قضايا وآراء

الرصيف العاري .. جديد الشاعر ستار جبار الدراجي / جواد وادي

جامحا مثلما الجياد النافرة في شعره بمغامرة  لا ريب أنه قد أفرد وقتا وجهدا لتأسيس عالمه الذي يتفرد به ليغاير الكثير من التجارب لمجايليه من حيث إبحاره الصعب في بهاء الكلمات الفاتنة، معجمي لا شائبة في توظيفاته اللغوية من حيث صفاؤها وألقها بحمولات شعرية تعج باللقطات الفائقة الصفاء، كأنها مشاهد هيئها للفرجة السينمائية. مبهر في وفائه للكلمة ليمنحها ما تستحق من ألق بموسيقى لا يلتقطها إلا الفاطن بسلامة الإبداع ونقاء اللحظة.

فالشاعر ستار جبار يؤاخي بين الصورة وعطر الكلمة، ببوح خافت أحيانا وهادر في دواخل الشاعر أحيانا أخرى، ليخرج لنا حلة شعرية بألوان زاهية وبمسارات من المداعبات المركبة لغويا وهي تمر بمحطات يتداخل فيها الذاتي بالكوني لتتشح أحيانا بأردية رمادية وهنا تكمن مداهنة الشاعر، لا بمنحى التعويم اللغوي الباهت، بل بترتيب يتداخل فيه الذاتي بالموضوعي المشاكس أحيانا، تجر الشاعر عنوة أو بمحض إرادته إلى مديات تتوزع بين الألم والمسرات حتى وإن كانت المرارة شارات تتكرر كثيرا في متون النص  بمؤامة مع فرح العابر.

كقارئ لتجربة ستار جبار الدراجي، أراه شاعر الألم والأسئلة الفاضحة للراهن من الفواجع، يحاكي من خلالها الذات الكسيرة، والأمكنة، والآخر، بكثافة شعرية وجموح لغوي وبتعامل فطن ومتوازن، ما أن تلج عتبات مملكته الشعرية ينتابك ذلك الإحساس بالمرارة والأسى لكونه يحث المسار بتؤدة وبأدوات العارف بدهاليز الكتابة الشعرية التي تعج بالحركة والصور والتناول بتوصيفات معجمية تغلب عليها المواجع والإحساس بالضياع،

ولا غرو في ذلك، فهو شاعر لصيق بأرضه وناسه، يحمل أوزارا تطبق على أنفاسه لقسوتها  بسوداوية تنز أسى وحرقة ولا من سلاح يخرجه من كبوته غير التوحد مع اللحظة الشعرية والتي تشكل له ملاذا للإفلات من ربقة المحاصرة الظالمة.

إن ستار جبار الدراجي شاعر مبهر في وفائه للكلمة وموسيقاها التي تتوزع على البياض لتشكل عالما يمنحك الاطمئنان بان الشعر العراقي ما زال بخير، وهذه الأصوات الجادة والمثابرة في وفائها لديمومة المشهد الشعري الذي بات مهمة إبداعية وأخلاقية لا مناص من الوفاء لها والحرص على دوام توهجها، رغم حجم الانهيارات والخسارات الكبرى لمحن الأرض والناس التي ما توقفت يوما.

إن شبابا مبدعين نذروا أنفسهم لهذا الجنس الاحتفالي، معتبرين أن التعلق به وبرفده بالجديد ومواصلة توطيد العلاقة مع بهائه الدائم. مسألة تحد كياني لا محيد من العيش إلا به وله، سيما حين نعايش لحظات من الوجد والفرح الطفوليين تحاصر الشعراء الشباب وتمنحهم لحظات آسرة لحظة يحفلون بمولود شعري جديد، أو نشر نص على منبر ثقافي، وهذا ما نعيشه فعلا ونحس بسعادة غامرة نحن جيل السبعينات وما بعده، حين يعود الألق الصادق والنقي للوجود الإنساني مصدره الشعري ولا شئ سواه، ونحن وسط اختلاط الأوراق بين الدربكة السياسية والتكالب من أجل الاستحواذ على أموال مصدرها فاسد وغير شريف، لنميز بين حالتين من الفرح، احدهما رث وموبوء، ذلك هو الجري وراء الجموح الفظ نحو الطمع الفاسد، وبين فرح النقاء الإنساني حين يمتلك الشاعر رصيدا لا ثمن له، ذلك هو كنز الإبداع وما يحتكم عليه من خزائن دائمة هي أسمى من الثراء العابر. وتلك هي المفارقة الغريبة في الحالة العراقية الراهنة، مثلما هي موزعة على جغرافيا الإبداع العربي بحالات متفاوتة.

الآن يمكن لمعطفي ارتداء جسدي

لماذا الشاعر يختار هذه اللحظة لارتداء معطفه ذلك بسبب:

الهذيان في الشارع

المكتظ بالمسامير... (مسامير الوقت) ص3

الصورة الشعرية هنا تشي بالكثير من المعاني لما تحمل من متناقضات قد تشكل محنة للشاعر وما يعانيه من محاصرة لا يعرف خلاصا لها.

أصرخُ أيها الضيم

أغرِق كل شئ

إلا تلك الجنازة المرمية

عند رصيفها العاري   (الرصيف العاري) ص4

ينقل لنا الشاعر بقراءة شعرية ممضة، المشهد العراقي المرير حين ضاقت بالناس حتى الأرصفة وهي عارية ولا من ملاذ من وطأة الضيم الذي راح يعشعش في تفاصيل حياة البشر المنكوبين.

