قضايا وآراء

فصام العقل واضطراب الاجترار في "النقد" السياسي / عامر صالح

أن من ابرز المعضلات التي يعاني منها المسرح السياسي العراقي الآن تنعكس في ظاهرة التطرف في حوار ومحاكاة الآخر"المعارض"، وهو مؤشر خطير لانعدام ثقافة النقد، التي أصبحت مظهرا مميزا للساحة السياسية العراقية، أفرادا وجماعات وأحزاب، حيث لازالت مشاعر وسلوكيات إلغاء الآخر وأزاحته أو تسقيطه منهجا في الممارسة اليومية، وكثيرا ما يأخذ هذا الإقصاء شكلا دمويا وطابع التصفيات الجسدية، وقد راح ضحيته مئات الألوف من المواطنين الأبرياء ومئات من المناضلين الأبرار. ويعكس ذلك أرثا ثقيلا نتيجة لعملية تراكم طويلة الأمد انعدمت فيها التربية الذهنية والمعرفية والاجتماعية المواتية للإصغاء إلى الآخر بوسائل سلمية وحضارية، ومن جانب آخر ترتبط بالأزمة العامة التي تعيشها الديمقراطية في البلاد، والتي تعتبر من أبرز التحديات التي تواجهها.

 

ويتشكل النقد في مستوى التجربة الفردية من شعور الفرد بالإحباط عندما يخفق في تحقيق هدف من أهدافه. وارتباطا بحالة الوعي التي ترافق عملية الإخفاق، فقد يلجأ الفرد إلى ما يسمى بالإسقاط في علم النفس، وهو أن ينسب الفرد ما في نفسه من عيوب وصفات غير مرغوبة وإخفاقات إلى غيره من الناس ويلصقها بهم،وبالتالي يحمل أناس آخرين مسؤولية إخفاقه ولا يحملها لنفسه،على الرغم من أن ذلك اعترافا لاشعوريا على النفس أكثر منه اتهاما للغير، أو اللجوء إلى آليات أخرى كالعدوان أو التبرير المشوه.ولكن بإمكان التربية والتنشئة الاجتماعية الملائمة أن تنتح لنا أناس قادرين على ممارسة النقد الذاتي البناء، ألا أنها في مجتمعنا لا تزال إمكانيات شحيحة جدا بفعل التقاليد" العريقة" في قمع حرية التعبير.

 

أما النقد في المستوى السياسي من قبل أحزابا لسياستها، وأن كان في بعض الأحيان يستمد مسحته العامة من ذات البيئة التي يعمل فيها الحزب أو السياسي المنتمى له، ألا أنه في الأحزاب العريقة وذات التأريخ فأن النقد يفترض أن يستند على معايير عملية تتعلق بتقويم ونقد الأفعال والخطط السياسية ونتائجها(على سبيل المثال،هناك خطة سياسية موضوعة لمرحلة ما وبسقف زمني للإنجاز، تعقبها عملية تنفيذ،ثم تقويم، ثم خطة جديدة تستفيد من نجاحات وإخفاقات الخطة التي سبقتها، وهكذا).وهناك أيضا معايير أخلاقية، أي منظومة أخلاقية محددة ذات طبيعة تربوية تحدد آلية النقد،وهذه المعايير الأخلاقية في النقد تعني أن يبنى النقد على معايير غير ذاتية، تجعله قابلا للتقويم.أما النقد غير الموضوعي فهو على العكس، ينبني على معايير متغيرة وفقا للمصلحة الذاتية وللأمزجة الشخصية، بحيث لا يكون النقد منسجما ولا منضبطا في أطار يجعلنا نستطيع الحكم عليه بالصواب والخطأ، وهذا النوع الأخير من النقد والمنفلت خارج أطار السياق الأخلاقي والتربوي هو الذي يتعرض له اليوم الحزب الشيوعي العراقي، ويستغرب المرء من شراسته، وكأن الديمقراطية وحرية الرأي وجدت اليوم فقط لشن الهجمات عليه، والأسوأ من ذلك أن نرى" النقد" من أناس كانوا في صفوفه وكأنهم يقومون بالتكفير عن الانتماء السابق له والتخلص من "عقدة الذنب" التي تلاحقهم...وهؤلاء تربوا طويلا في صفوفه ومحيت أميتهم الأبجدية والحضارية فيه، وتعرفوا على قيمة الكتاب من خلاله، وتسلحوا بأنماط سلوكيه إيجابية،كانت محط أنظار وإعجاب وأحترم البيئة المحيطة بهم.وهؤلاء من الذين كان دفاعهم بالأمس عن الحزب يثير الدهشة والاستغراب!!!، بل ويثير السخرية أحيانا!!!، إلا أن ظاهرة النكوص والتقهقر والردة إلى مستوى غير ناضج من السلوك تبدو ممكنة وخاصة عندما يتعرض الفرد إلى موقف محبط!!!.

 

أن  حرية الفكر والانتماء تسبح اليوم في فضاء لا حدود له(وخاصة في العراق)ويستطيع الفرد أن ينتمي إلى أي فكر يشاء والى أي عقيدة يرغب بعيدا عن التشبث وحملات التشهير وأخذ الثأر، وبالإمكان حتى تأسيس أحزابا، وهي فرصة ذهبية لحالات" التفريغ الانفعالي" للمكنونات والمكبوتات اللاشعورية، كما يقول فرويد، وإرضاء للذات على نسق ما يكتب صاحبه في الصحافة...ويبقى الإنسان حافظا للعهد بهذا القدر أو ذاك ...وهي أفضل بكثير من حالة استخدام العتاد المعرفي الذي حصل عليه المعني من الحزب واستخدامه للهجوم عليه. أن المعارف الفكرية والعقلية يجب أن تطابق صيرورة الممارسة وإلا ما هو الفارق بين سلامة العقل وفصامه، سواء أن الأخير يعيش في عالمه الخاص منعزلا بأوهامه وخيالاته المريضة، مقطوع الصلة بعالم الواقع،لا يرى غير عالم من صنعه مليء بمختلف الهلاوس والهذاءات والاضطرابات في التفكير ومحتواه، وأن تحدث صاحبه فيتحدث "بسلاطة الكلام"،غارقا بأحلام اليقظة وسوء التوافق مع الأخر.أنها حالات من بارانويا هزيمة العقل.

