قضايا وآراء

المثال المطلق للصيرورة الإنسانية الكاملة عند الجيلي / ميثم الجنابي

كانت ترمي إلى تأسيس فكرة المثال المطلق في تجانس الوجود، او رفع الحياة إلى مصاف "الوجود الحقيقي". وهي حياة لا يمكن بلوغها إلا في حالة الارتقاء من مستوى الوجود الطبيعي إلى مستوى الوجود الماوراطبيعي، أي من مستوى الوجود الحيواني إلى مستوى الوجود الإنساني الكامل. ومن الممكن بلوغ هذه الغاية في حال تذليل البقاء في حيز الحيوانية أو شيئية الأشياء. ويستحيل بلوغ ذلك دون معرفة الإنسان ما هو عليه الإنسان. إذ لا يعني أن الله خلق آدم (الإنسان المجرد) على صورته سوى أن "الإنسان نسخة من صفة من صفات الرحمن. فيوجد في الإنسان كل ما نسب إلى الرحمن، حتى انك تحكم للمحال بالوجوب بواسطة الإنسان". وبما أن الإرادة هي صفة تجلي العلم، وإن إرادة الله هي "تخصيصه لمعلوماته بالوجود على حسب ما اقتضاه علمه" من هنا استنتاج الجيلي، بأن الإرادة الموجودة عند الإنسان هي عين إرادة الحق. وذلك لأن الإنسان نفسه هو مرآة الحق وصورة تجليه في الوجود. كما أنه "الكنز الذي أظهره الحق"، أي حصيلة ما عنده. وهي الفكرة التي وضعها الجيلي شعرا:

 

ظهر الجمال بها من الكنز الذي      قد كان في التعريف كالنكرات

فـبدت محاسـنه على أعطـــــافه      وهــــو الخـليفة صـورة الجلوات

ظـهروا به، وبهم ظهور جمالــه       كــــــل لكــل مظــهر الحــسنات

فبدت محاسنه بنا وبدت محاسننا       بـــــــــــه مـن غيـر مــا إثبــات

وبـنا تسـمى، بـل تســــــــمـينا به      كـــــــــل لكــل نســـخة الآيــات

لولا إرادته التـعرف لـم يــــــــكن     للــــــكنز إبـــــــراز مـن الخفيات.

 

لقد أراد الجيلي القول، بأن جمال الوجود الإلهي في العلم هو إرادة الخلق، ومن ثم فإن وجود الإنسان وحياته وفعله هو "نقود" الكنز الإلهي، التي بها يفعل ما يشاء، حسب لغة الرأسمال القبيحة! فالكنز (الإنسان)، الذي كان فكرة في التعريف، أي مجهولا في العبارة، يصبح صورة تتجلى فيها محاسن الحق، بعد أن أصبح خليفته في الوجود. حينذاك ظهر فيه جمال الحق، وهو مظهره. من هنا كان كل منهما مظهر الحسنات. الله يظهر جماله في الإنسان، والإنسان مظهر جمال الله. من هنا ظهورنا المتبادل من دون أن يكون كل منا إثبات للآخر. وذلك لأن وجودنا واحد. بهذا المعنى يكون الإنسان إرادة الله. انه يتمثل حقيقة الإرادة الإلهية، شأنه شأن تمثله للصفات الأخرى. فكلام الله من حيث الإجمال هو تجلي علمه، باعتبار إظهاره إياه سواء كانت كلماته نفس الأعيان الموجودة أو كانت المعاني التي يفهمها الناس أما بطريق الوحي أو بطريق المكالمة وما شابه ذلك.

ليست كلمات الله، حسب منطق الجيلي، سوى وجود الأشياء سواء كانت هذه الموجودات أشياء أو معان، مادة أو روحا. فالكلمة ليست حروفا، بقدر ما هي وجود. ووجود الأشياء كلمات. ووضع الجيلي فلسفته بهذا الصدد على أساس أن كلام الله على جهتين، الأولى هو الكلام الصادر من مقام العزة، بمعنى أن كلّ الكون في طاعة الله، ومن ثم فإن حركة الأشياء الداخلية ومظاهر وجودها هو طاعة لمبدأ الحياة الذي وضعه العلم الإلهي أو الكلام الصادر من مقام الربوبية، الذي يعادل فكرة الاختيار. فالإنسان من حيث وجوده الطبيعي (الحياة كما هي) في طاعة مستمرة للوجود، وفي اختياره مخير لكي يصبح الجزاء في المعصية بالعذاب عدلا، ويكون الثواب في الطاعة فضلا، كما يقول الجيلي. أما على الجهة الثانية، فإنه الكلام الذي يعادل مضمون "أعيان الممكنات"، أي ذات الممكن في الوجود. والممكنات هي كلمات من كلمات الحق. ومن ثم فهي لا تتناهى وكلها حق.