ألا يجد معي القارئ إلى أي مدى تتحول حياة الشاعر إلى جزء من الخراب الشامل ليتحول إلى إرث لا فكاك من عذاباته القاتلة.

كيف سأرتدي ثيابي

الدموع التي عهدناها غرقت

الغسيل جف...

شاخص يحدق منذ يوم الرصاص

الأوز هجر السطوح

حرث طريق المؤانسة    (نهاية) ص19

كيف لشاعر أن يتعامل مع اللحظة الشعرية فائقة التوحد مع المكان والزمان ودواخل الشاعر بغليانها وفورتها وهو في هذه التفاصيل من المحو التي تترصده كبقية أبناء جلدته؟ أليست تلك حالة تبدو ضربا من المستحيل لإنتاج نص يتحرر الشاعر من سطوته حين يسطره على البياض ليعود جزءا من المؤانسة العذبة وهو حبيس قدره اللعين ومخالب الموت له بالمرصاد؟

تختفي الخطوات في الضباب

تتلاشى واهية

الأحاسيس تفر مذعورة

من ردم مرافئ الحنين  (غرقى الدموع) ص53

لا نجد في كل النصوص تباشير فرح أو حالة من المداعبات التي ترطب لحظة القراءة بانسياب رومانسي تحرر القارئ من سوداوية اللحظة إلى معايشة أكثر بهاء وتحررا من هذا الدمس الغالب على النصوص، وهذا أمر له ما يبرره حين نشخص الوجع الذي عاد سمة لصيقة بالعراقي حتى نسى الفرح، فماذا إذن عن الشاعر الذي يلتقط الحالات اليومية بمجسات شديدة الإحساس بالمعايشة لهكذا حالات مريرة.

 

لماذا الرصيف العاري؟

خطاب مفتوح لكل من تابع كوارث العراق ومحن الناس والضيم الذي بات جزءا من تفاصيل وجودهم، ولا نقول الوجود الإنساني لأننا بهذا التوصيف نكون قد شوهنا حقيقة العذابات المريرة كسمة لوجود المخلوق العراقي، الذي نستغرب كل هذا الإصرار في التشبث بالحياة رغم الزلازل التي محقت به طيلة العقود الأربعة الأخيرة وما زال في ذات المواجع يواصل العيش بإصرار مذهل.

من هنا اختار شاعرنا الدراجي هذا العنوان للديوان كتعبير يشي بحقيقة ما يعانيه العراقي، درجة أنه لم يجد حتى الأرصفة العارية لتؤويه من شتاته وضياعه المتواصل، وهنا تكمن فطنة الشاعر في محايثة الحالة العراقية لتوثيقها بهم حقيقي، لأنه لا يملك من أسلحة بممكناته غير نقاء الكلمة وبهاء الموقف الإنساني والانحياز للمظلومين من بني جلدته.

وكديدنه في ديوانيه السابقين:

1-                                    حينما أستنجد بالوهم

2-                                    موائد الرماد

ينحو الشاعر ذات الخطى في رسم مواجعه الشعرية ليؤسس له مسارا قد يغاير العديد من مجايليه، وقد يلتقي مع آخرين ولعمري أن الشعراء بهذه التركيبة الشعرية التي تسعى لأن تتكامل مع التجارب التي سبقتها وتنهل منها باعتبارها مدارس شعرية لها دربتها وعالمها ووضعها الاعتباري الوازن حتى للمشهد الشعري العربي برمته، ونجد أن من الضروري والمهم أن يشذب الشعراء الشباب تجربتهم من الكثير من الهنات الشعرية التي نجدها مقحمة هنا وهناك، مما يضعف رصانة العمل لتجاوز الهفوات بالإكثار من القراءات الشعرية لرواد لهم من التجربة واللغة والخيال والتوظيف المعجمي والتناول  والحبكة الشعرية ما يجعلهم يتحصنون كثيرا من بعض الشطط والنشاز الذي نلحظه في نصوصهم بين الفينة والأخرى.

إننا في الوقت الذي نحس بأن الشعر العراقي لا زال بخير ولا خوف من حصول هبوط في مستواه أبدا، بل نجد أن الشعراء الشباب يجتهدون وبرؤى شعرية أغنت كثيرا التجربة العراقية وأضافت الكثير من خلال ظهور أسماء لها اعتبارها  الإبداعي الثر والمفرح وبمواهب مذهلة، نتمنى أن يظلوا في التجربة الشعرية العراقية المميزة ويبتعدون عن التشتت الشعري الذي نلحظه هو الطاغي في تجارب شبابية في الوطن العربي، حيث من الصعب أن تميز عائدية النص، ومكان إنتمائه، والمشهد الذي يحرث فيه إبداعه.

في حين أن من سمات الشعر العراقي التعرف عليه دونما الإطلاع على مبدعه من خلال كونه من ذات المنهل الشعري بمعجميته، وتوظيفاته، وتفرده، ونفًسه، وطغيان التمكن الإبداعي الذي يغاير إلى حدود كبيرة بقية التجارب العربية الأخرى.

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2093 الثلاثاء  17 / 04 / 2012)

*كاتب وشاعر عراقي مقيم في المغرب

  

في المثقف اليوم