قضايا وآراء

الله والإنسان في فلسفة الجيلي / ميثم الجنابي

من هنا فكرته عن أن تنزيه الذات الإلهية يعني إنفراد القديم بأوصافه وأسمائه وذاته كما تستحقه من نفسه لنفسه بطريق الأصالة والتعالي. بمعنى فردانيته واستقلاله التام بنفسه لنفسه كما هو. وهي صيغة مجردة عن المطلق. لهذا وضعها الجيلي في تحديده لفكرة الذات بوصفها عبارة عن "الوجد المطلق". والمقصود بذلك سقوط الاعتبارات والإضافات والنسب والأوجه الحسية والعقلية لا على "أنها خارجة عن الوجود المطلق، بل على أن جميع تلك الاعتبارات وما إليها من جملة الوجود المطلق". فهي "في الوجود المطلق لا بنفسها ولا باعتبارها، بل هي عين ما هو عليه الوجود المطلق". ووضع هذه الفكرة بصورة شعرية تقول:

 

كالشمس تبدو فيخفي وصف أنجمها   نفي، ولكن لها في الحكم إثبات

 

وشأن كل صفة مجردة للمطلق لها نموذجها التاريخي الملموس، أي تنوع وجودها ووحدتها. من هنا قول الجيلي، بأن مقصد كلامه عن أن التنزيه للحق وليس للمخلوق فيه نصيب، هو انه "ليس للوجه المسمى بذلك الاسم من الذات لا أنه ليس للذات". ذلك يعني أن التنزيه هنا أو التعالي المطلق هو الصيغة المجردة لهذا الاسم أو ذاك من الذات وليس للذات كما هي. وذلك لأن وجود الذات وفعلها وصفاتها يفترض تجليها الملموس. فهو أسلوب "تكاملها" بوصفه أسلوب تجليها الذاتي. ووضع الجيلي هذه الفكرة في عبارته القائلة، بأن "الذات جامعة لوجهي الحق والخلق. فللحق منه ما يستحقه الحق، وللخلق منها ما يستحقه الخلق، على بقاء كل وجه في مرتبته بما تقتضيه ذاته من غير ما امتزاج. فإذا ظهر أحد الوجهين في الوجه الآخر كان كل من الحكمين موجودا في الآخر".

بعبارة أخرى، إن تجريد الله من الأوصاف وجعله متساميا بذاته لا يتعارض مع حقيقة احتوائه على وجهي الحق (الوصف الأبدي للمطلق) والخلق (النعت التاريخي للموجودات). والإنسان من الموجودات، فهو التجلي التاريخي للحق بالمعنى المجرد، كما يعكس في نماذجه الملموسة إمكانية ومستوى مقابلته للحق. من هنا لا يعني استحقاق كل منهما لما فيه، وإمكانية ظهور أحدهما في الآخر، سوى النسبة المحسوسة والمعقولة لإمكانية وجود أحدهما في الآخر.

فكما أن الوجود هو نسبة محسوسة ومعقولة للحق، فإن الحق في المخلوقات (الإنسان) هو أيضا نسبة، تجعل من وجود أحدهما في الآخر حكما لوجودهما، انطلاقا من أن لكل منهما ما يستحقه في الوجود من الذات. ولا يعني ذلك في منظومة الجيلي سوى جوهرية النسبة في الوجود التي تجعل من كل شيء حقا بالقدر الذي تتناسب أوزانه الداخلية مع معنى وجوده وصور تجليه. من هنا فكرة الجيلي عن ماهية "التشبيه الإلهي". حيث وجد فيه مجرد عبارة عن "صورة الجمال، لأن الجمال الإلهي له معان وهي الأسماء والأوصاف الإلهية، وله صور وهي تجليات تلك المعاني فيما يقع عليه من المحسوس والمعقول". ذلك يعني أن النسبة المحسوسة والمعقولة للمطلق تظهر بصورة الجميل. وهي صورة مدركة بالحس ومفهومة بالعقل. فهما يدركان صور تجليات المعنى القائم في الأسماء والأفعال والصفات الإلهية، بوصفها علاقة جوهرية بالنسبة لإحساس الإنسان وعقله في إدراك معنى حقائق الوجود المطلق.