والشيء نفسه يمكن قوله عن السمع والبصر. إذ لا يعني السمع الإلهي عند الجيلي، سوى "تجلي الحق بطريق إفادته من العلوم، لأنه يعلم كل ما يسمعه قبل أن يسمعه". بعبارة أخرى، ليس السمع سوى العلم المتجسد في منطق وجود الأشياء، ومنطقها أحوالها. أما البصر فهو أيضا عبارة عن "ذات الحق باعتبار مشهوده من المعلومات. فعلمه عبارة عن ذاته باعتبار مبدأ علمه، لأنه بذاته يعلم وبذاته يبصر ولا تعدد في ذاته. فمحل علمه محل عينه. فهما صفتان وإن كانا في الحقيقة شيئا واحدا. فليس المراد ببصره إلا تجلي علمه في هذا المشهد العياني. وليس المراد بعلمه إلا الإدراك بنظره له في العالم العيني. فهو يرى ذاته بذاته ويرى مخلوقاته أيضا بذاته. فرؤياه لذاته عين رؤياه لمخلوقاته". ووضع الجيلي هذه المقدمة في أساس الوحدة المنطقية والجوهرية لوجود الإنسان والله، من خلال إبراز ما اسماه بنسخة الإنسان الكاملة للحق. وكتب بهذا الصدد يقول "سبحان من جعل الإنسان نسخة له كاملة. ولو نظرت إلى نفسك ووقفت لوجدت لكل صفة من نسخة في نفسك. فانظر هويتك نسخة أي شيء؟ وأنيتك نسخة أي شيء؟ وروحك نسخة أي شيء؟ وصورتك نسخة أي شيء؟ وانظر إلى وهمك العجيب نسخة أي شيء؟ وبصرك وحافظتك وسمعك وعلمك وحياتك وقدرتك وكلامك وإرادتك وقلبك وقالبك، كل شيء منك نسخة أي شيء من كماله وصورة أي حسن من جماله؟".

تهدف منظومة الجيلي بصدد الصفات الإلهية إلى تأسيس فكرة الانتقال من وجود الأشياء إلى وعيها الذاتي، باعتباره الطريق الضروري لتكامل صفات الإنسان في ذات حقيقية على مثال الحق (المطلق). وعبّر عنها بضرورة أن يعرف الإنسان انه نسخة كاملة للحق، وأن يتحقق منه في مجرى إدراك هويته وأنيته وروحه وصورته وخياله وبصره وسمعه وبصره وحياته وقدرته وكلامه وقدرته وقلبه وقالبه على مثال الحق. ثم الارتقاء من ذلك إلى مصاف المقام الواعي، الذي يجعل من كمال الحق نسخة (أنموذجا) لمساعيه، وجماله صورة (أنموذجا) لحسنه.

ولا يعني جعل الحق نسخة لمساعيه وجماله صورة لحسنه سوى تحويله إلى مثال وأنموذج أعلى. غير أن هذا النموذج في منظومة الجيلي ليس كيانا خارجيا مستقلا بذاته، بقدر ما ينبع تلقائيا من الاستعداد الذاتي للإنسان. ويستمد هذه الاستعداد مقوماته من نظرية الجيلي في الخلق. فالخلق، حسب نظرية الجيلي، هو الوجه الآخر للحق، وكلاهما وصفان للأبد. والأبد هو الوجه الآخر للأزل، وكلاهما عرضا للجوهر الفرد. والجوهر الفرد هو توليف لعناصر العظمة والعلم والقوة والحكمة وأمثالها في عناصر النار والماء والهواء والتراب. ذلك يعني أن الإنسان يحتوي في ذاته من حيث مكوناته الملكية (الطبيعية) النار والماء والهواء والتراب، والملكوتية (الماوراطبيعية) العظمة والعلم والقوة والحكمة، على وحدة لا تنفصم عراها يولد امتزاجهما لهيب جبروته الذاتي. من هنا اعتبار الجيلي الوجود وحدة للخلق والحق. والإنسان باعتبار ظاهره هو خلق، وباعتبار باطنه هو حق. وعندما قام بتأويل سورة (الفاتحة)، فإنه وجد في دلالتها إشارة إلى ما اسماه "بالهيكل الإنساني الذي فتح الله به أقفال الوجود. وذلك لأن الإنسان ولو أنه خلق لكن حقيقته حق". بعبارة أخرى، إن الإنسان باعتباره مخلوقا (خلق) هو الوجه الآخر للحق (الله). وذلك لأنه يحتوي في وجوده على وحدة الأزل والأبد، ومن ثم فيه فتح الله أقفال الوجود، أي أسراره. من هنا أيضا قول الجيلي، بأن "وراء كل إشارات الشرائع وعباراتها مقصود واحد هو الإنسان".