 

ومن جانب آخر يمكن القول هنا أن القلق من النقد السياسي البناء هو قلق غير مشروع جملة وتفصيلا، إذ تبدو أهمية النقد الذاتي في كونه احد الأسباب الرئيسية لتقدم الأداء السياسي. وأن تشخيص الأخطاء وتقويمها هو مطلب ضروري لإصلاح فعالية الأداء السياسي، وليست السلطات الحكومية وحدها من تحتاج إلى ممارسة النقد البناء، وإنما كل مؤسسة وشخصية وحزبا لا يستقيم أمرها ألا عبر تفعيل آلية النقد والمحاسبة، ثم التقويم، ومن قناعة أساسها  أن النقد دافعا ومحفزا وليس مانعا للعمل.

 

وأن فكرة الحزب"الأب" أو "الإلهة"هي فكرة يجب اجتثاثها لأنها مصدر أساسي لتجذير الهيمنة والاستحواذ داخل الكيانات السياسية،عدا ذلك كونها تتعارض مع الطبيعة الإنسانية التي تمارس النقد وهو جزء من مكونها الأساسي. وعندما تقمع هذه الآلية فأنها لا يعني قد صفيت، بل قد تدخل في أطار ما يسمى بعلم النفس بتحوير الدافع، وقد تعود إلى الظهور بشدة مرة ثانية وقد تكون ناقلة ليست للنقد البناء بل للتشويهات والتخريب والمبالغات، وهي وسائل فصامية في التعبير عن النقد.وهذا ما نراه اليوم من حملات إعلامية ضد الحزب الشيوعي العراقي وهي غير مبررة بقدر عدم انسجامها مع آداب وأخلاق إدارة الصراع الفكري والسياسي، ولكنها تعبر في أحد وجوهها عن إفرازات بعيدة المدى لحالات مجيء النقد الذاتي البناء في بعض الأحيان متأخرا من قبل الحزب.

 

أن الحزب هو فلسفة"عقل" وفكر ثم ممارسة سياسية، وبالتالي لا يخاف على الحزب من حالات الضعف والتصدع أحيانا،لأنه يمتلك "عقل" ممكن أن يقود إلى العمل السياسي باتجاهات مختلفة ومنفتحة تنسجم مع ظروف الحياة المتغيرة ومع إمكانياته الواقعية، فليست لديه القدرة أو القناعة السياسية على الاستعانة بقوة من خارج ميدان السياسة كمرجعية حاسمة في الأزمات، كما هو في حالات اللجوء إلى المرجعيات الدينية من قبل أحزاب الإسلام السياسي للاستعانة بها عند الهزائم، أو إلى أية قوى أخرى تمتلك التأثير على الناس لشراء ذممها وارتهان قوتها اليومي، والعبث بصدق عواطفها ورموزها الدينية والضغط عليها لمبايعة ذوي العمائم الصفراء والاسلاموين وانتزاع الاعترافات والتزكيات المسبقة منها، أو استخدام المناسبات الدينية وغير الدينية في الجوامع والمساجد والدوائر الرسمية وفي الاجتماعات الحزبية للقوى المتأسلمة للهجوم على الحزب الشيوعي العراقي وعلى قوى اليسار بصورة عامة، وهي مناسبات عقيمة لزرع الكراهية وأحياء للشعار السيئ الصيت " الشيوعية كفر والحاد " الذي مات في عقر داره. ومن العبث بقيم الديمقراطية والسلم الاجتماعي والحرية السياسية أن تتباهى هذه القوى السياسية ـ الدينية المتأسلمة بأن ابرز انجازاتها التاريخية منذ لحظات تأسيسها هو محاربة الشيوعية وقوى اليسار، ومن الأجدر أن تتباهى في انجازاتها على صعيد ترسيخ الديمقراطية السياسية ومحاربة العنف والإرهاب والشوفينية والعنصرية والتعصب الطائفي والفساد بكل مظاهره وتحسين ظروف العيش الكريم، وعندها يحق لها الإعلان عن معاداة اليسار العراقي إذا كان الأخير عائقا أمام تحسين ظروف الحياة العامة !!!!.

 

وفي هذه الأجواء التي لا صلة لها بالديمقراطية تمارس عمليات" الانتقاد" التي في الواقع ليست نقدا، بل هي استراتيجيات حصار وعزل وإقصاء وتفكيك، وهي ترتقي إلى مستوى السباب والشتائم أكثر منه إلى الحد الأدنى من النقد وحتى غير البناء، وهي في أحسن الأحوال تنتمي إلى هذاءات مرضية ذات صبغة سياسية، تعبر عن حالات غير معلنة من الإفلاس السياسي وتدني الهيبة الاجتماعية والتي تقوم على خلفية التدهور القيمى ـ الشخصي والضعف المتواصل للمكانة الروحية والدينية لمن لا يريد إلى العراق وأهله خيرا !!!!!.

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2093 الثلاثاء  17 / 04 / 2012)


في المثقف اليوم