قضايا وآراء

البحث عن الروح الإنساني في الثقافة الإسلامية / ميثم الجنابي

والميتافيزيقيا الدينية والقيم الأخلاقية إلى أن تحولت الثنائيات المرجعية الإسلامية إلى عناصر جوهرية مبدعة للروح الثقافي. غير أنه ليس كل مرجعية أو نظام للمرجعيات قادر على إبداع روح ثقافي خالص. وذلك لان جوهر الروح الثقافي الخالص يقوم في قدرته على تجاوز العرقية ومتحجرات الأشباح الإنسانية (من دم ولون وارض) إلى ميدان العقائد المتسامية.

فقد تبلورت الثنائيات المرجعية الإسلامية تاريخيا، كأجزاء مكونة لنظام توحيدي. وصنع هذا النظام واحدية ثقافية أبدعت اعتدالا في العقائد والأفعال، والرؤية والمواقف من خلال نظام المرجعيات نفسه. وأدى ذلك بدوره إلى تنشيط التنوع ضمن الوحدة. وصب هذا التنوع بفعل الثنائيات المرجعية المتكافئة من حيث أوزانها الداخلية، في اتجاه تأسيس معقولية البحث عن نسب فضلى، وبالتالي عن نظام امثل.

إن بلوغ الثقافة إدراك جوهرية النسب المعقولة للنظام الأمثل يؤدي إلى تسامي إدراكها وتنوع إبداعها في توحيد الوسيلة والغاية، والعلم والعمل تجاه النفس والآخرين. وتجلى ذلك في وحدة الإبداعات المتنوعة للحضارة الإسلامية. فالإبداع الأصيل يجري ضمن معايير الثقافة الخاصة.

