قضايا وآراء

السلطة الثقافية .. مقاربة لصورة المثقف في العصر الحديث / أحمد بابانا العلوي

كل ما يؤدي إلى الاستقامة في ميادين الفكر والروح والعقل ..

ومن هنا جاء هذه الشمولية التي لا تعرف حدا، والتي تتسع دائرتها، بمقدار قابلية الفكر، والعقل والروح ... للتطور والشمول، والانطلاق .

وانطلاق الفكر في مجال الحياة، هو الوسيلة الكبرى للتثقيف، وذلك هو سر تجدد، مفاهيم الثقافة، وتطورها وشموليتها ....(1)

إن الثقافة هي المظهر الأمثل، لفكر الإنسان، ووجدانه، وتطلعاته في الحياة، ورغبته الدائمة، في التطور والتمييز ..

فالثقافة إذن تترجم جهد الإنسان الخلاق  المنبعث من الشعور والوجدان وهي من أجل ذلك ذات منحىكوني، لا تدرك غايته إلا بقبول التنوع والاختلاف على أساس، من حرية الفكر، والضمير، واحترام القيم الأخلاقية، والحضارية، لأن الخطأ، والانحراف، عن سبيل الحكمة الحق إنما يأتيان _ كما يقرر أهل الفكر،_ من التسلط وابتسار الأحكام ومن المعرفة الزائفة التي لا تقام على أساس  عقلي، كما يأتيان من تحكم  العادات  المقبولة على علاتها، في مجال الفكر الخالص. (2)

إن التحولات، التي يجتازها العالم المعاصر، سواء في مجال، الأفكار والمذاهب أو في المجال السياسي والحضاري تتطلب الوضوح في الرؤية والشمول في المعرفة، فالثقافة وعي ورؤية وقيم..  والمثقفون هم الدين ينتجون  الأفكار والمبادئ، ويصنعون المذاهب،ويؤثرون في تشكل المجتمع وتطوره..

وحول  دور المثقفين (أي دور الأفكار) في ترقية العقل والذوق في سبيل تحقيق المثل العليا،صدر العديد من الدرسات والكتب  والرسائل تناولت المثقف، ورسالته من الجوانب المختلفة، الثقافية والسياسية ..

يقول الأستاذ أمليل، بأن عبارة  "دور المثقف"، عبارة تحيل إلى مفهوم حديث للكاتب، صانع الأفكار ومروجها وإلى وعي هذا الأخير،ودوره، في التأثير، باتجاه التغيير نحو ما يراه أفضل.

و لعل القرن الثامن عشر الفرنسي، هو الذي عبر فيه كتابه عن المفهوم الحديث للكاتب باعتباره، حاملا الحداثة، ابتداء من صناعة لكتابه التي عليها أن تقطع مع التقاليد في المعارض  والطريقة وباعتباره داعيا إلى التحديث الاجتماعي والسياسي (3)

إذن، في القرن الثَامن عشر تبلور وعي جديد للكاتب، فهو صاحب معارف جديدة، متبحر  في العلوم، ويقوم  بفحص، وتمحيص المصادر البديلة، واستخراج الوثائق الدقيقة وإحياء الروايات المنسية والمهجورة معتمدا على فكر نقدي يحلل به بنية المجتمع، ونظام  السياسة..

و يرى جرار ليكريك، أن ووظيفتهم تعود إلى العصور التي شهدت ميلاد الكتابة، والدولة، بحيث تقوم وظيفتهم على إنتاج الخطابات الضامنة لهوية الجماعة، والقيم المركزية السائدة فيها...(4)

أما الفيلسوف غرامشي فيرى بان لكل مجموعة اجتماعية، جماعة من المثقفين، وظيفتهم . القيام لها بدور الهيمنة ووسيلة للسيطرة وتحقيق الانسجام داخل المجموعة وبذلك يتحدد وضع المثقف من خلال المجموعات الاجتماعية التي يخدمها،ومن خلال، الدور الذي يقوم به في السياسية، والصيرورة التاريخية...(5)

المؤرخ جاك لوكوف ((jacques legoff يقول في كتابه : (المثقفون في العصر الوسيط .) بأن ظهور أهل العلم، والأدب والفن مقترن بنهضة المدن في أوربا في القرن الثاني عشر الميلادي بحيث لم يكن قبل هذا القرن في الحواضر الرومانية التي كانت مقرا للأسقفيات، سوى  عدد قليل من العوام (laicat)  يحيطون بهم كهنة أكثر منهم عددا...

