قضايا وآراء

الخطاب الفكري للمنحوتات الفخارية النسوية الحلفية .. (الألف الخامس قبل الميلاد)

مُحققاً بفعل الخبرة والمراس في الكشف عن ضرورة إيجاد معادلة من التوازن تحقق استمرارية وجوده، إزاء تحكم القوى الغيبية المؤثر في مفردات حياتهِ . وإزاء هذا الفهم المتناهي بحركة الظواهر، والمستند إلى تعاظم الخبرة القائمة على التجريب، في القدرة على التصنيف والتحليل والتحديد ومعرفة (كُنه) الأشياء . كانت الضرورة ملحّة، في توظيف مظاهر الأشياء بأتجاه مطامح الوعي الأجتماعي، جاهداً إلى تكييف عالمهِ المعاش، لأسترضاء وإستعطاف عالم من القوى والأرواح، التي لها اليد الطولى في التحكم بأهم مظاهر حياتهِ، ألا وهي ظاهرة تكاثر الجنس البشري . والتي تتجسد في عدد من الشعائر والطقوس والممارسات السحرية، والمشفوعة بعدد من الفعاليات التي تمّت بصلة أو بأخرى بالمعتقدات الدينية، وقد كان لها أهمية عظمى في ماهية تفكيره .

 

فوجد الفكر في مجمل الظاهر الجسماني للمرأة ـ خطاب الجسد ـ وخصوصياتهِ الفيزيائية والتعبيرية، رمزاً صار ينشد فيه أفكار ترتبط بما وراء الظاهر المرئي . فاكتسبت مثل هذه الأشكال الأنثوية الرمزية مضامين روحية في نوعية تفكير الجماعات الزراعية (الحَلفية)، وبتفعيّل ذلك طقوسياً تجلّت الهيئة البشرية ليس بكونها محض شكل طبيعي، وإنما على أنها تمثيل الروحي وتعبيره . فوجد الفكر فيها وسيلة لتحقيق خاصية الإيحاء بالمضامين الفكرية الناشطة في تركيبة الوسط الحضاري .

 

ولعل أهم ما يميز التماثيل الفخارية (النسوية) من دور حلف، هو وحدة الأسلوب، وذلك بصدد الأوضاع الحركية للتماثيل الفخارية، وخصوصيات الخامات التقنية، والسمات الفنية التي تميز الأشكال . ومَرّد ذلك يكمن في تشابه الأفكار والتقاليد الفنية، بفعل الاحتكاك الحضاري الناشط بين مستوطنات هذه الفترة، وكذلك نضج وشيوع الممارسات والشعائر والطقوس المرتبطة بمضامين هذه الأشكال التعبيرية 

 823-ath

وإزاء قلق مجتمع عصر حلف السايكولوجي، وجهله بماهيات تصرف قوى الوجود الماورائية . لابد أن تنبثق فعاليات طقوسية وشعائر وممارسات إجتماعية، تتضمن الأعتقاد بالقوى والتأثيرات والأفعال، لتؤدي فعلها في إستعطاف قوى الأرواح الغيبية . والعملية برمتها تقوم على طقس سحري يستند إلى معتقدات ترتبط بمضامين تداعي الأفكار الكامنة في أعماق شعائر السحر التشاكلي، لتفعيّل حالات الحمل والتوالد لدى النسوة . وذلك لأن حركات النسوة قوى مثيرة للأنتباه، وفعل ينطوي على تعبير، وذلك جزء من عملية عقلية واعية، تهدف إلى خلق صيرورة جديدة للواقع، تكون كفيلة بأن تسقط عليه طابعاً، يجعل منه موجوداً حياً تشيع فيه الروح . ومثل هذه (الصيحات) المتعالية من المشهد على أصوات الطبول، هي تعبير عن حاجة الإنسان، إلى الوعي بعالميه الداخلي والخارجي على السواء، فكانت تعكس له ذاته وفعله، ليرى نفسه من خلالها، محاولاً أن يدرك ماهية عالمه الخارجي بشكلهِ المتبدل، بتأثير من موقفهِ الذاتي إزاءه، فحقق بذلك مُعادلاً تماثلياً لعواطفهِ وأفكارهِ .

