسا في تحريره الذاتي من ثقل هذا المأزق.

إن تجربة العراق التاريخية والسياسية المعاصرة، وبالأخص في مجرى السنوات الأخيرة تبرهن على أن الحركة القومية لم تدرك بعد حقيقة الأبعاد الاجتماعية في فكرة الدولة ما لم تمر بطريق الآلام. مما جعل ويجعل منها في ظروفه الحالية والمستقبلية حركة خارج منطق التاريخ والقومية بالمعنى الدقيق للكلمة.

ويجعل هذا الواقع من «المشروع الكردي» العرقي مشروعا تخريبيا بالنسبة لبناء الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي الاجتماعي. وهي نتيجة مرتبطة بنفسية وفعالية «الأقوام الصغيرة» التي لم تندمج في كينونة الدولة وثقافة الأمة الكبرى، والتي عادة ما تكشف عن نفسها زمن الانقلابات الحادة وضعف المركزية.

فالشيء الوحيد الذي يمكن أن تفرزه الحركة القومية الكردية هو نفسية العرق، وذهنية الانفصال، وأيديولوجية الانعزال. وهي نفسية تخريبية بالمعنى السياسي والاجتماعي والقانوني، برزت وتعمقت وتوسعت بعد انهيار الدكتاتورية الصدامية. فمن الناحية المنطقية كان ذلك يفترض الاشتراك الاجتماعي الفعال من جانب الأكراد بمعايير الرؤية الوطنية، إلا أننا عوضا عن ذلك نرى استفحال نفسية الغنية والاستحواذ والتقوقع. بحيث تحول العراق بالنسبة لها إلى مجرد بقرة حلوب، لعل «مطالب» الحركات القومية الكردية بعد الانتخابات الأولى والثانية والاستفتاء على الدستور الدائم، وكثير غيرها يمكن إرجاعها إلى كمية معينة وهي «كركوك + مناطق جغرافية + مناصفة الخزينة + زائد تعويضات + ميليشيات مدفوعة الأجر + قرار انعزالي بكل ما يمس فكرة سيادة الدولة»!!! وهي مطالب أما سخيفة أو مجافية لأبسط مقومات الرؤية العقلانية والواقعية. بل أخذنا نسمع من بعض القيادات الكردية كلاما عن فضيلة ومنة بقاءهم في العراق على العراق!

إن المرء العاقل يصاب بالدهشة من هذه الوحدة البليدة للمطالب والامتنان! ولكن في حال وضع هذه الانطباعات على جانب، فأنها تعكس من حيث المظهر «موقع القوة» المزيفة، ونفسية الغنيمة المميزة لتقاليد الأغوات والإقطاعيات المتخلفة. أما من حيث باطنها فإنها تمثل المزاوجة الخفية لإستراتيجية «الأقوام الصغيرة». من هنا سبيكتها المخربة بالنسبة لإمكانية استتباب الوضع وآفاق تطوره الديمقراطي والحقوقي. ويمكن النظر إلى هذه الحقيقة في حال تتبع تاريخ السياسة التي سلكتها القوى القومية الكردية قبل وبعد سقوط الدكتاتورية الصدامية. فقد تحول «رجوع» الأكراد إلى العراق بعد «الانفصال» رجوعا إلى الوراء.

فعوضا عن الاندماج الفعلي في بنية الدولة الجديدة، نرى محاولات حثيثة لخرق مكوناتها الجديدة وبالتالي إضعافها من الداخل. بمعنى العمل على إضعاف أية إمكانية لإعادة بنائها والالتهام المفرط لمواردها. إن ذلك يعكس دون شك نفسية الغنيمة والأوهام «الكبرى» للحركة القومية الكردية. والقضية هنا ليست فقط في انه لم يكن هناك استقلالا فعليا عن العراق، بل ولخضوعه المباشر وغير المباشر للسلطة الصدامية والهيمنة الأمريكية. فقد كانت الباب مغلقة على العراق والنوافذ كلها مشرعة. كما أن حياة الأكراد الاقتصادية كانت ممولة من العراق والعراقيين بالعملة الصعبة والأوراق الصدامية!!