ثم يضيف أنه استجابة لمتطلبات الحواضر الإسلامية من المواد الأولية من الغرب البربري (أي المتخلف، المتوحش)، نشأت وتطورت مدن جنينية(portas) مستقلة أو متصلة بجنبات الحواضر الكهنوتية  أو "المحلات" العسكرية وذلك منذ القرن الحادي عشر غير أن هذه الظاهرة لم تبلغ، ما يكفي من الاتساع والانتشار إلا في القرن الثاني عشر حينما غيرت البنيات الاقتصادية، والاجتماعية والسياسية  في الغرب لقد إنضاف إلى هذه التحولات العميقة تحولات أخرى ثقافية  فنتج عن هذه الأنواع من التفتح والنهوض، نهضة  فكرية...

لم يكن للعلم في أوريا قبل القرن الثاني عشر خارج الأديرة، وحتى داخل هذه الأديرة، لم يكن يتجاوز، استنساخ المخطوطات ...، ومع نشأت المدن واتساع العلاقات مع العالم العربي الإسلامي بدأت الحياة تنتعش، وبدأ الوعي، بما يحدث من تطور، ثقافي وفكري يعبر عن نفسه، شيء جديد (حديت)، قوامه الإرتباط  بعلوم القدماء المتحررة والمتسامحة والمنفتحة، على نقيض علوم الكنيسة......(6)

لقد جاءت المخطوطات العربية، إلى الغرب المسيحي، بالثقافة اليونانية - العربية  وأدت ترجمة المؤلفات العربية إلى خلق وعي جديد، وجيل من المثقفين، كان معاصريهم يسمونهم ب

"المحديثين"  ( les modernes )

كانت الرغبة في النهوض والتجديد، هي التي حركت الهمم بحماس في الاضطلاع على علوم العرب، من أجل سد النقض في الثقافة الأوروبية اللاتينية، خاصة في الفلسفة والعلوم.

وقد أخد المثقفون الأوربيون من الثقافة العربية، الإسلامية مناهج التفكير التي ستطبع الفكر الأوروبي، وستشكل قوته أي وضوح لاستدلال والحرص على الدقة  العلمية ...

إن اتصال أوروبا بالعرب عن طريق القوافل التجارية كان وراء نشأة المدن ونمويها، كما تلقت أثار الثقافة العربية.

الذي كان وراء اليقظة الفكرية والحركة العلمية، التي شهدتها المدن الأوروبية في القرون الوسطى (حركة الترجمة،قيام الجامعات،وا؛لإنكباب على دراسة العلوم والفلسفة).

لقد ساهم التراث العربي المترجم إلى اللاتينية في ظهور فئة من المثقفين الأوربيين (فلاسفة) الذين إنخرطوا في القضايا السياسية،بخطاب مستعار، من  فلسفة ابن رشد ..

وبهذا الصدد،يؤكد ألن دي ليبرا  في كتابه (المثقفون في العصر الوسيط ) بأن (الرشدية اللاتينية ) برزت باعتبارها خطاب " المثقفين الجدد" الذين هيمنوا على الحياة الثقافية،في أوروبا، خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر، لقد وظف هؤلاء الذين عرفوا "بالرشدين اللاتين" نظرية ابن رشد في  الفصل بين الدين والفلسفة حيث بين أن للدين بناء، مستقل بنفسه له أصول الخاصة، وأن للفلسفة، كذلك بناء مستقبل بنفسه لها هي الأخرى مقدماتها الخاصة .

وأن التقاء البناءين  وتآخيهما وتكاملهما أمور يجب أن تلتمس في الأصول  لا في البناءين، بل في الغاية، والهدف، من حيث أن كلا منهما، إنما يرمي في نهاية المطاف إلى تحقيق الفضيلة.

لقد تلقف  الرشد يون اللاتينين، هذا التصورا والفهم وقرؤوه على ضوء  مشاكل الثقافة المسيحية فقالوا ب " نظرية الحقيقتين "ونسبوها إلى ابن رشد (7)

كان الغرض من هذا التوظيف، لنظرية ابن رشد في علاقة الدين بالفلسفة إثبات أن سلطة العقل، مستقلة عن سلطة الكنيسة الشيء الذي مهد إلى المناداة بالفصل بين الكنيسة والدولة.

و الخلاصة، أن تأثير الثقافة العربية الإسلامية في القرون الوسطى أدى إلى التغيير في الروح والخيال العالم الذي كانت تسيطر عليه عليه الإمبراطورية الرومانية ..

