قضايا وآراء

فلسفة المطلق الإنساني عند الجيلي / ميثم الجنابي

عند الجيلي تقوم في تأسيسه لفكرة السمو الإنساني. فقد استطاع الجيلي تمثل وتحقيق الفكرة القائلة، بان بلوغ المطلق يفترض التحقق بالحقيقة في كل شيء. حينذاك يصبح فعل الإنسان فعل المطلق. وهو استنتاج يرتقي إلى مصاف الحقيقة المنطقية والأخلاقية المطلقة بالنسبة للوجود الإنساني الحق.

وقد وضع الجيلي هذا الاستنتاج في أساس رؤيته المنظومية، التي تنطلق من أن وحدة الذات والصفات والأفعال الإلهية، بوصفها الصيغة المثلى والواجبة لتكامل الذات الإنسانية في صفاتها بفعالها. ذلك بفعل ارتباطهما الأزلي والأبدي في العين (الأصل). من هنا فكرة الجيلي عن أن "المطلق هو الأمر الذي تستند إليه الأسماء والصفات في عينها لا في وجودها. فلكل اسم أو صفة استند إلى شيء، فذلك الشيء هو الذات سواء كان معدوما كالعنقاء أو موجودا". بعبارة أخرى، إن المطلق هو عين الأشياء الموجودة والمعدومة، ومن ثم فهو مصدر كل وجود وعدم. وبالتالي، فإن الوجود والعدم هما أسلوب وجود الحق والخلق، بوصفها الوحدة الدائمة لتجلي المطلق. وفيها تكمن منظومة العلاقة الأبدية والأزلية بين الله والإنسان، أي بين القديم والمحدث، والأصل والصورة، والدائم والعابر، والحقيقي والتاريخي، والأصالة والإبداع وغيرها، باعتبارها وحدة عضوية وضرورية لتجلي الكمال ونموذجه المتسامي. ومن هنا فكرة الجيلي عن أن للمطلق وجود محض هو الله، ووجود بالعدم هو الخلق. وذات الله "عبارة عن نفسه، واستحق وجوده كل اسم دل على مفهوم يقتضيه الكمال". وبما أن من جملة الكمالات عدم الانتهاء ونفي الإدراك، أي عدم تناهي الكمال والحيرة الدائمة فيه، من هنا مخاطبة الجيلي لله:"أما بعد، فإنك أيها الطلسم الذي لا ذات ولا اسم، ولا ظل ولا رسم، ولا روح ولا جسم، ولا وصف ولا نعت ولا رسم! لك الوجود والعدم، ولك الحدوث والقدم. معدوم لذاتك موجود في النفس، معلوم بنعمتك مفقود بالجنس كأنك ما خلقت إلا معيارا، وكأنك لم تكن إلا إخبارا. برهن عن ذاتك بصريح لغاتك. فقد وجدتك حيا عالما مريدا قادرا متكلما سميعا بصيرا. حويت الجمال والجلال واستوعبت بنفسك أنواع الكمال".

ذلك يعني أن الطلسم أو السر الخالد للوجود هو مصدر الكمال من حيث كونه وحدة للأضداد الأبدية والأزلية وديمومتها في الاستعداد لأنواع الكمال. من هنا فكرة الجيلي عن أن اسم الله هو هيولي الكمالات كلها، أي مادة الكمالات جميعا. لهذا ليس لكمال الله من نهاية، لأن كل كمال يظهره الحق من نفسه، فإن له في غيبه من الكمالات ما هو أعظم من ذلك. وهي فكرة مبنية على تلازم عدم تناهي الكمال فيه ونفي إدراكه التام. وذلك لأن عدم الانتهاء وعدم الإدراك التام هما أسلوب وجود الأشياء والله على السواء. لهذا قال الجيلي، بأن كمال الله عبارة عن ماهيته، وماهيته غير قابلة للإدراك والغاية. وبالتالي "ليس لكماله غاية ولا نهاية".