وقد حكمت هذه النفسية وما تزال تحكم السلوك السياسي للحركات القومية الكردية ونخبها السياسية تجاه العراق كما نراه في المواقف المتشنجة والخشنة منه كما لو انه بلد غريب. وهي حالة معبرة عن اغتراب الحركات القومية الكردية والأكراد عموما عن العراق. من هنا ليست أيديولوجية وسياسة القوى القومية الكردية ومواقفها العملية منه سوى مجموعة «مطالب» تخريبية من وجهة النظر الوطنية والديمقراطية والحقوق. أنها تسلك سلوكا ضيقا لا يعني استمراره بالنسبة للعراق سوى إعادة نفسية القومية العربية المتطرفة. وفي هذا تكمن خطورتها الفعلية. وذلك لما في سلوكها من اثر مباشر وغير مباشر على استثارة النزوع القومي العربي المتطرف. بينما المهمة التاريخية للقوى الاجتماعية والسياسة في العراق تقوم في تذليل هذا الرجوع.

فقد دفع العراق ثمنا باهظا للقومية المتخلفة، بينما تسعى الحركات القومية الكردية التي هي أكثر تخلفا بما لا يقاس من مثيلاتها العربية إلى جر العراق إلى مزبلة جديدة. من هنا تصبح الوقاية من هذا المرض الجديد قبل استفحاله مهمة وطنية كبرى. كما أنها تعطي للعراق إمكانية التطور الديناميكي الطبيعي بمعايير الرؤية الاجتماعية والسياسية والحقوقية. بمعنى نقل الصراع الحالي، الدامي والشديد أيضا إلى صراع اجتماعي سياسي. وهو المطلوب! فهو الصراع الوحيد القادر على صنع الحرية والنظام.

بعبارة أخرى، إن العراق ليس بحاجة إلى صراع قومي. لاسيما وان التربية القومية الكردية تجاه العرب تتصف بنزعة عنصرية متطرفة. والاحتكاك بها سوف يؤدي بالضرورة إلى استفحال الرؤية العرقية في الفكرة القومية العربية الآخذة في الاستعادة. وهو أمر يتنافى مع حقيقة مكوناتها. مما يطرح بدوره أمام الحركة الديمقراطية العراقية والقومية العربية فيما يتعلق بالأكراد مهمة وضع السؤال الواضح: ماذا يريد الأكراد؟ الاندماج على أساس المواطنة والديمقراطية والحقوق المدنية، أو الانفصال؟

فالمقصود الضروري من الفيدرالية هو النظام السياسي والاجتماعي العام وليس «مصالح الأكراد» في العراق. فالعراق ليس بحاجة إلى «فيدرالية كردية»، انه بحاجة إلى نظام ديمقراطي اجتماعي يقر بحقوق الجميع ومساواتهم المطلقة أمام القانون على أساس مبدأ المواطنة وحقوق الإنسان. أما الاعتبارات القومية والدينية والثقافية فهي مجرد جزء لا يتجزأ من حقوق المواطنة والإنسانية. من هنا ضرورة المبادرة العربية فيما يتعلق بالحل الواقعي والعقلاني والجذري للقضية الكردية في العراق من خلال بلورة ما يمكن دعوته بالمبادرة العربية لإستراتيجية الاندماج الوطني (السياسي الثقافي) أو الانفصال القومي. ذلك يعني أن العرب هم الذين ينبغي أن يقرروا نوعية وكيفية العيش مع الأكراد وليس بالعكس. مع ضرورة التوكيد المسبق على أنهم إلى جانب حق الأكراد بالانفصال عن العراق. وبهذا يقدمون الصيغة المثلى «لحق الأمم في تقرير مصيرها». وفي نفس الوقت يفترض ذلك تحديد ماهية حق تقرير المصير في العراق، أو مضمونه الواقعي.

فمن المعلوم، أن الشعارات الكبرى على قدر حجم التحولات الكبرى التي تحدث في التاريخ الخاص (للأمم) أو التاريخ العام (العالمي). ذلك يعني أنها محكومة أما بطبيعة الأيديولوجية السائدة أو بفاعلية الفكرة وشعارها المناسب بالنسبة للمصالح القومية أو الإستراتيجية للجهة التي ترفعه وتدافع عنه (دولة كانت أو حزبا). وينطبق هذا الحكم في الواقع على أي شعار مهما كان شكله ومحتواه.