كان أثر الثقافة العربية، أثرا مباشرا على الأذواق والأفكار والموضوعات والدواعي النفسية والأساليب اللغوية التي تستمد منها الآداب.(8)

هكذا ظهرت فئة المثقفين باعتبارهم، من يبدع، ويوزع ويمارس الثقافة، فهم ورثة الرهبان والكهنة في العصر الوسيط الذين يحفظون قيم المجتمع وثقافته الرمزية، فينتجون، ويجددون في المجال الثقافي والجمالي والأيديولوجي، فالمعرفة تنتج القوة أي أنها تتحول الى سلطة.

فسلطة المثقف  الحديث تبلورت وتشكلت منذ القرن الثامن عشر ارتكزت على الحقائق التي يبتكرها العلم في مختلف المجالات : في الفلسفة والدين والاجتماع، والسياسة والاقتصاد والطبيعة..

ووعيه وليد العصور الحديثة، ورسالته، الإعراب عن المعاني والبحث عن الحقيقة والكشف عن الموقف لتجاوزه في المستقبل والخروج من صراع حضاري من أجل المساهمة في بناء حضاري جديد.   فلإنسان هو الوسيلة التي بها تبتدئ الأشياء، ويرى سارتر بأن كل وسيلة جديرة بأن تعد غاية، وكل غاية  تصير وسيلة للحصول على غاية  أخرى... (9)

إن سلطة المعرفة تتجلى في الربط بين السياسي والاجتماعي والمعرفي لكي يعطي معنى لمضمون الفكر من خلال تفعيله، وترجمته إلى أفعال أي واقع معاش وبمعني أخر تحويل الأفكار المجردة إلى وقائع اجتماعية والى فعل حضاري ..

فالتطور الحضاري إنما تقوم به جماعة من الناس يفكرون في المثل التي تهدف إلى التقدم، ويكيفونها،   مع وقائع الحياة على نحو يجعلها قادرة على التأثير الأقوى في ظروف العصر .

وإدراك الإنسان لماهية  الحضارة تتوقف على كونه مفكرا وعلى كونه حرا إذ ينبغي أن يكون مفكرا ليكون، قادرا على فهم مثله وتصويرها . وينبغي أن يكون حرا، ليكون في وضع يتهيأ، له، منه أن يدفع بمثله  في الحياة العامة فالحرية المادية، ترتبط بالحرية الروحية، ارتباطا وثيقا .فالحضارة تفترض، اناسااحرارا لان بالأحرار وحدهم تتحقق الحضارة وتصنع.(10)

ونستنتج من هذا أنه لا معنى للتفرقة بين الثقافة والحضارة فمن أهم مظاهر التحضر ازدهار المعارف الإنسانية وتفتق العقول والقرائح عن فتح مبتكر يسهم في لتقدم الإنسانية ورقيها ..

لابد من التنويه بأن هناك أنماط المثقفين من ضمنهم أصحاب العقائد، والمذاهب الاجتماعية والسياسية والفلسفية وهناك المثقف الملتزم أو المستقل ..

إن المشتغلين بالفكر من أهل العلوم والمعرفة، أيا كان نوعهم لا يكونون "مثقفين" إلا إذا كان الوعي الفردي مهيمن لديهم ... (المثقف كائن فردي تتمثل فرديته في كونه كفرد له وعي خاص ورأي خاص، ربما رؤيا للعالم خاصة . ) (11)

و يرى أرنست رنان بأن المثقفين يشكلون طبقة من العلماء الممتازين وأن ما ينادون به هو المعايير الخالدة للحق والعدل ...، وإلا تحولوا الى خبراء إعلانات أو الخبراء علاقات عامة، إنهم شخوص رمزية تتسم بقوة الشخصية، عليهم أن يقوموا بمعارضة الوضع  الراهن في زمانهم وأن يقولوا كلمة الحق في مواجهة السلطة ...(12)

يرى عالم الاجتماع الأمريكي "ألفن جولدنر" بأن المديرين، والمثقفين، قد حلوا . إلى درجة كبيرة، محل الطبقات القديمة التي كانت تتمتع بالأموال والممتلكات، ويصف المثقفين بأنهم لم يعودوا أشخاص يخاطبون الجمهور العريض بل مجرد أفراد ينتمون إلى ما يسميه ب" ثقافة الخطاب النقدي "(13)

هناك محاولة ترمي إلى اختزال صورة المثقف، بوضعه في إطار مهني مجهول الهوية ...، في حين أنه صاحب موهبة خاصة تمكنه من حمل رسالة نشر الأفكار، التي تخلص الناس من ظَلمات الجمود والخرافة، والوصاية على الفكر والعقيدة، ومحاربة كل أشكال التنميط، التي يشيعها، وسائل الاتصال الحديثة .