إن ربط الكمال بالغيب يعني الإقرار بالتنوع غير المتناهي للكمال. إذ ليس المقصود بالغيب سوى البطون غير المتناهي للمطلق. وهو بطون لا يتناهى في تجلياته، وذلك لانحصاره بين الأزل والأبد. وهي عبارة معقولة ضمن حدود المطلق، مجهولة من حيث مضمونها العقلي. إذ ليس الوجود في تجلياته المتنوعة سوى الرحمة بعينها، لأن الوجود بحد ذاته نعمة والله مصدرها. من هنا فكرة الجيلي عن أن الأسماء الإلهية التي تندرج تحت اسم "الله" في مجموعها، وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام، تعادل كلمة الرحمن. من هنا أيضا فكرته عن أن الرحمانية اعزّ من الإلوهية. فإذا كانت الإلوهية بالنسبة للجيلي هي "جميع حقائق الوجود وحفظها"، وإن حقائق الوجود هي "أحكام الظاهر مع الظاهر فيها، أي الحق والخلق"، فإن الرحمانية هي نسغ جميع حقائق الوجود وحفظها.

ووضع الجيلي هذه الفكرة في عبارته القائلة، بأن "نسبة المرتبة الرحمانية إلى الإلوهية نسبة سكر النبات إلى القصب". وإذا كان العالم هو أول رحمة إلهية انطلاقا من أن "الله خلق العالم من نفسه"، من هنا "ظهور كماله في كل جزء فرد من أفراد أجزاء هذا العالم". ذلك يعني أن "كل موجود يوجد فيه ذات الله". وبالتالي، فإن الإنسان يحتوي على حقائق الوجود جميعا ويحفظها لما فيه من ذات الحق، وهو الوجود أو السريان الذي يجعل الإنسان محتويا على صفات الربوبية أيضا.

وإذا كانت الربوبية في منظومة الجيلي تعني اسم للمرتبة المقتضية للأنا التي تطلبها الموجودات، لهذا دخل تحتها الاسم العليم والسميع والبصير والقيوم والمريد والملك وما شابه ذلك. بعبارة أخرى، إن الأسماء التي تقع تحت اسم الرب هي "الأسماء المشتركة بين الله والإنسان". وحاول الجيلي من خلال هذه الحصيلة التأسيس لما أسماه "بصفات الحق صفات الإنسان، وذات الحق ذات الإنسان". وهو اشتراك ذاتي وجودي يرمي إلى تذليل الهوة الممكنة بين الإنسان والمطلق في حال وضع أحدهما بالضد من الآخر. ولا يعني ذلك بالنسبة لتكامل الذات الإنسانية في صفاتها سوى محاولة تذليل العدم والجزئي والعابر في الوجود الإنساني وغايته، من خلال إدراك وتحقيق قيمة الوحدة في الوجود ورفعها إلى مستوى الواجب.

وجعل الجيلي من تجليات ذات الله وأفعاله وأسماءه وصفاته نموذجا لبلوغ الإنسان وحدته المتكاملة في تجلياتها المتنوعة. من هنا فكرته عن أن تنزيه الذات الإلهية يعني إنفراد القديم بأوصافه وأسمائه وذاته كما تستحقه من نفسه لنفسه بطريق الأصالة والتعالي. بمعنى فردانيته واستقلاله التام بنفسه لنفسه كما هو. وهي صيغة مجردة عن المطلق. لهذا وضعها الجيلي في تحديده لفكرة الذات بوصفها عبارة عن "الوجد المطلق". والمقصود بذلك سقوط الاعتبارات والإضافات والنسب والأوجه الحسية والعقلية لا على "أنها خارجة عن الوجود المطلق، بل على أن جميع تلك الاعتبارات وما إليها من جملة الوجود المطلق". فهي "في الوجود المطلق لا بنفسها ولا باعتبارها، بل هي عين ما هو عليه الوجود المطلق". ووضع هذه الفكرة بصورة شعرية تقول:

كالشمس تبدو فيخفي وصف أنجمها     نفي، ولكن لها في الحكم إثبات

 

وشأن كل صفة مجردة للمطلق لها نموذجها التاريخي الملموس، أي تنوع وجودها ووحدتها. من هنا قول الجيلي، بأن مقصد كلامه عن أن التنزيه للحق وليس للمخلوق فيه نصيب، هو انه "ليس للوجه المسمى بذلك الاسم من الذات لا أنه ليس للذات". ذلك يعني أن التنزيه هنا أو التعالي المطلق هو الصيغة المجردة لهذا الاسم أو ذاك من الذات وليس للذات كما هي. وذلك لأن وجود الذات وفعلها وصفاتها يفترض تجليها الملموس. فهو أسلوب "تكاملها" بوصفه أسلوب تجليها الذاتي. ووضع الجيلي هذه الفكرة في عبارته القائلة، بأن "الذات جامعة لوجهي الحق والخلق. فللحق منه ما يستحقه الحق، وللخلق منها ما يستحقه الخلق، على بقاء كل وجه في مرتبته بما تقتضيه ذاته من غير ما امتزاج. فإذا ظهر أحد الوجهين في الوجه الآخر كان كل من الحكمين موجودا في الآخر".