فقد جمع الإنسان في ذاته وحدة المادي والروحي، الملك والملكوت، الطبيعي والماوراطبيعي، الصورة والمعنى، الجمال والجلال. من هنا فكرة الجيلي عن أن الإنسان هو روح وجسد. والروح معناه والجسد صورته. وفيهما تتجلى وحدة المكونات الملكية والملكوتية (المذكورة أعلاه). وهي ثنائية ممزوجة بذات الإنسان وصفاته، تجد صورتها التامة في علاقة الإنسان بالله، وكمالها في وحدتهما، كما تجد أنموذجها الكامل في الله وفي الإنسان الكامل.

انطلق الجيلي في رؤيته لعلاقة الله والإنسان في مستواها الوجودي من وجود الإنسان "التاريخي" كما صورته الرؤية الإسلامية عن الخلق والإبعاد. فالله خلق الإنسان وأبعده، كما يقول الجيلي. ووجد الجيلي في هذه العلاقة حكمة يقوم معناها في أنها تعطي لنا إمكانية رؤيته عن قرب وبعد. وهو تقييم وضعه في مخاطبة تقول: "أنزلته على قانون الحكمة الإلهية، وأمليته على نمط ميزان المدركة البشرية ليسهل تناوله من قريب وبعيد ويمكن تحصيله للقريب والشريد". وليس المقصود بقانون الحكمة الإلهية سوى حكمة وجود الأشياء بالحق، لأن اختلالها يؤدي إلى اختلال الوجود وهدمه. وهي علاقة وضعها الجيلي في رؤيته عن تجانس الوجود وترتيبه بين الأزل والأبد. فوجود المخلوقات جميعا عين وجود الحق، لأنها تحتوي في ذاتها على وحدة عناصر الملك (النار والماء والهواء والتراب) والملكوت (العظمة والعلم والقوة والحكمة). وتكون هذه العناصر الجوهر الفرد، وله عرضان وهما الأزل والأبد. وللأبد (الوجود) وصفان هما الحق والخلق. وللخلق (وجود الحق المتشيئ) نعتان هما القدم والحدث (الله والإنسان)، ولهما وجهان الظاهر والباطن (الدنيا والآخرة)، وحكمان (وجوب وإمكان) واعتباران (أن يكون لنفسه مفقودا ولغيره موجودا، أو أن يكون لغيره موجودا ولنفسه مفقودا) ومعرفتان (وجوبيته أولا وسلبيته ثانيا، وسلبيته أولا ووجوبيته ثانيا).

إننا نعثر في هذا الترتيب المتجانس عن علاقة الخلق بالحق، بوصفها الصيغة المجردة عن علاقة الله والإنسان، على تأسيس لوحدتهما في الكلّ. وبالتالي ترابط وجودهما. مما يؤدي إلى فكرة مفادها أن نفي الله يعني نفي الإنسان، كما أن نفي الإنسان يعني نفي الله. وبغض النظر عن تنوع صور هذه العلاقة، إلا أنها تعبر عن حقيقة واحدة وضعها الجيلي في فكرة "الإنسان الكامل".