ففي مستوى تجلي الأفعال ينبغي أن يصل الإنسان إلى إدراك أن معنى تجلي الحق في الأفعال يقوم في رؤية جريان القدرة (الإلهية) في الأشياء فيرى الحق فيها. بمعنى رؤية المبدأ الواحد في الوجود، وبالتالي وحدته. وهو حال علمي وعملي (معرفي وأخلاقي) وضعه الجيلي في فكرته عن الواحدية، عندما اعتبرها "مجلى ظهور الذات فيها صفة والصفة فيها ذات. فبهذا الاعتبار ظهر كل من الأوصاف في عين الآخر. فالمنتقم فيها عين الله، والله عين المنتقم، والمنتقم عين المنعم. وكذلك إذا ظهرت الواحدية في النعمة نفسها والنقمة عينها، كانت النعمة التي هي عبارة عن الرحمة عين النقمة التي هي عبارة عن عين العذاب كل هذا باعتبار ظهور الذات في الصفات، وفي آثارها، وفي كل شيء مما ظهر فيه الذات بحكم الواحدية هو عين الآخر، ولكن باعتبار التجلي الواحدي لا باعتبار إعطاء كل ذي حق حقه، وذلك هو التجلي الذاتي".

وفي مستوى تجلي الأسماء ينبغي أن يصل الإنسان إلى الاصطلام تحت أنوارها. بمعنى التدرج في نظام السموّ الروحي والمعرفي، بحيث تصبح الأسماء الإلهية أصداء الروح الفعال في الوجود، أو يصبح الروح الفعال صداها الإنساني، أي التجلي الملموس والدائم لما دعاه الجيلي بظهور أحد الوجهين في الوجه الآخر بحيث يصبح كل من الحكمين موجودا في الآخر. وهي عملية تبدأ، شأن كل وجود، بالموجود وتنتهي بالمطلق مرورا بتكامل الإنسان في ذات فردانية. من هنا قول الجيلي، بأن إدراك مشهد من تجليات الأسماء أن يتجلى الله للإنسان في أسمه الموجود فيطلق هذا الاسم على الإنسان، وأعلى منه تجليه له في الاسم الواحد، وأعلى منه تجليه له في اسمه الله.

يعكس هذا التدرج الصيغة الظاهرية للبداية والوسط والنهاية، أي للدورة الدائمة التي تتمثل منطق الأسماء الإلهية وحركة الإنسان من الملك (الطبيعة) إلى الملكوت (ما وراء الطبيعة) بالجبروت (الإرادة الإنسانية)، ومن الشريعة إلى الحقيقة بالطريقة. فهي الحركة التي تتمثل عوالم الطبيعة وما وراء الطبيعة في الإرادة المتسامية، كما أنها الحركة التي تتمثل قطع الأشواط الضرورية من شريعة الأمة إلى بلوغ الحقيقة المطلقة بطريق الاصطلام تحت أنوار الأسماء الإلهية، أي كل ما ينبغي أن يؤدي إلى أن يكون الإنسان كوكبا جامعا لحقائق الوجود.

إن تحول الإنسان إلى كون جامع لحقائق الوجود يفترض جمع صفات الله فيه وإعادة بناء ذاته على نموذج جمعها. فالصفات لا تتناهى في تفصيلها، متناهية في إجمالها. وليس التناهي في الإجمال هنا سوى الصيغة المتعالية والنموذجية التي بلورتها الرؤية الإسلامية في مختلف مدارسها عن صفات الله، التي جمعت أبعاد الملك والملكوت والجبروت، أي الأبعاد الطبيعية والماوراطبيعية والإرادية في صيرورة الإنسان ومساعيه العلمية والعملية. إذ نعثر في الحياة والسمع والبصر على المكونات الطبيعية الجوهرية، وفي الإرادة والقدرة على جبروت الإنسان، وفي العلم على الأبعاد غير المتناهية (الماوراطبيعية) لوجوده. وحالما تحولت هذه الصفات إلى صفات المطلق، فإنها اكتست هيئة النموذج المتعالي والواقعي. وهو السبب الذي جعلها معلومة مجهولة، متناهية غير متناهية في منظومة الجيلي. فالصفات من حيث الإطلاق معلومة، بينما الذات أمر مجهول. فالإنسان على بينة من ذات الله، لكنه على غير بينة من الصفات. وبالتالي لا سبيل إلى إدراك غاية الصفة، كما يستنتج الجيلي. وهي علاقة تعكس النسبة المتبادلة بين العلم والعمل، مما يجعل منها آلية العمل الدائم والعلم الدائم. وكتب بهذا الصدد يقول، بأنه "إذا تجلت ذات الحق على الإنسان بصفة من صفاتها سبح الإنسان من فلك تلك الصفة إلى أن يبلغ حدها بطريق الإجمال لا بطريق التفصيل". فإذا سبح الإنسان "في فلك صفة واستكملها بحكم الإجمال استوى على عرش تلك الصفة فكان موصوفا بها. فحينئذ تتلقاه صفة أخرى. فلا يزال كذلك إلى أن يستكمل الصفات جميعا".