فالثقافة تهدف إلى تثقيف العقول، وصقلها، وترقية الذوق وتهذيب السلوك ...

إن نظام القيم والأفكار والعقائد،هو المحدد الحاسم عند ماكس فيبر(Max weber) للنشاط الاقتصادي ويقول بأنه إذا كانت الرأسمالية هي التي خلقت الثروة، واقتصاد السوق فقد كان ذالك بفضل القيم الثقافية. التي دعت إليها البروتستانتية، وهي نفس القيم والمبادئ التي أسست للعقلانية والحداثة الديمقراطية.(14)

ويذهب مايثو آرنلد في كتابه الثقافة، والفوضى، الصادر سنة 1869،بأن الثقافة القومية  هي التعبير عن أفضل الأفكار ويرى بأن دور المثقفين، مساعدة المجتمع على الإحساس برابطة الهوية المشتركة، وهي هوية بالغة السمو والارتقاء ...(15)

أما جوليان بندا(Julien benda) صاحب كتاب خيانة المثقفين، (la trahison des clercs) الصادر سنة 1927 فيرى أن المثقفين يواجهون خطر الالتزام الشديد نتيجة الانحياز إلى الدعوة القومية ...ويطالب المثقفين بالنظر الى المسألة من زاوية القيم  الكونية ...

ويقول ادوارد شيلز (E.shils) بأنه يوجد في كل مجتمع، بعض الأشخاص الذين يتمتعون بحساسية، فذة للقداسة، وبقدرة خاصة على تأمل طبيعة الكون الذي يعشون فيه،  والقواعد التي تحكم مجتمعاتهم. كما توجد في كل مجتمع أقلية من الأشخاص الذين يتمتعون،بقدرة تفوق طاقة، سواهم من البشر العاديين على التساؤل والبحث وتحفزهم الرغبة في التواصل المتكرر مع الرموز الأعم  والأشمل، من المواقف العملية في الحياة اليومية .

إن النفاذ إلى أسرار هذه الرموز،و التعبير عن معانيها بالكتابة هذا هو الذي يميز المثقفين أو المفكرين في كل مجتمع .(16)

إن المثقفين ينزعون بصفة أساسية إلى مساءلة، الرموز العامة لأن المثقفين تربطهم علاقة رمزية بزمانهم..

في فرنسا رصد رجس دبري(Regis Débray) الحركة الثقافية، في فرنسا منذ(1880_1930)،وقال إنها انتقلت من مدرجات جامعة السربون إلى حلقات الكتاب والأدباء، الذين يمثلون طبقة المثقفين، الذين وفرت لهم دور النشر،مجالا واسعا لنشر أفكارهم (سارتر _ ومالرو _ وأندري جيد _ ومورياك _ا لبير كامي _ وريمون آرون)   وغيرهم ..

وقد انتقل المثقفون بعد 1968 إلى وسائل الأعلام الجماهيرية : (الإذاعة والتلفزيون) وأصبح لهم جمهور واسع، عريض بحيث وسعت وسائل الإعلام، ساحة التلقي، والاستقبال فقللت بذلك من مصادر الشرعية الفكرية، فقد حطمت الأسوار المحيطة بالطبقة المثقفة التقليدية كما حطمت معها معايير القيم الخاصة بها...(17)

إن هذا الوضع خاص بفرنسا التي كان يتصارع فيها الاتجاه العلماني مع الكنيسة ...

في إنجلترا كان الوضع مختلفا،بحيث أن أساتذة أكسفورد وكمبردج أنفسهم لم يكونوا معروفين في الحياة العامة باعتبارهم مثقفين بالمعنى المتداول في فرنسا

فالفردية هي المرتكز الأساس لشخصية المثقف عندالانجلو سكسون..

لقد اتسعت دائرة المثقفين في العصر الحديث بحث تتضمن الصحفيين والمديرين والأساتذة، والخبراء وأعضاء جماعات الضغط وكبار العلماء، والمستشارين الذين يتقاضون أجورهم مقابل إبداء أرائهم،

مما يطرح السؤال حول إمكانية وجود مثقف مستقل..