ففي مرتبة (مستوى) الهوية تصبح هوية الحق عين الإنسان. إذ لا يعني قول الله: "قل هو الله أحد" سوى "قل يا محمد هو (الإنسان) الله أحد"، أي قل يا محمد أن الله والإنسان واحد. وفي علاقتهما تتجلى دورة الوجود والارتقاء. إذ الأمر في الإنسان دوري بين أنه مخلوق وأنه على صورة الرحمن، كما يقول الجيلي. وبالتالي، فإن الله هو "حق متصور في صور خليقته، أو خلق متحقق بمعاني الإلهية". وإذا كانت الإلهية حسب رؤية الجيلي، هي جميع حقائق الوجود وحفظها، فإن الحق والخلق هما حقائق الوجود. فهما الوجهان المتقابلان الدائران في فلك الإلوهية. وذلك لأن الإلوهية "تجمع الضدين من القديم والحديث، والحق والخلق، والوجود والعدم، فيظهر فيها الواجب مستحيلا بعد ظهوره واجبا، ويظهر فيها المستحيل واجبا بعد ظهوره فيها مستحيلا، ويظهر الحق فيها بصورة الخلق مثل قوله (رأيت ربي فيها في صورة شاب أمرد)، ويظهر الخلق بصورة الحق مثل قوله (خلق آدم على صورته). وعلى هذا التضاد، فإنها تعطي كل شيء شملته من هذه الحقائق حقها".

وفي مرتبة (مستوى) الرحمانية تتجلى علاقة الله والإنسان على نسبة علاقة الحق بالخلق. فإذا كانت نسبة المرتبة الرحمانية إلى الإلوهية كنسبة سكر النبات إلى القصب، فإن العالم (الإنسان) هو أول رحمة إلهية، لأن الله خلق العالم (الإنسان) من نفسه. وبما أن الحق هو هيولي العالم، لهذا كان العالم مثل الثلج والله هو الماء الذي هو أصل هذا الثلج، كما يقول الجيلي. كل ذلك يكوّن مضمون "قانون الحكمة الإلهية" في الوجود. أما ميزان أو منطق إدراكها البشري، فهو أن يدرك الإنسان، بأنه ليس هناك من تجل للحق في الأكوان أتم من الإنسان، وذلك لأن الإنسان نفسه هو مظهر تجلي الحق.

إن إدراك هذه العلاقة والتحقق بها يؤدي بالإنسان إلى بلوغ درجة الكمال. وهي فكرة وضعها الجيلي في فلسفة مكثفة يمكن دعوتها بالصيغة النموذجية للعلاقة بين الإنسان والله، بوصفها النموذج الممكن والمعقول والواجب في طريق الوصول للكمال. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن العارف إذا "تحقق بحقيقة كان سمعه وبصره ولا يخفي عليه شيء من الموجودات".  ووضع هذه المقدمة في مخاطبته الإنسان بعبارة:"ثم لا يصح نفيه مطلقا، لأن بانتفائه تنتفي أنت إذ هو أنموذجك. وكيف يصح انتفاؤك وأنت موجود وأثر صفاتك غير مفقود؟ ولا يصح أيضا إثباته لأنك إذا أثبته اتخذته صنما فضيعت بذلك مغنما. وكيف يصح إثبات المفقود؟ أم كيف يتفق نفيه وهو أنت الموجود؟ وقد خلقك الله على صورته حيا عليما قادرا مريدا سميعا بصيرا وتكلما لا تستطيع دفع شيء من هذه الحقائق عنك لكونه خلقك على صورته وحلاّك بأوصافه وسماك بأسمائه. فهو الحي وأنت الحي، وهو العليم وأنت العليم، وهو المريد وأنت المريد، وهو القادر وأنت القادر، وهو السميع وأنت السميع، وهو البصير وأنت البصير، وهو المتكلم وأنت المتكلم، وهو الجامع وأنت الجامع، وهو الموجود وأنت الموجود. فله الربوبية ولك الربوبية بحكم كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، وله القدم ولك القدم باعتبار انك موجود في علمه، وعلمه ما فارقه مذ كان. فإنضاف إليك جميع ما له وإنضاف إليه جميع ما لك في هذا المشهد".

لقد جعل الجيلي من الإنسان مثلا وتجسيدا حيا لله. فهو يحوي في ذاته على صفات الله جميعا. وبالتالي، فإنه يستحيل نفيه وإفتاءه. فهو يحتوي في ذاته مطلق الوجود، وفيه الأزلية والأبدية، وذلك لأنه على "أنموذج الحق" بحكم وجوده، ويصبح إنسانا حقا، حقيقيا وكاملا في حال تكامله على "أنموذج الحق".