ولا يعني استكمال الصفات جميعا في الإجمال سوى المقدمة الضرورية للسير في طريق المطلق، أي السير صوب الذات المعلومة بوصفها الغاية النهائية، بينما السير صوبها لا متناه. وهي جدلية تجعل من وحدة العلم والعمل أسلوب التكامل غير المتناهي بينهما. لكنه تكامل متنوع فيما اسماه الجيلي بتجليات الصفات، التي هي عبارة عن قبول ذات الإنسان الاتصاف بصفات الحق قبولا حكميا قطعيا كما يقبل الموصوف الاتصاف بالصفة. من هنا تنوع تجليات الصفات على قدر قابلية أو استعداد المرء للاتصاف بها بحسب تلازم ومستوى وحدة العلم والعمل، أو وحدة "وضوح العلم وقوة العزم" كما يقول الجيلي.

وقد طبق الجيلي هذه الفكرة على نموذج الصفات الإلهية، التي بلورتها الثقافة الإسلامية باعتبارها صفات الحق (المطلق)، وهي صفة الحياة والعلم والسمع والكلام والإرادة والقدرة. وأضاف لها الجيلي صفة الرحمة، باعتبارها تتويجا أو توليفا تلقائيا لتجلي الصفات المذكورة أعلاه في الإنسان الكامل. واعتبر من تجلى له الحق بالصفة الحياتية يكون هو حياة العالم أجمعه بحيث "يرى سريان حياته في الموجودات جميعها جسمها وروحها ويعلم ذلك من نفسه من غير واسطة، بل ذوقا إلهيا كشفيا غيبيا عينيا". ومن تجلى له الحق بالصفة العلمية "يعلم ما فيه من سرّ الحياة". ومن تجلى له بصفة السمع "سمع بقوة أحدية تلك الصفة اختلاف اللغات وهمس الجمادات والنباتات". ومن تجلى له بصفة الكلام، فإنه يتكلم بقوة أحدية حياته بحيث تصبح "الموجودات من كلامه"، وحينئذ يشهد الحق "بكلامه أزلا كما هو عليه أبدا، إذ لا نفاذ لكلماته، بمعنى لا آخر لها". وتترامى في أحضان هذه الصفة استعدادات متنوعة يتطرق الجيلي إلى خمس منها، الأول وهو من "تناجيه الحقيقة الذاتية من نفسها"، والثاني "من يحادثه الحق على لسان الخلق"، والثالث "من يذهب به الحق من عالم الأجساد إلى عالم الأرواح"، والرابع "من ينادي بالغيوب فيشارك بالإخبار قبل وقوعها"، والخامس "من يطلب الكرامات فيكرمه الله". ومن يتجلى له الحق بالصفة الإرادية، فإنه عادة ما تنكسر زجاجة قلبه. ومنهم من يتجلى له الحق بصفة القدرة "فتكون الأشياء بقدرته في العالم الغيبي وكان على أنموذج ما في العالم العيني". وأخيرا من تجلى له الحق بالصفة الرحمانية بحيث ينصب له "عرش الربوبية فيستوي عليه ويوضع له كرسي الاقتدار تحت قدميه فتسري رحمته في الموجودات". ومن خصائص هذا التجلي الأخير أن الإنسان يبلغ المقام والحال الذي يعطي له إمكانية أن "يصّوب آراء جميع أهل الملل والنحل" وأن "يخطئ آراء أهل الملل والنحل حتى يخطئ المسلمين والمؤمنين والمحسنين والعارفين ولا يصوب إلا رأي المحققين الكمل لا غير"، وأن "لا يمكنه النفي ولا يمكنه الإثبات ولا يقول بالوصف ولا بالذات ولا يلوي على الاسم ولا يجنح إلى الرسم".

لم يقصد الجيلي من وراء استعراضه تجليات الصفات الإلهية في الإنسان صياغة رؤية هرمية للسلوك، بقدر ما أنها تمثل الحركة الطبيعية للسير صوب بلوغ درجة الإنسان الكامل. فالإنسان الطبيعي أيضا يحيا ثم يأخذ بالتعلم ثم يسمع ويتكلم ويريد ويقدر. وهي عملية تشكل في طريق الصوفي درجات ما دعاه الجيلي بالسباحة في فلك الصفات من اجل الاستواء على عروشها.