فقد جرت صيرورة الوحدة المتنوعة في إبداعات المسلمين من خلال الفعل المباشر وغير المباشر للمرجعيات الكبرى في الثقافة نفسها. وجعل ذلك من الممكن تنوع مدارس الكلام وإجماعها في الدفاع عن عقائد الإسلام الكبرى، كما جعل من الممكن أيضا تنوع إبداع المتكلمين فيه. فالذي يجمع الجاحظ والباقلاني وابن حزم وابن الجوزي على سبيل المثال هو أن كلا منهم ممثل نموذجي لمدرسته الكلامية. فالجاحظ معتزلي المشرب والمنزع. ولا يتعارض تمثيله لمبادئ المعتزلة مع تميزه الشديد أحيانا عن شخصيات الاعتزال وفرقه الكبرى. وينطبق هذا أيضا على خصوصية ابن حزم في الظاهرية والباقلاني في الاشعرية وابن الجوزي في الحنبلية. وهو تنوع يكشف في نفس الوقت عن نموذجيته في إبداع كل منهم لحاله. فالجاحظ هو ليس فقط ممثل الفردانية المبدعة ضمن الاعتزال فحسب، بل وممثل المعرفة الموسوعية الإسلامية. لقد أسس في كتاباته للبيان العربي وطابق بينه وبين خصوصية العرب وإسهامهم في الحضارة الإنسانية، كما لو انه أراد دمج روح الإسلام الثقافي في القومية. وظل مع ذلك متعاليا عن الانتماء لأي كيان غير الحقيقة. وجعله ذلك يكتب (فضل الموالي على العرب)، أن يذب في نفس الوقت عن العرب ضد الشعوبية. وصّنف أيضا كتبا في الدفاع عن الترك (مناقب الترك) والزنوج (فضل السودان على البيضان) وغيرها من المؤلفات التي يكشف فيها عن أن لكل قوم فضائلا وحسنات خاصة بهم. ومن ثم لا فضل لجنس على آخر. ووضع أيضا كتبا عن ذوي العاهات من العرجان والعميان والحولان والبرصان. لكي يبرهن على أن العاهة ليست عائقا أمام الإرادة الحرة. لان الإنسان في نهاية المطاف هو إرادة، وما عداها طباع. ووضع هذه الفكرة في قوله "ليس يقع من الإنسان فعل باختيار سوى الإرادة". وانه "لا فعل للإنسان إلا الإرادة". وكتب رسائل عديدة عن "اللصوص" و"غش الصناعات" و"القواني" و"اللوطية" و"المعلمين" وعشرات غيرها يكشف فيها عن طبائع الناس، باحثا عن صراع الطبيعي والماوراطبيعي في الإنسان، متجاوزا العلاقة الزائفة والتصورات الوهمية. فهو لا يكشف في "اللصوص" عن ميولهم التخريبية وعما في "غش الصناعات" من إفساد للمهن، بل وعما فيها أيضا من "فنون" متراكمة في تطور الرذيلة. وينطبق هذا أيضا على ما في كتاباته عن القواني واللوطية، التي دافع فيها عن الحرية الجنسية وفضيلتها بالنسبة لرقي الأمم، بوصفها ميدانا يكشف عن فضيلة الجسد. في حين جمع حكمة الأمم في (طبائع الحيوان). أما الباقلاني فقد مّثل نفس اتجاه الجاحظ، ولكن ضمن تقاليد الاشعرية، وذلك عبر تعميق روح الجدل والاحتجاج والدفاع عن العقيدة الدينية. ووضع لهذه الغاية كتاب (أدب الجدل)، الذي جسده في (التمهيد) و(الإبانة) و(كشف الأسرار في الرد على الباطنية). وجعل من مؤلفاته هذه نماذج في كيفية الرد العقلي الفلسفي على المعارضين. ونعثر على نفس الاتجاه في شحنه كتبه الكلامية اللاهوتية، كما هو الحال في كتابه (في المعجزات) و(الانتصار في القرآن). وتناول أيضا قضايا السلطة والدولة كما في كتبه (الإمامة الكبيرة) و(الإمامة الصغيرة) و(الأمير). وكتب أيضا عن قضايا الفقه والأصول والديانات والعقائد والإعجاز البياني في القران وغيرها. ومارس السياسة دون الوقوع في مخالب الانتقام والرشوة. بينما مّثل ابن حزم نموذج الاتجاه الظاهري على أكمل وجه، سواء فيما يتعلق بالموقف من المدارس والفرق الفلسفية والدينية والأديان، أو فيما يتعلق بجدله اللاهوتي والفلسفي، كما هو جلي في (الفصل بين الأهواء والملل والنحل). بمعنى سعيه للفصل بينها بما يستجيب لتصوراته عن الحق والحقيقة. من هنا حدة وصرامة التحليل والانتقاد والتقييم المميزة لكتاباته وجسّد ذلك أيضا في أحد أعظم أعماله الفقهية (المحلى)، وفي سلوكه الشخصي، الذي كلفه التنازل عن الوزارة في الأندلس. ومع ذلك نراه يكتب (طوق الحمامة) بما فيه من رقه وشفافية وحب وغرام. وهي ظاهرة نعثر عليها في إبداع ابن الجوزي الحنبلي. فالتقاليد الحنبلية االقاسية عادة ما تلجم حتى القلم على خط حروف التسامح والتساهل مع النفس والغير. ومع ذلك نعثر فيها على تنوع ضمن وحدتها. فنراه يكتب كتابا تاريخيا كبيرا مثل (المنتظم) الذي استعرض فيه تاريخ الإسلام وشخصياته. ووضع شأن الحنابلة اغلب كتبه ورسائله عن القرآن والسنة والحديث. ولكنه كتب أيضا أحد أفضل الكتب الساخرة، التي جمع فيها (نوادر الحمقى والمغفلين)، باعتبارها ضرورية للروح والجسد، انطلاقا من أن كتب الشجاعة تعلم الشجاعة، ومن يرى آثار الحمقى والمغفلين يعرف قدر العقل وأدب التيقظ وإراحة القلب بالمزحة. حيث اعتبر المزاح صفة مميزة للأشراف وذوي العقول.

كل ذلك يكشف عن أن الوحدة الخفية القائمة وراء تنوع الإبداع الإسلامي تنبع من نظام النسب المعتدلة. فقد تمثلت الثقافة في حركتها عناصر التهور والانضباط، والحرية والصرامة، والبدعة والسلفية، والتجديد والتقليد، باعتبارها نسبا طبيعية وضرورية للإبداع. وهي نسب نعثر عليها في جميع نماذج الإبداع الرفيعة بما في ذلك في الشعر والحكاية والموسيقى والخط والعمارة.

ففي الشعر نعثر على نماذج الدنيوية واللهو كما هو الحال عند أبي نؤاس وأمثاله، ونماذج الورع والزهد كما هو الحال عند أبي العتاهية، ونماذج الفروسية والبطولة كما هو الحال عند أبي فراس الحمداني والمتنبي، ونموذج الحكمة كما عند المعري، أو على وحدة هذه النماذج كما عند الخيام.