بعبارة أخرى، إن تجريد الله من الأوصاف وجعله متساميا بذاته لا يتعارض مع حقيقة احتوائه على وجهي الحق (الوصف الأبدي للمطلق) والخلق (النعت التاريخي للموجودات). والإنسان من الموجودات، فهو التجلي التاريخي للحق بالمعنى المجرد، كما يعكس في نماذجه الملموسة إمكانية ومستوى مقابلته للحق. من هنا لا يعني استحقاق كل منهما لما فيه، وإمكانية ظهور أحدهما في الآخر، سوى النسبة المحسوسة والمعقولة لإمكانية وجود أحدهما في الآخر.

فكما أن الوجود هو نسبة محسوسة ومعقولة للحق، فإن الحق في المخلوقات (الإنسان) هو أيضا نسبة، تجعل من وجود أحدهما في الآخر حكما لوجودهما، انطلاقا من أن لكل منهما ما يستحقه في الوجود من الذات. ولا يعني ذلك في منظومة الجيلي سوى جوهرية النسبة في الوجود التي تجعل من كل شيء حقا بالقدر الذي تتناسب أوزانه الداخلية مع معنى وجوده وصور تجليه. من هنا فكرة الجيلي عن ماهية "التشبيه الإلهي". حيث وجد فيه مجرد عبارة عن "صورة الجمال، لأن الجمال الإلهي له معان وهي الأسماء والأوصاف الإلهية، وله صور وهي تجليات تلك المعاني فيما يقع عليه من المحسوس والمعقول". ذلك يعني أن النسبة المحسوسة والمعقولة للمطلق تظهر بصورة الجميل. وهي صورة مدركة بالحس ومفهومة بالعقل. فهما يدركان صور تجليات المعنى القائم في الأسماء والأفعال والصفات الإلهية، بوصفها علاقة جوهرية بالنسبة لإحساس الإنسان وعقله في إدراك معنى حقائق الوجود المطلق.

ففي مستوى تجلي الأفعال ينبغي أن يصل الإنسان إلى إدراك أن معنى تجلي الحق في الأفعال يقوم في رؤية جريان القدرة (الإلهية) في الأشياء فيرى الحق فيها. بمعنى رؤية المبدأ الواحد في الوجود، وبالتالي وحدته. وهو حال علمي وعملي (معرفي وأخلاقي) وضعه الجيلي في فكرته عن الواحدية، عندما اعتبرها "مجلى ظهور الذات فيها صفة والصفة فيها ذات. فبهذا الاعتبار ظهر كل من الأوصاف في عين الآخر. فالمنتقم فيها عين الله، والله عين المنتقم، والمنتقم عين المنعم. وكذلك إذا ظهرت الواحدية في النعمة نفسها والنقمة عينها، كانت النعمة التي هي عبارة عن الرحمة عين النقمة التي هي عبارة عن عين العذاب كل هذا باعتبار ظهور الذات في الصفات، وفي آثارها، وفي كل شيء مما ظهر فيه الذات بحكم الواحدية هو عين الآخر، ولكن باعتبار التجلي الواحدي لا باعتبار إعطاء كل ذي حق حقه، وذلك هو التجلي الذاتي".

وفي مستوى تجلي الأسماء ينبغي أن يصل الإنسان إلى الاصطلام تحت أنوارها. بمعنى التدرج في نظام السموّ الروحي والمعرفي، بحيث تصبح الأسماء الإلهية أصداء الروح الفعال في الوجود، أو يصبح الروح الفعال صداها الإنساني، أي التجلي الملموس والدائم لما دعاه الجيلي بظهور أحد الوجهين في الوجه الآخر بحيث يصبح كل من الحكمين موجودا في الآخر. وهي عملية تبدأ، شأن كل وجود، بالموجود وتنتهي بالمطلق مرورا بتكامل الإنسان في ذات فردانية. من هنا قول الجيلي، بأن إدراك مشهد من تجليات الأسماء أن يتجلى الله للإنسان في أسمه الموجود فيطلق هذا الاسم على الإنسان، وأعلى منه تجليه له في الاسم الواحد، وأعلى منه تجليه له في اسمه الله.