وهذه مسألة بالغة الأهمية يجب، النظر إليها من منطلق أن التفكير في أشياء  ثابتة يختلف عن أساليب التفكير فيما هو  متغير بعيدا عن منطق الساخر الذي لا يبالي كما يقول" أوسكار وليد"  وهو الذي يعرف  ثمن كل شيء ولا يعرف لأي شيء قيمة  .

و بهذا الصدد يلاحظ راسل جاكوبي في كتابه " آخر المثقفينthe last intellectuals  بأن المثقف  الغير الأكاديمي اختفى من الولايات المتحدة الأمريكية وحل محله عصبة من أساتذة الجامعات،لا يبدي أحد في المجتمع اهتماما بهم،لقد أصبح المثقف  أستاذا جامعيا يعيش منعزلا في خلوته،و يتمتع بدخل مضمون، ولا يهتم بالتعامل مع العالم خارج قاعة الدرس، وهم يكتبون بهدف الترقي، في المناصب الجامعية ،لا من أجل التغيير الاجتماعي ..

لقد تحول المثقفون إلى تقنيو قاعة الدرس،الذين يحسبون لكل شيء حسابه، بحيث يستطيع في جميع الحالات أن يستخلص الدلالة الفكرية،لموقف من المواقف عن طريق قياس الحقائق  المعروفة والمتاحة بمعيار محدد ..(18)

و يقول بول جونسون،في كتابه (المثقفون) بأن المائة سنة الأخيرة،شهدت نموا متزايدا للدور الذي يقوم به المثقفون كما أن صعود المثقف العلماني كان عاملا أساسيا في صياغة العالم الحديث

كان رجال الدين في العصر الوسيط يتربعون علي هرم الثقافة الكهنوتية وكانت اجتهاداتهم الأخلاقية والأيديولوجية تتم في إطار التعليم الموروث وطبقا للحدود التي ترسمها السلطة الكهنوتية .

في القرن الثالث عشر ظهر جيل جديد من المعلمين والأوصياء أصبح يشعر بأنه غير مقيد بقوانين أي دين أو وحي ..، وأنهم قادرون على تشخيص الإسقام الاجتماعية، بالعقل فقط ويستطيعون استنباط صيغ تمكنهم من تعديل عادات البشر الأساسية نحو الأفضل ..(19)

ساهم المثقفون العلمانيون في تقليص دور الدين، وفي تشكيل توجهات وأنماط وسلوكات، أفراد المجتمع...

هل كانوا يقولون الحقيقة ؟ وهل كانوا أمناء في علاقتهم؟

يقول بول جونسون بأنه حان الوقت لتفحص سجلاتهم العامة والخاصة ...(20)

وسوف نعرض لبعض اللمحات لشخصيات فكرية من أجل الوقوف على حقيقة الدور الذي يقوم به المثقفون في العصر الحديث .

-جان جاك روسو (1712-1778) يعتبر من أبرز اقطاب الفكر الحديث،رفض النظام القائم برمته، وأراد  صياغة نظام جديد..

يعتبره قادة الثورة الفرنسية، النموذج المثالي، والمعلم الذي ساهم في تغيير الأخلاق والسلوكات، والعادات والمشاعير.

حجم ثأثيره كبير في التربية من خلال كتابه "أميل" (1762) انتقد زيف المدنية الحديثة وكشف زيفها وتكلفها.

كتب الاعترافات سنة (1770) التي نشرت بعد وفاته، وقد أبرز أن الفرد هو الإنجاز الأساسي لعصر النهضة ..

إلا انه شخص تعوزه الكياسة والدماثة وكان في  جوانب كثير من شخصيته جلفا سيئ التربية، يقول عن نفسه بأنه شخص همجي، وأن بداخله أشياء تمنعه من أن يكون حسن الخلق (21)

إن الحقائق التي يقدمها سواء في اعترافاته أو رسائله، تبدو مشوهة تنقصها الدقة .

يقول بأن التفكير في سلوكه بالنسبة لأطفاله، قد أدى به في النهاية إلى صياغة نظرية التربية التي قدمها في كتابه "أميل " كما ساعده في كتابة كتابه العقد الاجتماعي .

إن ما بدأ كعملية  تبرير في حالة خاصة وكسلسلة من الأعذار المتسرعة عن سلوك كان غير طبيعي في البداية،قد تطور وبالتدريج من خلال التكرار لان يصبح قناعة حقيقية  لان  التربية هي مفتاح الإصلاح الاجتماعي والأخلاقي، ولما كان هكذا فإنها تصبح هي مسؤولية الدولة.