ونعثر في الحكاية على وحدة التجليات المتناقضة للحياة بأبعادها الثقافية كما هو الحل في (ألف ليلة وليلة). فالألف هو ليس عددا فقط، بل وحرف الهجاء الأول. والليلة الأخيرة ليست الأخيرة فقط بل والأولى بعد الألف، كما لو أنها الصدى غير المتناهي في الروح والزمن. وهي وحدة صورها أبو العلاء المعري في (رسالة الغفران). وليس المقصود بالغفران هنا سوى الغفران الثقافي، الذي ينظر إلى التاريخ الواقعي والمثالي بعيون الروح المبدع. إذ يستعيد في رؤيته النقدية عن الإبداع الثقافي الإسلامي تاريخ الروح المجرد والمتسامي في إخلاصه للانا المتحررة من قيود المصالح العابرة وأباطيلها المتنوعة. إذ ليس مسار بطلها في جنات عدن سوى الصدى غير المتناهي للسماع والزمن الإسلاميين في تأملهما للقيم والمعاني الحقيقية كما هي. فالسماع والزمن هما شيئان لا كالأشياء مثل النغم والحقيقة. ففيهما تضمحل النسب، لأنهما أدق وأتمّ تجل للنسب نفسها، والذي نعثر على نموذجه الرفيع في تقاليد الحياة واليقظة، كما في قصص (حي بن يقظان) لابن سينا والسهر وردي المقتول وابن طفيل. فإذا كانت الصيغة الطبيعية لعلاقة اليقظة بالحياة تفترض أن تكون الحياة أبا أو أما لليقظة، فان استمرارها الماوراطبيعي هي الصيغة المتسامية لجوهرية اليقظة في الحياة وجوهرية السماع في الزمن. فالسماع في الزمن هو كالصوت في الوتر. فالوتر هو مادة (طبيعة) والصوت استمرارها المتسامي (الماوراطبيعي). والحياة طبيعية، واليقظة استمرارها المتسامي (الماوراطبيعي). ومن هنا توصل الصوفية إلى الحكمة القائلة، بان "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا". ذلك يعني أن إدراك القيمة المتسامية للحياة مرتبط بإمكانية وقدر اليقظة، باعتبارها إدراكا للعابر فيها. فالموت يكشف عن أن الحياة الطبيعية شيئ عابر كما لو أنها لا شئ. ويمتلك هذا اللاشئ معناه المتسامي حالما يتحول إلى جوهر اليقظة. ففي اليقظة يضمحل الشيء واللاشئ، بوصفهما نسبا متعارضة. لذا ربطت التقاليد الكلامية والفلسفية والصوفية مفهوم الوحي باليقظة، والإلهام بالحلم والمنام. وهي تقاليد كشفت عن أن المعنى التام هو ذاك الذي يضمحل فيه الواقع والخيال، والانا والهو، أما في إيمان مخلص أو عقل خالص أو ذوق تام باعتبارها تجليات للدين(النبوة) والعقل(الفلسفة) والحدس(التصوف). وحصلت هذه التجليات على نموذجها الأمثل في المراحل التي تتبعها ابن طفيل من حياة اليقظة الوجودية والمعرفية لابن يقظان بوصفها اكتشافا "خالدا" للنسبة المتجانسة بين الطبيعي والماوراطبيعي في الإنسان.

ونعثر في فن الرسم أيضا على نوازع البحث عن نسب الطبيعي والماوراطبيعي عبر مجانستها في النقطة والخط، والحرف والصورة. فالنقطة والخط هما كالبداية والنهاية، والمتناهي وغير المتناهي. من هنا سيادة التجريد المتسامي في الرسم الإسلامي. وليس مصادفة أن يصل الفكر الإسلامي إلى تصور الله باعتباره جلاء في خفاء وخفاء في جلاء، وظاهرا في باطن وباطنا في ظاهر. أي التجلي التام للنسبة التامة والوحدة التامة  للمتضادات. بمعنى اضمحلال النسبة نفسها والمتضادات في الوحدة. فالخط هو الحركة الدائمة لير المتناهي. وكل نقطة في الزخرفة الإسلامية هي بداية الحركة ونهايتها، ومبتدأ الصورة ونهايتها. فقد مّثل الخط الإسلامي الاتجاه المتسامي لعلاقة الروح بالمادة بحيث استطاع تجسيد الله في حروف تتوحد وتتكامل بهيئة طائر أو شجرة أو حركة هائجة تتلذذ بها العين ويتيه فيها النظر. إذ لا حد متناه في هذه الخطوط (الحروف) سوى الهوية المحيرة للجلاء والخفاء.