 

وفي مجتمع عجزت فيه الوسائل عن إجابة الأهداف، لابد للإنسانية أن تؤسس عوالمها الأسطورية المتخيلة، فالأسطورة هي التي تكسب القوى الماورائية هيمنتها اللا محدودة، وهي التي تعلن عن قدسية المكان (المعبد)، وهي التي تستدعي أيضاً تلك الأرواح من عوالمها الغيبية، إلى حضورها الأراضي حين يستدعيها طقس العبادة . وفي مثل هذه الأمكنة المقدسة، تم اكتشاف معظم نماذج هذه التماثيل (النذرية)، ذلك أنها كانت بمثابة البدائل الرمزية، الدائمة الحضور في محراب المقدس، لتؤكد نيلها القادم قبل حدوثهِ . في تكثير الأيدي العاملة في الحقول، ونيل الحصاد الناجح للمحصول الغذائي . إنه (الجدل) بين إرهاص ينبعث من الذات والظروف الموضوعية، فمثل هذه (النذور) ترمي في آن معاً، إلى عرض ذاتها في خصوصياتها، والى الإبلاغ عن مدلول عام، ليس هو الممثل وحده، بل كل ما يرتبط به من دلالات في الحاجات الأجتماعية . إنها فعلاً (تقول) ما لا يمكن قوله . إنها أشكالاً أسطورية في اللون والطعم والرائحة .

 

فعندما يَتبدّى (الكوني) أمام الإنسان بشكل تساؤلات، فأن شكلاً ما يَتوّلد، وهذا الشكل نسميه أسطورة. وبما أن الأسطورة هي تكثيف وإختصار للكوني، فأنها تشكل أساساً مهماً من أسس تطور الفكر الإنساني . فمثل هذه الخطابات الرمزية ـ التماثيل ـ تجد تربتها الخصبة عادة في الأساطير، بالخيال الخصب والمتعالي في إبتكار أشكال مثل هذه الكائنات، والتي لا نجد لها مثيلاً في شوارع (الأربجية) وأزقتها الضيقة. ذلك أنها كائنات من إبداع بنية لاشعورية، تتصل بالمغيبات وعوالم الأحلام والهلوسة، ومع ذلك فأنها تعني ببساطة ما تقول، وتخفي في (مَلمح) آخر معنى حقيقياً تحت معناها الظاهر، إنها بمثابة أثر علاجي في اللاتي آمَّن بها من النسوة الحَلفيات، فهي تفسّر للحائرات منهن ما يجري في لاوعيهن، وبما يبقيّهن متماسكات .

 

ومن جهة أخرى، فان هذه المنظومات الشكلية، على الرغم من إقتصاديتها اللغوية، فإنها (تخبّئ) قدرة تكاثرية، يمكنها الظهور في المستويين الدلالي والشكلي . ولعل هذا يفسر تحول أسطوريتها إلى ملحمة في داخلية كل (مواطنة) حَلفية، فالأشياء أكثر تعقيداً وغرابة مما هي عليه في الواقع .

 

وخلاصة القول فان هذه التماثيل النسوية الحَلفية، ترتبط في وظيفتها بجوهر المفاهيم والأعراف الأجتماعية، فهي بمثابة خطاب فكري (تداولي) بين الأفراد، كان يؤدي فعله بمثابة أداة تواصل، عن طريق ضرب من التناغم التعاطفي والوجداني، وقد وجد صداه بشكل تمثلات ذهنية ثابتة . ذلك أن مثل الطقوس والممارسات والشعائر الأجتماعية، كانت تؤدي دورها في تفعيل آليات تثبيت الخبرة الأجتماعية، لدى كل امرأة في المجتمع الحَلفي . الأمر الذي قاد إلى (توليد) عالم تؤلفهُ الرموز والكلمات والمصطلحات ذوات الفهم الأجتماعي الواسع النطاق .

 

أ. د. زهير صاحب

كلية الفنون الجميلة – بغداد

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2101 الاربعاء  25 / 04 / 2012)

في المثقف اليوم