قضايا وآراء

تزاوج الفن والدين في الفكر الرافديني القديم / حكمت مهدي جبار

غير اننا نبتعد قليلا عن الجانب الفلسفي فيما يخص الفن والدين وأشكالية العلاقة فيما بينهما وهو بتأكيد موضوع آخر.اذ أن مقالتنا هذه تتضمن قراءة في علاقة الفن بالدين في الفكر العراقي القديم ودور الفنان في تأسيس فكرة الألوهية والعبادة من خلال المنجز التشكيلي عبر مراحله التأريخية الضاربة في القدم.

وقبل الخوض في ألأبداع التشكيلي الرافديني وخاصة فيا يتعلق بفن النحت نشير الى أن مجالات الفن العراقي القديم  والدين قد تمثلت في أن ألأنسان آنذاك تناول الدين كفعل أنساني للبحث في وجوده عبر علاقته بالأشياء المخفية وتناول الفن كجانب عملي وتطبيقي لفكرة الدين من خلال أعادة تشكيل وتنظيم الأشياء الخام بل وتجميلها بمقتضى ما يتطلب الأمر الديني.

ومثلما (1) يكون الدين هو نزوع لتأمين وحدة الأنسان الداخلية ووحدته مع افراد جماعته ومع القوى الخفية المتعالية عليه وعليها .وتلك العملية تحتاج الى تجسيد مادي لها . فالفن كما مر ذكره هو تفعيل لذلك النزوع ألديني ولطقوسه وشعائره وتقاليده.

لقد كانت العلاقة بين الفن والدين في فكر الأنسان العراقي القديم عميقة جدا كما هو في بعض الثقافات والحضارات المجاورة الأخرى.فقد توطدت العلاقة بين الفنان العراقي القديم والدين قبل آلاف السنين.فكانا كفكرتين أنسانيتين خطيريتين يتجاوبان ويتشبكان لدرجة أنهما يجعلان من الصعوبة بمكان الفصل بين أصولهما، والتخيل لأمكان وجود أحدهما بمعزل عن ألآخر.

كان الفنان الرافديني يعبر عما يختلج بنفسه من خلال البحث عن معنى لحياته وذلك من خلال تجسيد تلك الأختلاجات والمعتقدات بالفن التشكيلي فضلا عن انواع فنون أخرى كالرقص والتراتيل والغناء .ولأنه كأنسان مبدع كان دوما في مواجهة قوية مع الطبيعة، فراح يؤول ويفسر كل ما تعكسه الطبيعة وتولده الحياة من مظاهر وعلامات وأشارات أذهلته وأخافته وأرقته.فتراه يلجأ الى محاكاتها متأملا مفكرا حائرا عاصرا ذهنه وخياله لكي يفسر ما يرى.ونتيجة لتلك الأرهاصات تفجرت لديه القدرة الأبداعية في فن التشكيل لاسيما النحت وفن الرقص والغناء وغيرها من الفنون.

فقام بأعادة صنع الأشياء والأشكال وتمثلها ونقلها عن الواقع معبرا عن حاجاته وتطلعاته .وهو بذلك يحاول الخلاص من (قدرية) محيطه .فصنع التماثيل بمختلف أشكالها وحز على الصخور وجدران المعابد وعلى أجزاء ادوات العمل .

وهكذا نجح المبدع الرافديني بخلط فكرة الدين بالفن في البحث الواحد عن معنى وجوده.من خلالا السعي الحثيث لألتقاء الفكرتين بأهمية واحدة بما هو خفي ويمكن تجليه .فعندما كان الفنان يتأمل في قبة السماء باحثا عن قيم جمالية قد لايدركها الا بما كان ذهنه على مستوى من التفسير والتعليل الفني الجمالي فأنه بنفس الوقت يبدو متجليا مفكرا في عظمة الخلق وأحتمالات وجود خالق عظيم وهنا يدخل في تجربة دينية عميقة أشترك فيها الوعي الفني والديني.

لقد تمكن الفنان الرافديني من خلال منجزه التشكيلي من أن يعكس العالم الألهي وهو يتأمل وعي وجوده والأواصر التي تربط أشياء عالمه المنظور بالمخفي، وهوبذلك يؤكد مقولة ان مثلما الدين يغتذي من من رموز فأن الفن هو كذلك يدعو للتأمل ويحاكي الرموز.ويظهر ومن خلال ولوج عالم التشكيل الرافديني  القديم وتأملاته ومحاولة تفسيره وتحليله نجد جدل العلاقة بين الفن والدين.