وشكلت العمارة الإسلامية في بيوتها ومساجدها وأزقتها وساحاتها تمثيلا متجانسا لوحدة الظاهر والباطن، بوصفها تجليا للنسبة بين المادي والروحي، المتناهي وغير المتناهي، الطبيعي والماوراطبيعي.

كل ذلك يكشف عن أن سريان المرجعيات في الكينونة الإسلامية أدى إلى تكاملها في وحدة ثقافية متنوعة الاجتهادات. وكشف نظام وجودها الظاهري والباطني عن كينونة النسب المتوافقة فيه من مرجعيات كبرى. وأدى ذلك إلى ما يمكن دعوته بصيرورة روحها الثقافي المبدع، الذي صنع على مثاله نماذج واقعية وواجبة للأمة في رؤيتها لنفسها وللآخرين.

ففي نموذجها الواجب هي "الأمة الوسط"، كما صورها القرآن في الآية "انا خلقناكم أمة وسطا". وتجلى هذا الوسط واقعيا باعتباره سعيا للاعتدال. وإذا كانت الأمة الوسط تحتوي في مظهرها الأول على محاولة تذليل تطرف الصراع الأهوج بين اليهودية والنصرانية، ففي باطنها تحتوي على تذليل الغلوّ تجاه النفس والله، أي تجاه الطبيعي والماوراطبيعي في الفرد والجماعة.

فقد سعت الرؤية الإسلامية في مبدئها عن الأمة إلى توحيد الجميع باسم المبدأ الأعلى، معتبرة تضاد اليهودية والنصرانية انحرافا عن الحق. فالله هو الله، والأنبياء رسله لا هم يهودا كما تقول اليهود ولا هم نصارى كما تقول النصارى. ومن ثم فلا أفضلية لأحد على آخر. وبالتالي لا أفضلية لأي كان (من دين أو جنس) إلا بالتقوى. وهو مبدأ وضعه القرآن في البداية ضمن توحيده العملي (الديني والدنيوي). حيث نظر إلى تجارب الأنبياء نظرته إلى تجليات متنوعة للإرادة الإلهية في نقل مسار البشرية إلى الصراط المستقيم، أي إلى الصلاح والخير بوصفهما كفتي الوحدانية. وهي رؤية حددت توحيدية الإسلام الصارمة في تمثلها وتمثيلها لهذا الصراط. إذ لم ينظر إلى "خاتميته" سوى نظرته إلى طريق الحق في تذليل الأنا الدينية الضيقة.

فالإسلام هو ليس اسم، بل فعل الانتماء لله الواحد. لهذا اعتبر الإسلام أنبياء الماضي وعقلاءه وحكماءه أنبيائه وعقلائه وحكمائه. وجعل من خير الماضي وصلاحه خيره وصلاحه. ووجد ذلك تعبيره المكثف في الحديث القائل بان خيركم في الجاهلية خيركم في الإسلام. فالإسلام بهذا المعنى هو كيان قادر على تمثل الفضيلة وصهرها في نظامه الخاص. مما فسح المجال أمام إمكانية اشتراك العاملين ضمنه حسب قوانين "الروح الموحد" و"الشراكة العامة". ما جعل من إبداعاته في كافة الميادين أرثا مشتركا للجميع. وأدى هذا بالضرورة إلى اضمحلال روح الاستكبار فيه. لان اشتراك الشعوب والأقوام في بناء الروح الموحد هو اشتراك طوعي متكامل لم يتحدد بمؤسسة ما خارجية دينية كانت أو دنيوية. لذا تحولت الشخصيات الكبرى للثقافة الإسلامية إلى رموز لشعوبها ولعالم الإسلام جميعا. وهي حصيلة ارتبطت بإزالة الإسلام لروح الاستكبار الداخلي. إذ لا إسلام قومي ولا اثني ولا مناطقي. والتنوع فيه هو تنوع اجتهاداته. فهو لا يقمع القومي، بل يخضعه لروح العقيدة الوحدانية. من هنا استحالة صعود نظريات قومية أو نظريات استعلائية أو عنصرية أو فاشية وما شابه ذلك منه. مما أدى إلى انفتاح الثقافة على نفسها داخليا، وانفتاحها الخارجي على الآخرين. الأمر الذي حدد بدوره تسامحها العميق بما في ذلك تجاه تحقيقها المنظومي لإبداعات الأمم أيا كانت بما يستجيب لمرجعياتها الكبرى.

