قضايا وآراء

الفن الأكدي وأرساء قواعد المدرسة الواقعية في الفن القديم .. قراءة في منحوتة (باسطكي) الأكدية / حكمت مهدي جبار

وقد جاءت الواقعية على (1)(أثر التحول من (الرومانتيكية) الى اعتماد الوصف الموضوعي الدقيق والواضح للعالم المرئي) .وأن الواقعية تضع لها هدفا لايتمثل في محاكاة انجازات الماضي وانما في الوصف الصادق والدقيق للنماذج التي تقدمها الطبيعة والحياة التي يعيشها الفنان.وتقول فكرة الواقعية ان موضوعات الناس والنشاطات اليومية انما هي موضوعات جديرة بأهتمام الفنان..ولكن...كيف هو الأمر مع شعب عريق عاش قبل مايقارب الألفي سنة قبل الميلاد في بلاد الرافدين، حيث لم تكن هناك مفاهيم ومضامين ومسميات نقدية مختلفة؟ فها هم الأكديون الذين صنعوا أجمل صور الحياة فيما بين 2370- 2230ق.م في العراق القديم، يجسدون اعمق مفاهيم (الواقعية) في فن النحت.تلك التي لو أتيح فيها لـ (ألمثقف الأكدي) معرفة النقد الفني وشرح المضامين الأبداعية لكان قد سبق في وضع مصطلح الواقعية قبل نقاد الفن الحديث بآلاف السنين.وهو فعلا قد وضعها ولكنه وضعها عمليا ....

ورغم أن (2) (الفنان الأكدي) كان قد تتلمذ على يد (الفنان السومري) الذي اتسم بشيء من (التجريد) فأنه أي (الفنان الأكدي) قد صنع تماثيله الآدمية بأسلوب خال من المعاناة و(التجريد) السومري .نحو (واقعية) صارمة ورشيقة ودقيقة. وفي مقالنا هذا سنتناول واحدا من الآثار الفنية الرائعة التي تعود الى (الفترة الأكدية) والذي يعتبر نموذجا مذهلا لـ (ألواقعية في الفن التشكيلي) ماضيا وحاضرا.

التمثال لم يعرف له أسم. وعندما تناوله النقاد والأساتذة عرضا وشرحا ومحاولة للتفسير أكتفوا بتسميته بأسم المكان الذي وجد فيه.فيقول الأستاذ الفنان (3)(طارق مظلوم) أن التمثال وجد صدفة أثناء عملية حفر لتسوية الطريق بين منطقة (سميل) وناحية (العاصي) التابعة لقضاء زاخو في شمال العراق في آذار 1975.بينما يقول الأستاذ الدكتور زهير صاحب.بأن (4)هيئة الآثار العراقية حصلت من منطقة (باسطكي) في قضاء زاخو شمال العراق، على تمثال برونزي أكدي فريد من نوعه .الى آخر المقال....فسماه لأستاذ الدكتور زهير صاحب بتمثال (باسطكي) نسبة للمنطقة التي وجد فيها.وهي طريقة مؤرخي الفن في ذلك بشكل عام .

يزخر تمثال (باسطكي) بالحيوية والحركة.وتضفي عليه أوركسترا راقصة من خلال حركة الرجلين البديعة. ورغم انهما مستقرتان متعامدتان على قاعدة، فأنهما يوحيان بالحركة وألأستمرار سيما وأن القاعدة مدورة فبدت موحية بالتعاقب والدوران .فضلا عن محاولة الفنان في أيجاد حركة مترابطة بين الرجلين الراكضتين واليدين اللتان فقدتا .لتبقى الرجلين تحملان رسالة تلك الحركة.وتلك قيمة فنية بديعة جسدها الفنان الأكدي على مادة البرونز الصلبة ليصنع منها قطعة فنية مدهشة شكلا ومضمونا.