فلكل صفة عرش، أي لكل صفة ذروة، يمكن من خلالها تأمل ما جرى وما سيجري. وتتغلغل هذه المفارقة في المساعي الحرة صوب المطلق. وفيها يكتشف المرء مستوى تجلي الحقيقة فيه، ومستوى انعكاسها في أعماقه، واستظهارها في إبداعه. فتجلي صفة الحياة يفترض منه بلوغ حال أن يكون هو نفسه "حياة العالم بأجمعه".

ولا يعني ذلك سوى أن يتحسس الحياة في كل شيء، بل وكل شيء حياته من حيوان ونبات وجماد، بحيث "يرى سريان حياته في الموجودات جميعها جسمها وروحها"، كما يقول الجيلي. وحالما يدرك المرء هذه الدرجة، فإنه سيعلم آنذاك "سرّ الحياة" فيه. إذ ليس سرّ الحياة سوى سريانه في كل وجود. ومن يدرك هذه الدرجة يسمع حينئذ موسيقى الحياة وأسرارها في أصوات الوجود المتنوعة من لغات الناس والأمم وهمس الجمادات والنباتات. وقد جعلت هذه الدرجة الجيلي نفسه يقول عن نفسه، بأنه في هذا التجلي سمع "علم الرحمانية من الرحمن" فتعلم "قراءة القرآن"، بحيث أصبح هو "الرطل وكان الميزان". وهو الحال، الذي يرتقي به إلى مصاف الرحمة الأبدية، بوصفها النسبة الحية للاعتدال في كل فعل. إذ لا يعني انه (الجيلي) كان "الرطل وكان الميزان(القرآن) " سوى الصيغة الشعرية لتعادل الأنا والمطلق. كما لا يعني "كنت الرطل وكان الميزان" سوى أن القرآن على قدر ما في الإنسان، كما أن ما في الإنسان على قدر ما في القرآن. والمقصود بالقرآن هنا ليس فقط كتاب المسلمين، بل وكتاب الوجود وحروف المطلق. ومن ثم لا يعني سماع ما فيه سوى سمع النسبة الحية بين الوجود والمطلق. وعند بلوغ هذه الدرجة يرتقي المرء إلى مصاف التجلي الإلهي في صفة الكلام. عندها يسمعها على أنها كلمات الوجود. فكما أنه يسمع همس الجمادات والنباتات، فإنه يسمع كلمات الوجود في مختلف أشكاله وأنواعه وأجناسه، أي أن الجميع تخاطبه في خطاب لا تتناهى معانيه بسبب عدم تناهي الموجودات. وهو حال تتنوع فيه درجات العارفين. منهم من تناجيه الحقيقة الذاتية من نفسه كما لو أنها وحي وإلهام. ومنهم من يحادثه الحق على لسان الخلق بحيث يسمع الحقيقة من أفواه الموجودات، انطلاقا من أن لكل وجود لسان يخاطب به الإنسان على قدر ما فيه. ومنهم من يذهب به الحق عن عالم الأجسام إلى عالم الأرواح، بمعنى الانتقال من الظاهر إلى الباطن، ومن العابر إلى الدائم، ومن المتغير إلى الثابت، ومن الملموس إلى المجرد، ومن الحقيقة إلى الرمز، باختصار من المحدود إلى غير المحدود ومن المتناهي إلى غير المتناهي. وتعبرّ هذه الحالة عن فاعلية وحركية الاستقرار أو حالة القلق في اليقين، التي تجعل المرء يتسامى في مجرى إدراكه الوحدة في الوجود. وقد وصفها الجيلي على مثال أولئك الذين ارتقوا إلى "سدرة المنتهى"؛ فمنهم من قيل له: "حبيبي! أنيتك هي هويتي، وأنت عين هو، وما هو إلا أنا! حبيبي! بساطتك تركيبي وكثرتك واحدتي، بل تركيبك بساطتي وجهلك درايتي! أنا المراد بك! أنا لك لا لي! أنت المراد بي! أنت لي لا لك! حبيبي! أنت نقطة عليها دائرة الوجود، فكنت أنت العابد فيها والمعبود! أنت النور! أنت الظهور! أنت الحسن والزين كالعين للإنسان والإنسان للعين!"؛ ومنهم من ينادى بالغيوب فيشارك بالإخبار قبل وقوعها، أي أولئك الذين همهّم المستقبل ورؤية آفاقه. فهم أصحاب الرؤية الحكيمة والنظر الثاقب والحدس الرفيع؛ ومنهم من يطلب الكرامات فيكرمه الله، أي من يبلغ درجة الكمال في الكلام، لان الكلام إبداع. وفيه تظهر الموجودات وحياتها وأصواتها.