فقد نظرت الأمة الإسلامية إلى "وسطيتها" بين الأمم بمعايير العقيدة الوحدانية الدينية والدنيوية، أي بمعايير ثقافتها الخاصة. إذ انطلقت في موقفها من الأمم الدينية (اليهودية والنصرانية) من المبادئ الثلاث الكبرى العامة التي بلورها القرآن وهي أولا: تأكيد مبدأ التاريخ الوحداني الحق، الذي تمّثله الإسلام. وثانيا، إظهار مبدأ الوحدانية باعتباره حقيقة أوسع من أن يمثلها ادعاء أي كان. وثالثا، الإقرار بان الإسلام هو التمثيل الخالص للوحدانية، باعتبارها إسلاما لله الواحد الحق.

وشكلت هذه المبادئ أساسا للمواقف الإسلامية من اليهودية والنصرانية التي يمكن حصرها عموما في خمس مواقف عامة وهي: ضرورة التمييز بين المهتدي والفاسق في الأمم السابقة انطلاقا من انه "ليسا سواء بسواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله أناء الليل وهم يسجدون ويؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين"، و"منهم مهتد وكثير منهم فاسقون". ثانيا: ألا يجري خوض الجدل معهم، انطلاقا من الفكرة القائلة "لنا أعمالنا ولكم أعمالكم. لا حجة بيننا وبينكم. الله يجمعنا واليه المصير"، والذي يحاجون في الله بعدما استجيب له حجتهم دامغة عند ربهم". ثالثا: محاربة التعصب والغلوّ، انطلاقا من الأفكار القرآنية القائلة بان الذين "قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين"، و"قالت النصارى ليست اليهود على شيئ. وهم يتلون الكتاب. كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم". ووضع هذه الأفكار في الحكم القائل "يا أهل الكتاب لا تغالوا في دينكم غير الحق". رابعا: إدانة الانحراف العملي الذي قام به "رجال الدين" عن حقيقة الوحدانية التي بشّر بها الأنبياء. أي كل ما أدى إلى أن يتخذوا من "أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وما أمروا إلا ليعبدوا آلها واحدا". خامسا: الدعوة لقتال من لا يدين بدين الحق، كما في الآية القرآنية"وقاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون".

تصّيرت هذه المواقف في مجرى تحقيق المبادئ الكبرى الثلاث عن وحدانية الاسم من الأمم (الدينية). بمعنى تعبيرها عن الصيغة الملموسة (التاريخية) للإسلام لا المطلقة فيه. فالجوهري في الإسلام بهذا الصدد هو ثلاثية المبادئ الكبرى، أي وحدة التاريخ الوحداني الحق في الإسلام، وان الوحدانية أوسع من أن يمثلها أي ادعاء ديني، وان الإسلام المحمدي (الحق) هو تمثيل للوحدانية الخالصة. ومن ثم فان تجليها الممكن في "أمة إسلامية" يعني تمثلها حقيقة المبادئ الكبرى لا المواقف الجزئية. لان الأمة الإسلامية المفترضة هي نموذج للواجب بوصفه وسطا عدلا حقا. وهو الأمر الذي يفسر تغير المواقف من الأمم الدينية جميعا في وقت لاحق، بما في ذلك من اليهود والنصارى. فقد أصبحت هذه الأمم جزء من أمم دينية عديدة. ومن ثم تحول الجدل معها إلى أسلوب لتعميق الرؤية الفلسفية والدينية والأخلاقية والسياسية. أي أنها تحولت إلى جزء من تاريخ الرؤية الثقافية لأديان الأمم. وظهرت علوم المقالات والأديان في استعراضها تاريخ الفرق(الدينية) إلى جانب تاريخ المدارس الفلسفية. وتداخلت مع تاريخ فرق الإسلام الكلامية ومدارسه الفلسفية. ويمكننا الحديث في الإطار العام عن أربع اتجاهات كبرى، الأول استعراضي موضوعي كما هو الحال عند النوبختي في كتبه (الآراء والديانات) و(فرق الشيعة) والاشعري في (مقالات الإسلاميين)، واتجاه تحليلي نقدي كما هو الحال عند ابن حزم في كتابه (الفصل بين هل الأهواء والملل والنحل)، واتجاه جدلي كما هو الحال عند الباقلاني في (التمهيد) واتجاه تحليلي مقارن كما هو الحال عند الشهرستاني في (الملل والنحل). وتراوحت بين هذه الاتجاهات الأربع الكبرى مدارس عديدة متمايزة من حيث مناهجها ومواقفها الجزئية ونتائجها. إلا أنها صبت جميعا في اتجاه تعميق الرؤية الثقافية عن الأمم الدينية. من ثم ساهمت في إرساء الأسس المعرفية لفكرة وحدة الأديان. بصيغة أخرى، لقد توصلت الثقافة الإسلامية، بما في ذلك من خلال رؤيتها العقائدية – الدينية عن الأمة إلى إدراك وتأسيس الوحدة الروحية المشتركة بين الأمم (الدينية)، التي حصلت على تحقيقها الأكبر عند ابن عربي في (فتوحاته المكية) وعن الجيلي في (الإنسان الكامل).