تمركزت حركة التمثال حول أسطوانة بأرتفاع 15 سم ومحيطها 33سم.ومن المحتمل ان تكون الأسطوانة قد صنعت من معدن غير البرونز.وعلى حافتها توجد ثلاث ثقوب .وبموازاة الساق اليسرى وجد شريط رسمت فيه رموز من صور وحروف  فيها نص دلت الدراسات التأريخية بأنها تعود الى الملك العظيم (نرام سين - 2260 – 2223) ق.م .ومستطيل الكتابة هذا يشكل جزءا من القيمة الفنية للتمثال سماها الفنان (طارق مظلوم) بـ (الهارمونية) بأعتبارها انسجمت مع حركة الساق اليسرى .ويبدو ان (الفنان الأكدي) قد ادرك سوء ترك الفراغ في القطعة الفنية، فلجأ الى ملأه  بالكتابة خشية فقدان (التوازن الفني) .

ورغم فقدان الأجزاء المهمة للتمثال كالرأس والصدر والأطراف العليا وقسما من البطن بما يشكل جانبا مهما فيما يخص دراسته والتي أدت بالتالي الى فقدان  ألأدلة التأريخية عن هوية وأسم صاح التمثال والى من يرمز؟.نقول رغم ذلك، فأنه يبقى دالة عظيمة على أن الفن الأكدي هو أول من أرسى قواعد المدرسة الواقعية ليس فقط في الفن العراقي القديم بل في فنون المنطقة .وعكس للعالم اروع القيم الفنية في الفن التشكيلي على مر العصور.وهو بذلك قد ضاهى فن المدرسة (5) (الهيلينية) التي بلغ الفن اليوناني عندها درجاته العليا في التطور نحو الواقعية المتمثلة في كمال الحركة وتكوين الجسم والتعبير.

شكل تمثال (باسطكي) روعة أتقان التشريح الفني لجسم الأنسان، من قبل الفنان الأكدي، فضلا عن دقة التكوين والموازنة الواقعية.ودل أيضا على رهافة الفنان وحساسيته رغم أشتغاله على مادة البرونز الصلبة.وبذلك يقول الفنان (طارق مظلوم):- (6)أن طريقة التكوين بالطين(Modeling) التي أعتمدها الفنان الأكدي في نحت تمثاله هذا،  والتي مكنته من نقل تجربته المكثفة في التشريح ودراسته العظام والعضلات وتعنبيرحركة كل جزء من أجزائها بسهولة، هي التي سلكها النحاتون فيما بعد ).ثم يأتي ألأستاذ الدكتور (زهير صاحب) ليؤكد أن هذا التمثال مثل  مرجعا فنيا عظيما لفناني العصر احديث. (7) فروعة الخط عند (بيكاسو) فيها شيء من شاعرية الخط على التمثال المذكور، ودقة الأشكال النحتية عند الفنان(كانوفا) متأثرة جدا بشكل الساقين والفخذين الرشيقين للتمثال (الأكدي)، وتقليلية (جياكومتي) قريبة جدا من هندسة التكوين مع النص المكتوب .أما رهافة المشهد فقد أقتربت منها القيمة الجمالية لسيقان (أفروديت) في أثينا في معبد (البارثنون) للنحات العظيم (فيدياس).

يبقى الفن الأكدي هو من يمتلك الصفات التي تجعله يقف شامخا بين ادوار تطور الفنون في العالم كله.وخاصة النحت الذي جعلته واقعيته الجميلة والرائعة من أن يكون في مصاف ارقى الفنون العالمية كالفن اليوناني وفن عصر النهضة.

 

 

.............................

-1  قراءات في المصطلح – الموسوعة الثقافية – 50 – ترجمة – ناطق خلوصي – دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد – 2008ــ

 -2 مقالة للدكتور (فوزي رشيد) في صفحة – 8 – في العدد الأول – من مجلة – فنون عربية – سنة 1981.

 -3 مقالة في صفحة – 126- من مجلة – آفاق عربية – العدد ألأول – 1975ــ للأستاذ طارق مظلوم.

 4- مقالته  - التماثيل الأكدية ..أليات أظهار جمالية، تفعل دورها التعبيري، بغية (تأسيس) تركيب أبداعي..على الموقع الألكتروني

 -5 الهيلينية: نسبة الى هيلان Hellas ألأسم القديم لليونان قبل أستخدام كلمة(كريك Greece)وهي تعني الأعتماد على ما وضعه قدامى اليونان المتسم بالواقعية .

 6- نفس المصدر – 3

- 7 نفس المصدر – 4 -

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2103 الجمعة  27 / 04 / 2012)

في المثقف اليوم