ومن يرتقي إلى مصاف هذه الصفات في إرادته وقدرته فانه يأخذ بالتحكم بعالم الغيب، بحيث يصبح ما في العالم العيني على أنموذجه كما يقول الجيلي. حينذاك تصبح الأشياء والظاهر في عالمنا نتاجا لما أراده فقط، أي تصبح أشكال الوجود متحددة برؤيته.

ويتطابق بلوغ هذه الصفات جميعا في منظومة الجيلي مع ما اسماه بالتجلي الذاتي، أي عندما تصبح الذات الإنسانية تجليا لذات الحق، وتصبح صفاتها صفاته من حيث النموذج والفعل. حينذاك تتكامل صفاته بهيئة رحمة شاملة للوجود، دعاها الجيلي "بسريان رحمته في الموجودات". ويتجلى ذلك في موقفه المتسامي والنقدي والتوليفي من المعتقدات والآراء والأحكام جميعا. بمعنى خروجه من التقليد والسير في طريق الحق، بوصفه طريق الإبداع الشامل للأنا المتكاملة بمعايير المطلق. من هنا إمكانية تصويبه جميع أهل الملل والنحل وتخطئتهم جميعا أو الكف عن النفي والإثبات. بعبارة أخرى، انه يتقبل التجارب الدينية والفلسفية للأفراد والجماعات والأمم ويتسامى عليها في نفس الوقت. لأنه لا معيار له وعليه غير معيار الحق. وليس هذا المعيار بدوره سوى منطق الحقيقة المطلقة، الذي يجعل من التجلي الذاتي للصفات الإنسانية تجليا وحدانيا.

حينذاك تصبح صفات الحق المعيار الدائم للفعل الإنساني. ومن ثم أسلوب ارتقاء الصفات الإنسانية إلى مصاف الصفات المطلقة للحق. فهي الدورة الثانية، غير المتناهية والباطنية لاستظهار المطلق في صفاته الجوهرية التي بلورتها التقاليد الإسلامية الكلامية والفلسفية عن صفات الله. فإذا كان وجود الشيء لنفسه هو حياته التامة، كما هو الحال عند الله، ووجود الشيء لغيره هو حياة إضافية، كما هو الحال عند الإنسان، فإن الإنسان الكامل هو ارتقاء من الثانية إلى الأولى، كما يقول الجيلي. وهو موقف مبني على أسس الرؤية الفلسفية الصوفية للجيلي، التي تنطلق من أن الإنسان بذاته، بوصفه كيانا حيا هو حيوان لا غير، انطلاقا من أن "حياة الله في الخلق واحدة". ذلك يعني انه لا فرق جوهري بين حياة الإنسان وحياة كل كيان حي من حيث هو حياة. وذلك لأن الحياة شاملة للجميع، بمعنى أن المقام فيها هو وجودها وحياتها، وذلك لأن الحياة "جوهر فرد موجود لنفسه"، انطلاقا من "شيئية الشيء هي حياته، وهو حياة الله التي قامت الأشياء بها". بعبارة أخرى، إن وجود الأشياء هو حياتها، وحياتها هو حياة الله، ومن ثم فإن الأشياء كلها حية تحيا بحياتها الخاصة، التي هي بدورها جزء من الكلّ. من هنا فكرة الجيلي، عن أن لكل "شيء من الأشياء وجود في نفسه لنفسه وحياة تامة بها ينطق وبها يتكلم وبها يسمع ويبصر ويقدر ويريد ويدور ويفعل ما يشاء". وبالتالي، فإن لكل حياة مستواها الخاص بها، التي تتجلى بها صفات الله ووجوده من كلام وعقل وسمع وبصر وقدرة وإرادة، وذلك لأن حياة الموجودات هي حياة الله التي قامت الأشياء بها.

 ***

The article is supported by the Russian State Fund No. 10-03-00411-?.


 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2097 السبت  21 / 04 / 2012)


في المثقف اليوم