قضايا وآراء

جدلية الثقافة والإعلام / جابر مسلماني

نظرا للموقع الذي بات يحتله في سياق الحراك الثقافي والسياسي للإنسان المعاصر، كما انه من الواضح خروجه من سياق المُعقّب على الاحداث وسياقات الواقع الى أن يكون مؤسّسا ومنظّرا وجزءا من صناعة الفكرة والقرار وواقع الانسان.

­­­­­­­­مع التدفق الواسع والنوعي لوسائل الاتصال ووسائطه فقد حاز الاعلام على مجمل الآليات التي تتوجه مهيمنا على الإجتماع الثقافي والمعرفي والسياسي، وصولا الى مركزته المطلقة ليكون ممرا اجباريا لمجمل الحراك الإنساني ، ما يكشف عن التداخل الكبير بين البنيتين الثقافية والاعلامية للمجتمعات فبمقدار ما تعلو البُنى والمضامين  الثقافية والفكرية لأي مجتمعٍ ينعكس اعلامه وبمقدار ما تنخفض تلك المضامين يتراءى الاعلام بقدرها وهزالتها وشحها، دون أن يؤدي ذلك الى اعتقال الاعلام وترويض شراسة حراكه وفاعليته وتأثيره .

 إن ما صنعته العولمة انها أخرجت ثقافات الشعوب الكونية الى أفق الرؤيا، نتاجات الشعوب وانجازاتها ورؤاها وانماط تفكيرها بات مُشرعة أمام المارة، يمكن للإنسان في أي مكان من العالم أن يحيط بها ويطّلع عليها بلا جهد يُذكر، إلا أن ذلك لا يجعل منه تلقائيا وبمجرد الاطلاع على ثقافة الاخرين جزءا من تكوينها وتشكلها، بمعنى أن الانجازات الفكرية والحضارية للآخرين لا يمكن استنساخها والاستيطان في عماراتها بمجرد الاطلاع عليها ومحاكاتها، هي عبارة عن عصارة آلام المجتمعات المنتجة لها وصيرورتها على طريق معبّد بآلاف الانتظارات والخيبات حتى وصلت وتوصّل إجتماعها اليها .

كثير من علامات الاستفهام وُضعت أمام توقعات العولمة واستشعارات تردداتها ومآلاتها، وضعتها الشعوب واصحاب الثقافات المنفعلة بها، ووضع الاستفهامات والعُقد الوقائية والاستباقية على الجبين مهنتها الاحترافية، قيل بأن العولمة ستدمر الخصوصيات الثقافية ومحمولات الذاكرة التاريخية للشعوب المُتلقية وستجعل من العالم مكان واحدا منبسطا يحدد حراكه القابضون على زمام القوة في سدة هرم العالم وسينتظم مواطنو العالم في طابور الارادة الاقتصادية العليا عائذين ولائذين من فشل تجاربهم الخاصة وعقم ثقافاتهم أو مثقفيهم عن انتاج ما توصل اليه العقل الفعال من علوم وثقافات ووسائط وتكنولوجيا معرفية ومعاقل صناعية بات الانسان معها متربعا على عرش القوة والنفوذ بلا حدود.

إن تأميم السلع والمنتجات الصناعية ووصولها الى متناول كل يدٍ يؤدي الى تداولها المباشر وبلا مساءلة وتشقق في الباطن الجمعي للشعوب، اللهم الا من سؤال النجاح والفشل واسباب الركود والنهضة هنا دون هناك ما يُحيل الى القراءة النقدية للثقافات المؤسسة والفاعلة، اسئلة مثَلت طويلا ومكثت مديدا على جدارية اسئلة النهوض ومساءلة القوى الفاعلة والممثلات الرسمية للأجوبة التاريخية المتكلسة والمستعادة بتكرارية لا تمل دون أن تقدّم حلا أو تروي عطش سؤال متعدد الاماكن والمنطلقات ويحوز على المشروعية العقلانية .

في إطار تعميم الثقافات وتأميمها يكمن المأزق الراهن، لقد تفجرت الصراعات مع الذات والآخر، بدا أن هنا تقعرات واضحة في الأفكار الذاتية وتبعثرات عميقة وتضاريس ناتئة، والتماعات هناك صبت جام أناقتها وصخبها العقلاني على أمكنة جيوب تارخية مصابة بداء المراوحة وارتال المديح، وفائض شعر تم تدبيجه وترصيعه كبدل عن انجازات ضائعة في شكل الانسان ومضمونه، وعمليات تجميل فاشلة لخراب كبير ينخر ما تبقى من أطلال على أرض الابداعات القديمة وإجتماعها القدري بإمتياز عكسي .

إن تأميم الثقافة الكونية وبسطها على مساحة الجغرافيا الكونية بمقدار ما خدم المجتمعات البعيدة عن المنشأ، ووضع بالقرب من أياديها مفاتيح الرقي والحضارة المعاصرة، وضع في متناولها أيضا أدوات الانحطاط،  فالوسائط والوسائل التقنية المرتكزة على سيكيولوجيا اجتماعية وثقافية مستقرة تتقدم بإجتماعها الى الامام وبسرعة كبيرة في جدلية رائعة بين الثقافة وانماط التفكير وتجلياته وبين الاعلام على سبيل المثال، حينها يصبح الاعلام ناقدا بناءا ومرشدا موضوعيا يساعد على ترقية الاجتماع والصعود به في عملية تماه وارتقاء مزدوج يصب نتاجه في إطار تكاملي مجتمعي واحد .

إن المشهد الاجتماعي العربي ثقافيا واجتماعيا لا يزال في صراع مع الذات المنشطرة الى ابعاد مقيمة ووافدة، لم يعرف القرار ولا الاستقرار، وقد ارتفع بمجمله الى فضاء الاعلام، مجتمعات متباينة في أفكارها وتحديد معضلاتها يجمعها وجود المشكل على اختلاف دوائره وتجلياته، ووسائل الاعلام وتقنياتها لم تجُسر الفجوة بين الواقع والطموحات، استعمالها لا يحيد عن دفتر شروط الحياة القبلية وطرائق تفكيرها وأشباح أودية  عقولها المعاصرة.

ان الصخب الذي نسمعه بإحتمال مضنٍ على شاشات التلفزة، والمصارعة غير الحرة التي تتحول اليها بعض البرامج الحوارية وتوظيفات الاعلام في مساندة الافكار الظلامية والارهابية، وظواهر ومظاهر الانحطاط الاخلاقي والابتذال الذي يشمئز منه حتى الشيطان والكثير الكثير من الافلام ومحطات التسطيح العقلي والثقافي  لهي تجليات واضحة لانعكاس بعض انماط ثقافتنا العربية على الاعلام .

الثقافة والتحضر والمعاصرة بُنيات تحتية للكائن الانساني، الوسائل تبقى وسائل تعكس مضامينها ومحمولاتها، مع الاعتراف على المدى البعيد بتأثيرها وتشكيلها للعقل الانساني المتلقي ولكن من خلال أمكنة أخرى ومنطلقات أخرى وبتفاعل عسير  ويحتاج ذلك لرؤيته على قيد الحضور والكينونة الى اجيال غيرنا نحن من نعيش في عين العاصفة الثقافية والتقنية الكونية. 

 

الشيخ جابر مسلماني

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2099 الأثنين  23 / 04 / 2012)

في المثقف اليوم