فالدولة هي التي تشكل عقول الجميع وليس الأطفال فقط كما فعلت في ملجأ اللقطاء في حالة "روسو".

منطق غريب ولا أخلاقي يبرر به روسو خطيئته وفشله كأب، أصبحت متصلة بنتاجه الفكري ..(22)

كان  روسو كاتبا عبقريا، غير متوازن في حياته وأرائه مع ذلك أطلقت عليه الأدبية جورج صند لقب القديس روسو !

ويتحدث بول جونسون عن الشاعر شيلي(shelley) المولود عام 1792 ويقول بأنه كان مثل روسو يعتقد بأن المجتمع بكامله عفن وينبغي تغييره ..، وكان يرى أن الشعر نبوءة، وقانون ومعرفة وأنه لا يمكن أن يتحقق التقدم الاجتماعي إلا إذا كان مسترشدا بوعي أخلاقي..(23)

ويعتبر أن  الشعر، وحده القادر على ملء الفراغ الأخلاقي، وإعطاء، دفعة خلاقة للتقدم " الشعر يوقظ العقل، ويثريه ويجعله مستقبلا لألاف الأفكار، التي ما كان من الممكن أن يدركها، والشعر يكشف النقاب عن الجمال المستور في العالم."(24)

كان " شيلي " يقدم نقدا للمجتمع في عصره وشعره، أخلاقي وسياسي تناول الظلم والثورة والحرية ..

كان في حياته مصاب بخيبة الأمل بسبب عدم انتشار أعماله يائس من امكانبة مرور أفكاره السياسية والأخلاقية في المجتمع ...

أما كارل ماركس (1818_1885 ) فقد كان له تأثير كبير في العصر الحديث، ليس بسبب جاذبية مفاهيمه، ومنهجه لأصحاب العقول المفتوحة، وإن ما بسبب فلسفته التي كانت نموذجا لفلسفات القرن التاسع عشر ..، في زعمها أنها علمية،قادرة على تفسير  السلوك الإنساني في التاريخ...

عاش ماركس حياة طالب علم يلتهم الكتب، وكانت لديه موهبة نادرة في اقتباس أقوال الآخرين واستخدامها في الموضع المناسب،  في الجدل السياسي

تخصص في الفلسفة واشتغل بالعمل الصحافي والنضال السياسي، أنجز أهم عمل له، وهو كتاب رأس المال صدر الجزء الأول منه  سنة 1868 ...

كتب في المسألة اليهودية بأن المال هو الإله  الضنين لإسرائيل ولا أله غير المال يذل كل آلهة البشر ويحولهم إلى سلع كمالية، المال هو القيمة المكتفية بذاتها  بين الأشياء ومن هنا فقد حرم كل العالم الإنساني والطبيعي من قيمها الصحيحة، المال هو جوهر، عمل الإنسان، ووجوده.

الجوهري الذي يسيطر عليه ولذلك يبعده . لقد تمت علمنته ليصبح إله الجميع. (26)

رغم أن اهتماماته انصبت على المال والصناعة والاقتصاد، فإنه لم يبذل جهدا في فهم كيف تعمل الصناعة، منذ فجر الثورة الصناعية (1760_1790) وبالتالي فقد فشل في فهم الرأسمالية، لأنه لم يكن علميا، ولم يستطيع أن يتقصي الحقائق بنفسه أو يستخدم الحقائق التي تقصاها الآخرون بموضوعية وهذا هو السبب الرئيسي قي عجز الماركسية كنظام عن تحقيق النتائج التي تدعيها ووصفتها بالعلمية..

كانت فلسفته مزيجا من مهارته الصحفية والأكاديمية لكنها تضم أيضا   جوانب وثيقة الصلة بشخصيته وهي  ميله للعنف وشهوته للسلطة وفشله في أمور المال ونزوعه الى استغلال من حوله..(27)

عاش ماركس حياة مثقف (بويهمي) عادة ما يسهر طوال الليل وينام بكامل ثيابه .. ورائحة التبغ والدخان تملأ غرفته التي لا توجد بها قطعة أثاث واحدة سليمة، ونظيفة،,طبقان من الغبار تغطي كل شيء، والفوضى تعم المكان.