إن توصل الثقافة في منظوماتها الفكرية إلى ضرورة تأسيس النتيجة الروحية لوحدة الأمم يعكس أولا وقبل كل شئ انفتاحها الداخلي. وكان هذا الانفتاح في الحضارة الإسلامية مرتبطا أساسا بنظام الوحدانية المتجانسة. وهو الأمر الذي يفسر بحث الثقافة الإسلامية في مجرى تناولها تجارب الأمم المدنية(الدنيوية) عن المعقول فيها والمرذول عقلا (منطقيا) وروحا(أخلاقيا). فعندما يتناول البيروني، على سبيل المثال، تجارب الحضارة الهندية، فإننا نراه يبحث عن "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة". لقد قدم تجارب الهند العقلية والروحية والعلمية، باعتبارها نتاجا إنسانيا هائلا، وأخضعها في نفس الوقت لمنطق الإسلام العقلي والأخلاقي في تقبل ما يمكن تقبله ورفض ما هو مرذول فيها. إذ ليس العقل الثقافي عقلا منطقيا خالصا، بل هو مجرد تعميم لتجارب الأمم العلمية والعملية. وبالتالي، فالانفتاح على تجارب الآخرين يفترض تقييمها الثقافي. وهي حصيلة تراكمت في مجرى تطور الوعي الذاتي الإسلامي. فإذا كانت التجربة الدينية للإسلام عن الأمة قد توصلت في أحد نماذجها الرفيعة إلى فكرة وحدة الأديان، فان تجاربه الدنيوية أبدعت نماذج عديدة عن الأمم شكلت مساهماتها العلمية معيارا لتحديد هويتها الحقيقية.

وبلورت الثقافة الإسلامية في تحديدها لهذه الأمم خمسة أنماط كبرى قسّمتها على أساس جغرافي وآخر إبداعي وثالث ذهني ورابع مذهبي وخامس علمي – فلسفي.

وأدرجت في التقسيم الجغرافي نوعان الأول مبني على أساس تقسيم العالم إلى أقاليم سبع الجوهري فيه إظهار ما أسموه باختلاف الطبائع والأنفس التي تدل عليها الألوان والألسن، والثاني بحسب الأقطار الأربع التي هي الشرق والغرب والشمال والجنوب الجوهري فيه إظهار ما أسموه باختلاف الطبائع وتباين الشرائع. أما التصنيف الذي وضعوا فيه معيار "الإبداع المتميز"، فقد انطلقوا فيه من تقرير حجم المشاركة الجدية للأمم الحضارية الكبرى آنذاك، في التاريخ الإنساني. لهذا قال البعض مثل ابن المقفع، بان كبار الأمم الأربعة هي العرب أهل الفصاحة والبيان، والعجم أهل السياسة والأدب، والروم أهل البناء والهندسة، والهند أهل العقل والسحر. وهي فكرة شاطرها الجاحظ بإضافة أهل الصين إليها باعتبارهم أهل الأثاث والصنعة، وكذلك تقسيمه أهل الروم إلى قسمين الأول أهل يونان وهم العلماء والروم أهل الصنائع. في حين اعتبر أبو حيان التوحيدي الفرس أهل السياسة والأدب والحدود والرسوم، والروم أهل العلم والحكمة، والهند أهل الفكر والروية والخفة والسحر، والترك أهل الشجاعة والإقدام، والزنج أهل الصبر والكد والفرح، والعرب أهل النجدة والوفاء والخطابة والبيان. أما التقسيم حسب الحالة الذهنية فانه تضمن نوعان، الأول هو ذهنية أولئك الذين يتميزون "بتقرير خواص الأشياء والحكم بأحكام الماهيات والحقائق واستعمال الأمور الروحانية" كالعرب والهنود، والثاني هو ذهنية أولئك الذين يتميزون "بتقرير طبائع الأشياء والحكم بأحكام الكيفيات والكميات واستعمال الأمور الجسمانية" كالفرس والروم. أما التقسيم حسب آراء الأمم ومذاهبها فمبني على أساس عقائدي مرتبط بدوره بوجود فرق (دينية) وأخرى غير دينية في نمط تفكيرها حول إشكاليات الملكوت (ما وراء الطبيعة) والوجود الاجتماعي والأخلاقي، كما نراه عند الشهرستاني. وأخيرا تقسيم الأمم حسب معيار ما إذا كانت أمة علمية أو غير علمية، كما نراه عند ابن صاعد الأندلسي في (طبقات الأمم).