إن تكامل الإنسان على "أنموذج الحق" يجعل من هيكله الإنساني فردا كاملا وغوثا جامعا عليه يدور أمر الوجود ويكون له الركوع والسجود وبه يحفظ الله العالم، كما يقول الجيلي. ولا يعني ذلك سوى أن الإنسان قادر على تخطي الحدود أيا كانت ما زال المطلق هو مصدر وجوده وديمومته. وبالتالي، فإن نواحي الكمال لا تتناهى في أنموذجها، وهي المعبر عنها في تقاليد الإسلام بالمهدي والخاتم والخليفة، أي "الإنسان الكامل"، الذي تنجذب حقائق الموجودات إلى امتثال أمره انجذاب الحديد إلى حجر المغناطيس، ويقهر الكون بعظمته والفعل ما يشاء بقدرته فلا يحجب عنه شيء.

لم يسع الجيلي إلى جعل الإنسان إلها، ولكنه سعى إلى جعل الالوهة فيه امتدادا لرحمة الوجود. ومن ثم تحويله إلى أنموذج مطلق يسري في صيرورة التاريخ الإنساني، باعتباره "قطبا تدور عليه أفلاك الوجود". بعبارة أخرى، ليس "الإنسان الكامل" سوى الأنموذج المطلق للكمال الإنساني. ومن ثم فهو "خارج" التاريخ وداخله، لأنه يتمثل في ذاته وحدة الوجود والعدم على مثال الحق. من هنا فكرة الجيلي عن أن الإنسان الكامل هو "واحد مذ كان الوجود إلى أبد الآبدين". بمعنى أنه وجود وأنموذج مطلق للإنسان في كل مكان وزمان، والشيء الوحيد المتغير فيه هو "تنوعه في الملابس"، كما يقول الجيلي. ومن ثم فإن تنوعه في التاريخ يشكل سلسلة الكمال الإنساني أو حلقاته المترابطة. وبالتالي، فإن الكمل (الكاملون) في الناس كل منهم "نسخة للآخر" في سلسلة الوجود. وإذا كان الجيلي يطلق على "الإنسان الكامل الأصلي" أسم محمد، فلأنه مثال الوجود التاريخي للثقافة التي بلورت شخصية الجيلي وتراثه الصوفي. لهذا نراه يتكلم عما اسماه باجتماعه وإياه وهو بصورة شيخه شرف الدين إسماعيل الجبرتي بمنطقة زبيد عام 796 هجرية.

ولم يقصد الجيلي بذلك استعادة فكرة تناسخ الأرواح، وذلك لأن "الإنسان الكامل" في منظومته ليس استعادة للماضي، بقدر ما هي صيرورة دائمة لأنموذج. أنه ليس استعادة باهتة أو لامعة، كما أنه لا تكرار فيه. أنه يتمثل ويمثل العملية الذاتية لحقائق الوجود نفسها وصقلها الدائم. ومن ثم، فإنه تمثيل للفردية والفردانية الإنسانية في جبروتها الساعي لتوليف حقائق الملك (الطبيعة) والملكوت (ما وراء الطبيعة) في ذاته عبر جعلها مرآة تجليه الدائم. من هنا استنتاج الجيلي عن أن "محمدا بإمكانه أن يتصور بصورة في كل زمان بصورة أكملهم ليعلي شأنهم. فهم خلفاؤه في الظاهر وهو في الباطن حقيقتهم". أي أن ظهور الإنسان الكامل هو استمرار خلافته للحقيقة المحمدية، أي لفكرة الكمال المطلق. وبالتالي فإنه لا نهاية في ظهور "محمد"، أي لا حد محدود في التجديد الدائم والارتقاء الدائم للأفراد والجماعات والأمم. كما أنه لا صيغة واحدة وأنموذج واحد فيه. إن الوحدة في حقيقة الكمال، أما الكمال فإنه قابل للتصور بصورة لا تتناهى. والإنسان الكامل هو الكيان المتنوع في الصور. ومن ثم، فإن لكل مرحلة وتاريخ وشعب وأمة ودين ناسه الكاملين. ذلك يعني أن الإنسان الكامل يحمل في منظومة الجيلي طابعا كونيا، يستمد مقوماته مما فيه من "مقابلة الحقائق الوجودية والعلوية" كما يقول الجيلي.

***

The article is supported by the Russian State Fund No. 10-03-00411-?.

 

  

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2101 الاربعاء  25 / 04 / 2012)

في المثقف اليوم