معظم الوقت في حالة سكر وعاطل عن العمل , الا انه يمكن ان يعمل بلا كلل اذا كان هناك عمل..(28)

ومن ضمن المفكرين الذين كتب عنهم بول جونسون,في كتابه الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر الذي يعتبره الفرنسيون  فولتير القرن العشرين ..

مثل معظم المثقفين الكبار كان سارتر,نرجسيا من الدرجة الأولى.

يقول سارتر بأن الوجودية تعرف الإنسان بأفعاله، وأن الأمل لا يوجد إلا في الفعل، ولم تكن  الوجودية تقرأ,بل كانت جنونا يستمتع به الناس (أو عقيدة يعيشها الناس. )

كان سارتر شخصية مرحة يعشق الويسكي ,وموسيقى الجاز والبنات وعلب الليل

و كان غزير الكتابة ,يكتب بلا كلل:( محاضرات,مسرحيات ,روايات,قصص ,سيناريوهات ,حوارات, ومقالات نقدية ,وفلسفية ...)29

يقول في كتابه الغثيان: كانت كل  نظرية من نظرياتي ,فعل غزو وامتلاك , وكنت أعتقد أنني بفضلها ,سوف أغزو العالم ,ذات يوم..

و كتب يقول أفضل  أن أتحدث عن أتفه الأشياء ,مع امرأة عن الحديث عن الفلسفة مع"ريمون ارون"
كانت الكلمات كل شيء في حياته وكان الأدب بديلا عن الدين ...

لقد تعلق بصوفية الكلمات وغرق في بحر الكلام ,فأصبحت الكتابة عنده عادة مثل ما هي مهنة .

كان سارتر كريما ,لا يهتم بالمال ,وكانت لبيرليته وروحه المرحة هما أفضل جوانب حياته..

إن هذه اللمحات التي استعرضناها إنما قصدنا من ورائها تحديد الروافد المشكلة لشخصية المثقف في العصر الحديث من أجل التعرف على أبعادها ,وحقيقة دوافعها ,ومدى تأثيرها في مجتمعها ,وفي عصرها ..إن الغاية في المقام الأول هي تقديم صورة شخصية المثقف , ودوره في المجتمعات الحديثة..

إن الدرس الذي نخرج به هو أن الثقافة ,منظومة قيم ,تحفز على المبادرة والابتكار وأن للعلم الدور الأساسي في النهضة الأوروبية التي قادها المفكرون والمثقفون.

و يتجلى ذلك في حركة الإصلاح والتحديث وفي تقدم العقل في اكتشاف الحقائق ,و في بسط سلطة الإنسان على الأشياء، ويعني كذلك حرية الفرد وبناء نظام اجتماعي وسياسي قائم على التعاقد.

و التقدم ارتقاء بالذوق والوجدان بفضل رقي الآداب والفنون .

إن فكرة التقدم مرتبطة بنشر الأفكار ومبادئ التنوير وهي المهمة التي يقوم بها المثقفون , وقادة الرأي والكتاب ..و قد عرضنا بعض  تجلياتها بغية تمثل صورة المثقف ودوره في المجتمعات الحديثة.

و ربما يتم اختزال دور المثقف الحديث ,في الطعن في المعايير والأعراف السائدة , أو في مساءلة الرموز العامة ..

وقد أدت اللجاجة في حرم الجامعات والمراكز الثقافية إلى تزعزع موقف المثقف إزاء الرموز الوطنية والتقاليد المقدسة والأفكار التي لا تقبل الهجوم عليها ,لما يفترض فيها من خير وشرف (30)

إن أدعاء المثقفين , بأن خطابهم أكثر مدعاة للتصديق  مسألة تطال التمثيل المعرفي , والسياسي .

و بهذا الخصوص وضح عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو(P.bourdieu) بأن هناك فجوة بين الخطابات وبين الأفعال , ويطرح السؤال حول إدعاء المثقفين قيادة المجتمع في مجال الأفكار والرموز. وشكك بورديو في عقائد المثقفين وأيديولوجياتهم الخاصة واتهمهم بالتواطؤ مع مختلف أشكال السيطرة , ومع السلطة المادية والرمزية ,تواطؤ نادرا ما يعلن عنه , وغالبا ما يتم التستر عليه..(31)

و يذهب بول جونسون نفس المنحى, فبعد مرور قرنين على ظهور المثقفين العلمانيين الذين حلوا محل الاكليروس القديم في هداية الناس وأصلاح أحوالهم . فإن الوقوف على مؤهلاتهم الأخلاقية, وقدرتهم على الحكم من أجل تحقيق ذلك الهدف  وفحص وسائلهم للبحث عن الدليل وتقويمه ,مع استحضار مواقفهم الإنسانية وعلاقتهم الاجتماعية وسلوكاتهم الشخصية.