فمنذ طفولة الوعي الديني نجد أن أهل الدين كانوا وهم يمارسون الطقوس بأشكالها انما كانوا كما هو الفنان يعبرون فنيا عن قدسياتهم التي كانوا يعتقدون بها وفق حجم وعيهم، بل كانوا يكلفون الفنان ليعبر لهم أو عنهم في طقس معين.ليس فقط في التشكيل فيما يخص صناعة تماثيل الآلهة والتي تعبد وتقدس بطريقة وأخرى والتي ترمز للظواهر الحياتية والطبيعية، انما في فن الرقص والتراتيل والغناء والشعر والتعازيم وحتى بعض انواع السحر.

كانت مهمة الفن التشكيلي الرافديني عبر تمرحلاته المتعاقبة هي السعي الحثيث لكيفية تجسيد فكرة (الألوهية) على المادة الخام كالطين أو الحجر .لذلك قدس الأنسان الرافديني الفن كمنجز يعبر عن شكلين للوعي الديني والأجتماعي رغم هيمنة التفسير الأسطوري للحياة.فكان النحات ينظر الى قطعته الفنية كمنفذ لولوج عالم الحقيقة نحو الخلاص من غضب الطبيعة ومجاهيلها ومحاولة أستكناه اسرار ها عبر تشكيل (رمز الهي) يطمئن اليه.لذلك يمكننا القول ان الفنان الرافديني سعى لرسم صورة ألأله عبر التمثال نحتا مجسما او بارزا أو غائرا أو على الأختام الأسطوانية أو على سطوح الأواني وأدوات العمل أو على مقابض الخناجر والسكاكين والسيوف أو واجهات المعابد .

وقد أعطى الفنان الرافديني لتلك الأعمال الفنية المرمزة أسماءً بل وحتى صلاحيات .وكان ينظر لها كأسلوب حياتي مهم يعبر عن ثقافة ذلك العصر.فصار الفن بشكل عام (2)ليس الا أسلوب حياة وأسلوب حياة الأنسان، عبارة عن عمليتي اتعكاس وخلق لا ينفصمان بعضهما عن بعض).وبتلك الجدلية التي تأسست عليها فكرتي الحياة والموت والأله والخالق دعت الفنان الرافديني لأيجاد معادل نفسي ذاتي أجتماعي لكي يطمئن على حقيقة وجوده .والدليل على ذلك نجد ان الفنان التشكيلي السومري مثلا لم ينجز فنا ليعبر عن أشكال مادية انما ليجسد أفكارا معظمها يدور حول فكرة الخالق .فبدت السمة الكهنوتية التعبدية واضحة على التمثال السومري ومثله الأكدي والبابلي والآشوري.

ثم ان الفنان الرافديني كان يبحث في اجزاء الشكل الذي يروم تنفيذه فنيا حتى يصل الى قناعة أن هذا الشكل هو شكل الأله الذي يريده ويعتقد فيه ويراه، حيث كان الأله بنظره هو (3) ذلك المخلوق الجبار المتحكم بالكون، فيجب ان يكون الشكل مبالغ فيه يتجاوز الحدود ابشرية. أو هو الذي يمنح الخصب والحياة والديمومة .وهذا مانراه في المبالغة بتماثيل (الآلهة الأم) التي جسدت فكرة الخصوبة والتنعم بالحياة من خلال تأكيدات الفنان على ألأشكال المتكورة والمحدبة (4) في الجسد الأنثوي .فنجد أن تماثيل النساء العارية تبدو مكتنزة و(سمينة) هي دلالات تشعر الأنسان بالشبق الجنسي الطافح بالخصب والتكاثر والنماء رغم صغر تلك التماثيل.فصارت السمنة (قيم

جمالية) من خلال بروز النهدين المتكورين وأكتناز الردفين وأمتلاء الفخذين، حتى تبدو المرأة كتلة من اللحم الطري والملمس الناعم المثير.

 

......................

1- معجم المصطلحات الدينية –  د. خليل أحمد خليل – دار الفكر اللبناني

4 – 1995..

2-  أ.د.زهير صاحب ـ مقال بعنوان (أشكالية المنهج في قراءة الفنون السومرية).

3- معجم المصطلحات الفلسفي المختصر – دار التقدم – موسكو – 1986

4-مجلة فنون عربية – العدد الأول – 1981

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2101 الاربعاء  25 / 04 / 2012)

في المثقف اليوم