فالشعارات السياسية هي على الدوام تعبير عن مصالح وأسلوب للحصول عليها. ولا يتعارض ذلك مع ارتقاء الوعي الإنساني في كيفية مواجهة المشاكل وحلولها. ومن بين هذه الشعارات الكبرى شعار «حق الأمم في تقرير مصيرها». وهو شعار كان احد البنود الكبرى لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية منذ بدايات القرن العشرين. غير أن تجارب القرن العشرين الأمريكية كانت في اغلبها فعلا مناقضا له. وهو تحول لا يعكس «الخبث» الأمريكي، بقدر ما انه يعبر عن «مكر التاريخ» المعاصر الذي جعل من الولايات المتحدة قطبا عالميا و«إمبراطورية ديمقراطية» تتنازعها أطراف المتضادات في كل شيء، بما في ذلك الموقف من قضايا الحرية والديمقراطية والحق. وهو تناقض مميز لحالة الخلاف أو عدم التطابق الفعلية بين الشعار السياسي والمصالح القومية، الذي يطبع سلوك الدول جميعا دون استثناء.

وإذا كان الأمر كذلك، فان ذلك يعني أن الشعار السياسي هو شعار مرحلي، أو انه في أفضل الأحوال جزء من ارتقاء الرؤية السياسية وجزء من إشكاليات الصراع الواقعية. فقد كان شعار «حق الأمم في تقرير مصيرها» هو الصيغة الأمريكية الجديدة للدخول إلى العالم بعد تقوقع طويل. كما انه الأسلوب الذي كان بإمكانه منافسة أوربا القديمة وإيقاف نزاعاتها وراء ظهر «المارد الأمريكي» الجديد. وتاريخ الاستبدال الأمريكي لمواقع الكولونياليات الأوربية القديمة في آسيا (فيتنام وكل دول الهند الصينية والفيليبين واندونيسيا وغيرها) وأمريكا الجنوبية (جمهوريات الموز) وأفريقيا والعالم العربي (الدعم غير المقيد لإسرائيل، وأخيرا احتلال العراق) هي مجرد حلقات في تحور الفهم الأمريكي «لحق الأمم في تقرير مصيرها» بوصفه جزء من تغير وتبدل الأولويات في «المصالح الحيوية» للولايات المتحدة، أي رؤيتها الإستراتيجية.

وبغض النظر عن كل خلفيات وبواعث شعار «حق الأمم في تقرير مصيرها»، فان تاريخه السياسي يبرهن على أن هذا الحق هو ليس هبة معطاة، بل هو اقرب ما يكون إلى الوجه الآخر لتضحيات الأمم أو النتيجة المترتبة عليها من اجل بلوغ ما ترتئيه حقها الأكبر ومصيرها الذاتي. وإلا فبأي معنى يمكن أن يكون المصير غير ما تصير إليه الأمم بإرادتها؟ وذلك لأن المضمون الفعلي لحق تقرير المصير يتطابق مع حقيقة ما تريده الأمم وما تسعى إليه بوصفه مصيرها. من هنا يمكن التعامل مع الفكرة على أنها شعار، غير أن مضمونها الواقعي عادة ما يتوقف على واقعية الرؤية وعقلانيتها في بلوغ هذه الغاية. وفي هذا يكمن البعد التاريخي في الشعار وتجسيده. أما البعد الآخر (المعنوي) فهو إشكالية اشد تعقيدا مما يبدو للوهلة الأولى. والقضية هنا ليست فقط في أن حقوق الأمم ليست هبة، بل ولأن اكتسابها الفعلي هو عين تحقيقها. وتحقيقها هو عين النضج الفعلي في مصير الأمم. وبهذا المعنى يصبح «حق تقرير المصير» هو حق الجميع في أن تقرر مصيرها كما تريد.