فقد انطلق الأندلسي من أن الأمم وان كانت نوعا واحدا في إنسانيتها إلا أنها تتمايز بثلاث أشياء وهي الأخلاق والصور واللغات. وان أهم الأمم الكبرى في التاريخ هي الفرس والكلدانيون (ومنهم السريانيون والبابليون ومن هؤلاء العبرانيون والعرب) ثم اليونانيون(والروم والفرنجة والجلالقة ويتبعهم البرجان والصقالبة والروس والبرغر) ثم القبط (أهل مصر والسودان من الحبشة والنوبة) وأجناس الترك(الكيماك والخزر وجيلان وغيرهم) وأهل الهند وأهل الصين. والفرق الجوهري بينهم يقوم بمدى اهتمام كل منهم بالعلوم الفلسفية بالأخص. فالأمم العلمية ثمان وهي الهند والفرس والكلدانيون والعبرانيون واليونانيون والروم وأهل مصر والعرب. أما الأمم الأخرى فهي أمم لا تهتم بالعلم (الفلسفة بالأخص). فالصينيون، كما يقول الأندلسي، أكثر الأمم عددا وأفخمها ملكا وأوسعها دارا، وحظهم من المعرفة إتقان الصنائع العملية وإحكام المهن التصورية. فهم أكثر الناس على مطاولة التعب في تجويد الأعمال ومقاساة التعب في تحسين الصنائع. والأتراك أمة كبيرة العدد وفضيلتهم التي برعوا فيها أحرزوا خصلتها معاناة الحروب ومعالجة آلاتها. والشيء نفسه يمكن قوله عن الأمم الأخرى(غير العلمية). وارجع الأندلسي سبب ذلك إلى عدم استعمال هذه الأمم لأفكارهم في الحكمة، ولا راضوا أنفسهم تعليم الفلسفة. وبنى استنتاجه هذا على معايير ثلاث في تقييم الأمم، الأول هو أن تنال الأمة درجات النفس الناطقة والزهد بالنفس الغضبية، والثاني تعلمها وتعليمها للفلسفة، وثالثا موقع العلوم الطبيعية عندها.

كل ذلك يكشف عن أن تعمق الرؤية التاريخية عن الأمم يتناسق مع تراكم العناصر الثقافية المتناغمة مع الوحدانية الإسلامية. إذ لا تعني الوحدانية الإسلامية تاريخيا واجتماعيا سوى وحدة النوع الإنساني ومثالها في الواحد(الله). أنها كالحقيقة واحدة بذاتها متنوعة بالصور والتجليات. والتنوع فضيلة في حال سعيه للخير العام. وهي فكرة سبق وان بلورها القرآن في آيته "إنا خلقناكم شعوبا وقبائل لتتعارفوا. إن أكرمكم عند الله اتقاكم". أي أن للتعددية منطقها الطبيعي والتاريخي، باعتباره واقعا ومنطقها الماوراطبيعي والمثالي باعتباره واجبا. وكل منهما يعكس مستوى من الإدراك لماهية الأمم، أحدهما ديني (الأمة الدينية) وآخر دنيوي (الأمة الحضارية).