يعكس هذا التدرج الصيغة الظاهرية للبداية والوسط والنهاية، أي للدورة الدائمة التي تتمثل منطق الأسماء الإلهية وحركة الإنسان من الملك (الطبيعة) إلى الملكوت (ما وراء الطبيعة) بالجبروت (الإرادة الإنسانية)، ومن الشريعة إلى الحقيقة بالطريقة. فهي الحركة التي تتمثل عوالم الطبيعة وما وراء الطبيعة في الإرادة المتسامية، كما أنها الحركة التي تتمثل قطع الأشواط الضرورية من شريعة الأمة إلى بلوغ الحقيقة المطلقة بطريق الاصطلام تحت أنوار الأسماء الإلهية، أي كل ما ينبغي أن يؤدي إلى أن يكون الإنسان كوكبا جامعا لحقائق الوجود.

إن تحول الإنسان إلى كون جامع لحقائق الوجود يفترض جمع صفات الله فيه وإعادة بناء ذاته على نموذج جمعها. فالصفات لا تتناهى في تفصيلها، متناهية في إجمالها. وليس التناهي في الإجمال هنا سوى الصيغة المتعالية والنموذجية التي بلورتها الرؤية الإسلامية في مختلف مدارسها عن صفات الله، التي جمعت أبعاد الملك والملكوت والجبروت، أي الأبعاد الطبيعية والماوراطبيعية والإرادية في صيرورة الإنسان ومساعيه العلمية والعملية. إذ نعثر في الحياة والسمع والبصر على المكونات الطبيعية الجوهرية، وفي الإرادة والقدرة على جبروت الإنسان، وفي العلم على الأبعاد غير المتناهية (الماوراطبيعية) لوجوده. وحالما تحولت هذه الصفات إلى صفات المطلق، فإنها اكتست هيئة النموذج المتعالي والواقعي. وهو السبب الذي جعلها معلومة مجهولة، متناهية غير متناهية في منظومة الجيلي. فالصفات من حيث الإطلاق معلومة، بينما الذات أمر مجهول. فالإنسان على بينة من ذات الله، لكنه على غير بينة من الصفات. وبالتالي لا سبيل إلى إدراك غاية الصفة، كما يستنتج الجيلي. وهي علاقة تعكس النسبة المتبادلة بين العلم والعمل، مما يجعل منها آلية العمل الدائم والعلم الدائم. وكتب بهذا الصدد يقول، بأنه "إذا تجلت ذات الحق على الإنسان بصفة من صفاتها سبح الإنسان من فلك تلك الصفة إلى أن يبلغ حدها بطريق الإجمال لا بطريق التفصيل". فإذا سبح الإنسان "في فلك صفة واستكملها بحكم الإجمال استوى على عرش تلك الصفة فكان موصوفا بها. فحينئذ تتلقاه صفة أخرى. فلا يزال كذلك إلى أن يستكمل الصفات جميعا".

ولا يعني استكمال الصفات جميعا في الإجمال سوى المقدمة الضرورية للسير في طريق المطلق، أي السير صوب الذات المعلومة بوصفها الغاية النهائية، بينما السير صوبها لا متناه. وهي جدلية تجعل من وحدة العلم والعمل أسلوب التكامل غير المتناهي بينهما. لكنه تكامل متنوع فيما اسماه الجيلي بتجليات الصفات، التي هي عبارة عن قبول ذات الإنسان الاتصاف بصفات الحق قبولا حكميا قطعيا كما يقبل الموصوف الاتصاف بالصفة. من هنا تنوع تجليات الصفات على قدر قابلية أو استعداد المرء للاتصاف بها بحسب تلازم ومستوى وحدة العلم والعمل، أو وحدة "وضوح العلم وقوة العزم" كما يقول الجيلي.

***

The article is supported by the Russian State Fund No. 10-03-00411-?.

 

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2087 الاربعاء 11 / 04 / 2012)

في المثقف اليوم