غير أن تجارب التاريخ بشكل عام والسياسية بشكل خاص تشير إلى أن إطلاق هذا الحق بالصيغة المذكورة أعلاه سوف يجعل من الحق هراوة أو أداة للاقتتال، ومن تقرير المصير أسلوبا محتملا للاستعباد والإذلال. كما نراه على سبيل المثال في تحول «التحرير الأمريكي» للعراق إلى «احتلال»، و«الديمقراطية» إلى سبيكة متخلفة من الطائفية والعرقية. طبعا أن هذه النتيجة لم تكن ثمرة ملازمة لما كانت الولايات المتحدة تنوي القيام به، بمعنى أن ما يجري في ظروف العراق الحالية هو الوجه الآخر والاستمرار «الطبيعي» للخراب العراقي نفسه، إلا أن ما يجري فيه الآن يكشف أيضا عن الحقيقة القائلة، بان حق تقرير المصير والتحرر والديمقراطية هي ليست هبة، بقدر ما أنها ترتبط بمستوى تطور الوعي الاجتماعي والوطني في كيفية مواجهة وحل الإشكاليات الكبرى.

والإشكاليات الكبرى التي يواجهها العراق حاليا تقوم في كيفية إعادة بناء نفسه بصورة حرة استنادا إلى قواعد الشرعية والديمقراطية الاجتماعية والفكرة المدنية. بعبارة أخرى، إن المضمون الواقعي لفكرة تقرير المصير تقوم في كيفية تصيره في دولة شرعية ديمقراطية مدنية. فهي الرؤية الواقعية والعقلانية لتقرير المصير الفعلي للجميع. في حين عادة ما يجري حصر فكرة حق تقرير المصير بفكرة «الاستقلال الكردي» عن العراق. ذلك يعني، إن فكرة حق تقرير المصير تصبح «حق» الاستقلال، و«حق» الأكراد فقط. ولا خلاف على هذا الحق من حيث المبدأ والصيغة المجردة. بمعنى أن للأكراد حق تقرير المصير بأنفسهم، بما في ذلك حقهم في الانفصال وبناء دولتهم المستقلة. ومن الناحية المبدئية، الإنسانية والحقوقية لا خلاف حول حق الأكراد التام والشامل بتقرير المصير، أي بالانفصال عن العراق وبناء الدولة القومية المستقلة، أو تحديد نوع العلاقة الممكنة مع العراق أو مع غيره من الدول.

وينبغي في نفس الوقت الاعتراف به للجميع دون استثناء، بما في ذلك للعراق. بمعنى حق التركمان والكلداآشوريين وغيرهم بوصفهم أقليات مكونة للعراق، شأنهم شأن الأكراد. فمن الناحية التاريخية والثقافية ليس «كردستان» العراق سوى أرض الآشوريين، كما أنها أرض التركمانيين بالمعنى التاريخي والسياسي والدولتي. بمعنى أن للآشوريين والتركمانيين أحقية تاريخية وثقافية وسياسية ودولتية في شمال العراق لا يمكن مقارنتها بحال الأكراد فيه. فالتركمان اعرق وأحق من الأكراد في شمال العراق بمعايير التاريخ والدولة والسياسة والثقافة والزمن. أما بالنسبة للآشوريين فإنهم سكانه الأصليين وواضعي أسسه العامة والخاصة وهويته التاريخية والثقافية بوصفهم قوما عراقيا. أما العرب فقد تماهت وتطابقت فيهم هوية العراق. فهم ذات العراق بالمعنى المتعارف عليه تاريخيا وثقافيا ودينيا وقوميا وإقليميا وعالميا، أي أنهم حقيقة العراقية والعراقيين. فالعرب عراقيون، كما أن العراقيين عرب على الأقل من ناحية التاريخ والثقافة. وظل كذلك حتى في أكثر مراحله انحطاطا، أي في أواخر المرحلة العثمانية. فقد ظل متشكلا من وحدة الموصل وبغداد والبصرة، أي كل وادي الرافدين أو «العراق العربي» بعد اجتزاء بعض مناطقه الأصلية وضمها إلى تركيا الحديثة وإيران. وجرى وضع هذه الحقيقة أيضا في «تقسيم» المنطقة وإخراج العراق بصيغته الحالية من أحشاء السلطنة المنحلة بعد اتفاقية سايكس بيكو. والاستثناء الوحيد والنسبي هو للسليمانية (مع أنها ارض عراقية جرى تحويلها من حامية عثمانية للصراع مع إيران إلى قرية ومدينة لاحقة جرى استقدام بعض الأكراد إليها وتراكم عددهم في وقت لاحق فيها). فقد كانت اربيل ودهوك آشورية تركمانية عراقية، وكركوك تركمانية آشورية عربية كردية عراقية.