لقد أدت منظومة المرجعيات الكبرى في الثقافة الإسلامية إلى رؤيتين متناسقتين عن نفسها والآخرين لا استعلاء فيهما ولا استكبار. حيث تجلتا بأسمى وجوهها في إقرارهما بتنوع الرؤية الثقافية ذاتها عن الآخرين. فجميع التقسيمات المذكورة أعلاه (الجغرافية والذهنية والإبداعية والمذهبية العقائدية) هي تقسيمات وتقييمات ثقافية. إذ لم تبحث الثقافة الإسلامية في التقسيم الجغرافي عن صفات جوهرية غير اثر الجغرافيا على الطبائع والأنفس (اللون واللسان) والشرائع (القوانين ونمط الحياة)، أي عن العناصر الطبيعية والعقلية لوجود الأمم. ذلك يعني أنها لم تبحث ولم تؤسس لعناصر اللاعقلانية في وجود الأمم. وحتى في حال اعترافها بوجود بعض منها، فإنها نظرت إليها باعتبارها نتاجا لضعف النفس الناطقة ولهيمنة النفس الغضبية. ومن ثم اعتبرتها صفات زائلة. وهي نظرة عقلانية وإنسانية في مساعيها وغاياتها.

حددت هذه الرؤية التحرر الحضاري للثقافة الإسلامية. فهي لم تقر بتنوع الحضارات فحسب، بل وبنت مواقفها من هذا التنوع على أساس تمايزهن بالفضائل. فعندما حاولت المطابقة، على سبيل المثال، بين حضارة الأمة وخصلة من خصالها مثل اليونان مع الفلسفة والروم مع العمارة والفرس مع السياسة والعرب مع البيان، والصين مع الصناعة والترك مع الحرب، والهند مع العقل والشعوذة، فأنها لم تسع في الواقع إلا لإظهار تمايزهم في الفضائل، لا بمعنى افتقادهم لغيرها من الفضائل. إنها حاولت إظهار فضائل الأمم من خلال تأكيد تنوعها، وبالتالي قيمتها بالنسبة للتاريخ الإنساني ككل. لهذا أكد أبو حيان التوحيدي على أن "لكل أمة فضائل ورذائل، ولكل قوم محاسن ومساوئ، ولكل منها في صناعتها كمال وتقصير". وهي صيغة تعكس قبول الثقافة الإسلامية لإمكانية تعدد الأنواع وتنوع اجتهاداتها الثقافية في ظل انتمائها للكل الإسلامي. بمعنى إمكانية توليف "مميزات" وفضائل الأمم من فصاحة وبيان وأدب وسياسة وغيرها في كيانها الثقافي. وهي تعددية وانفتاح يتساويان مع إدراك جوهرية وقيمة الفضائل. لهذا لم تضع الثقافة الإسلامية نفسها وشعوبها فوق الآخرين ولا تحتهم، بل طالبت نفسها والآخرين بادراك وتجسيد القيم العقلانية – الأخلاقية للتكافؤ والمساواة.

إن إقرار الثقافة الإسلامية بتعدديتها (وتنوعها الداخلي) يعني أيضا إقرارها بالتعددية الخارجية. وبالتالي بإمكانية بناء حضارة إنسانية كبرى ذات ثقافات متنوعة. مما يعني احتواءها على معارضة القهر الثقافي و"الهيمنة القطبية" في الحضارات. إذ لا يستلزم تطور الحضارات وازدهارها بمعايير العقلانية – الأخلاقية صراعها واحترابها، بل تنافسها في الإنسانية. لان المعيار الحقيقي لها كما صاغته الثقافة الإسلامية في تقييمها "العلمي" للأمم،حسب عبارة الأندلسي، يقوم في "نيل فضائل النفس الناطقة الصانعة لنوع الإنسان والمقومة لطبعه، والزهد في أخلاق النفس الغضبية والتفاخر بالقوى البهيمية". إذ حتى للنفس الغضبية "نظمها ومدنها السياسية" كما يقول الأندلسي، إلا أنها نظم ومدن شبيهة بنظم ومدن النمل من حيث العدد والإتقان. ولكنها تبقى "مدنية النفس الغضبية والبهيمية" لا مدنية العقل الأخلاقي، الذي هو قوام "نوع الإنسان" أو حقيقته.

***   ***   ***

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2091 الأحد  15 / 04 / 2012)


في المثقف اليوم