فقد استخلص بول جونسون من هذه النتائج انه لمس تشككا عاما من الناس , إزاء المثقفين،وأن المعتقد السائد, أن المثقفين ليسوا أكثر حكمة , ولا أكثر قيمة كمصلحين , من السحرة , أو رجال الدين

القدامى. (32)

و خلاصة القول , فإن المثقف ليس أيديولوجيا فحسب ,بل هو محترف فكر, وإبداع, وإبتكار ثقافي وفني..

و من الحق أن أسوأ أنواع الاستبداد هو إستبداد الأفكار...

إن العلم يضر وينفع :

ينفع إذا استأثر به العلماء , الذين يحسنون فهمه وتصديقه , ويضر , إذا خلص إلى الجهلاء الذين لا  يستوعبونه ولا يعقلونه,و لا يحسنون التمثل له والانتفاع به. شأنه في ذلك شأن السلاح الخطر أو شأن العقاقير الخطيرة , لا ينبغي أن يخلى بينها,و بين الذين لا علم لهم بالطب وطبائع الأمزجة والأجسام.

إن قليلا من علم العلماء قد خلص إلى جهل الجهلاء,ففسدت لذلك أمور الناس, واخلاقهم, وصلاتهم وأحكامهم على الأشياء, وتصورهم للحياة..(33).

 

.....................

الهوامش:

1-عبد الكريم غلاب- في الثقافة والفكر-ط1-1964-ص-9

2- محمد العربي الخطابي- الثقافة الاسلامية , والثقافة الغربية الأخد والعطاء- مطبوعات اكاديمية المملكة المغربية- سلسلة " الندوات" مكناس – 4-5 دجنبر -1991/ط-1993 ( الرباط.ص 21)

3- علي أومليل – السلطة الثقافية ,و السلطة السياسية –مركز دراسات الوحدة العربية-ط 1-1996-ص-9

4ـ جيرار ليكريك _ سوسيولوجية المثقفين –ترجمة جورج كتورة – دار الكتاب الجديد – ط1- 2008 ص17

5- محمد عابد الجابري – المثقفون في الحضارة العربية – مركز دراسة الوحدة العربية ط-1 1995-ص20

6- م.ع.الجابري – المصدر السابق- ط25-26

7- م.ع.الجابري –ن- م – ص 31

8- عباس محمود العقاد – أثر العرب في الحضارة الأوروبية – نهضة مصر – ط 2-1998 – ص 49

9- جان بول سارتر – ما لأدب ترجمة  محمد غنيمي هلال نهضة مصر ص 64

10- ألبيرت أشفيتسر – فلسفة الحضارة – ترجمة عبد الرحمان بدوي – دار الأندلس – ط 2 – 1980 ص 20- 21

11- م-ع- الجابري المصدر السابق – ص - 34

12- ادوار سعيد المثقف والسلطة – ترجمة دا محمد عناني – ط 1 رؤية 2006  ص38

13-ادوار سعيد /ن- م ص 41

14- د- علي أمليل – سؤال الثقافة – الثقافة العربية في عصر متحول ص 24 مركز الثقافى العربي – ط 1-2005

15-ادوار سعيد م-س-ص 68

16- ادوار سعيد م-س-ص 77

17- ادوار سعيد م-س-ص 120-121

18- ادوار سعيد م-س-ص 126-127

19-بول جونسون – المثقفون – ترجمة    طلعت الشايب ط 1 _دار الشرقيات_ ص 9

20ـ بول جونسون نفس  المصدر ص 100

21ـ نفس المصدر _ ص 19

22ـ ن_م _ ص 30

23ـ ن_م _ ص 37

24ـ ن_م _ ص 38

25ـ ن_م ص

26ـ ن_م  ص 66

27ـ ن_م ص  77

28ـ ن_م ص  84

29 ـ ن_م ص246

30ـ إدوارد سعيد مصدر سبق ذكره 79

31ـ جيرار لكلرك –م- س- ص _ 63

32ـ بول جونسون مصدر سبق  ذكره ص 355 ـ 356

33ـ طه حسين مرأة الضمير الحديث ص ـ 147


 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2092 الأثنين  16 / 04 / 2012)


في المثقف اليوم