مما سبق يتضح بان فكرة «حق تقرير المصير» من حيث كونها حق الانفصال، لا تتمتع في العراق بأرضية تاريخية ثقافية حقوقية. أنها اقرب ما تكون إلى مطلب سياسي إيديولوجي. وهو مطلب له تأسيسه الخاص في الرؤية الشيوعية ، مع أنها تسعى من حيث المبدأ والغاية إلى القضاء على فكرة الانفصال والتجزئة. إلا إننا يمكن فهم بواعثها في خصوصية القيصرية الروسية ومستوى تطور روسيا وطبيعة الاحتلال الروسي لأراضي القوميات والشعوب والأقوام الأخرى. أما في العراق (الشيوعية العراقية بوصفه حركة كردية وليست عربية او عراقية وطنية بالمعنى الدقيق للكلمة)، فانه لم يجر احتلال أية أراض كردية، أو أيما ارض أخرى. وذلك لان طبيعة الأرض في العراق ليست جغرافية، بل ثقافية. بمعنى إننا نعثر في «كردستان» العراق على العراق وتراكم مكوناته الآشورية والعربية والتركمانية والكردية، أي نعثر فيه على طبقات التراكم التاريخي الثقافي للأقوام والشعوب التي أسست العراق وساهمت في بناء هويته التاريخية الثقافية واستمرارها الحديث. ومن ثم لا يمكن لأية جهة أن تفصل منه جزء أو تستقل به بوصفها كيانا قائما بذاته، وذلك لان مكونات العراق، بما في ذلك الجغرافية هي طبقات متراكمة وليست حلقات منفصلة.

إن ربط فكرة حق تقرير المصير بالانفصال تعني حق التصفية العرقية. وذلك لان المقصود منه هو اقتطاع الأرض وليس الخروج البشري من العراق. بينما لا توجد ارض قومية (عرقية) فيه. أما الانتشار السكاني فانه لا يحتوي بحد ذاته على قيمة أو دليل على ملكية الأرض أو قوميتها. فهناك العشرات، بل المئات من الظواهر والحالات التي قطنت فيها شعوب مختلفة أراض غير أراضيها، بحيث تشكل فيها أحيانا النسبة المطلقة، دون أن يعني ذلك حق «اقتطاعها» أو مصادرتها القومية. وقد تكون دول آسيا الوسطى نموذجا كلاسيكيا بهذا الصدد. إذ لا تتعدى نسبة السكان الأصليين في هذه البلدان النصف أو الثلثين. بل أن نسبة الروس في بعض المناطق تبلغ 99% كما هو الحال في كل النصف الشمالي من كازاخستان! أو وجود وانتشار الملايين من بلدان المغرب العربي في فرنسا.

أن حق تقرير المصير في العراق هو:

 

  • إشكالية وليس حق من حيث مقدماته،
  • ومغامرة وليس رؤية واقعية وعقلانية من حيث نتائجه.
  • انه «حق» بمعايير الرؤية الأيديولوجية، وإشكالية بمعايير الرؤية التاريخية والثقافية، ومغامرة بمعايير الرؤية السياسية العقلانية.

 

وعدم إدراك هذه الخصوصية يؤدي بالضرورة إلى تحول فكرة الحق إلى إشكالية مغامرة، أي إلى احد أتعس السبائك وأكثرها تخريبا بالنسبة للمصير القومي. وذلك لما فيها من تأثير مباشر وغير مباشر على تخريب وتشويه الرؤية الواقعية والعقلانية. مع ما يترتب عليه من تدمير لإمكانية بناء الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي الاجتماعي والمدني، ومن ثم تهيئة الأرضية النفسية للصراع القومي والعرقي. وفي ظروف العراق والمنطقة سوف يدفع الجميع، كل على مقدار ما فيه من قوة وضعف ثمنه المناسب.

***

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2085 الأثنين 09 / 04 / 2012)

في المثقف اليوم