قضايا وآراء

تهذيب الغزل المكشوف في شعر يحيى السماوي / صالح الرزوق

والتي تحولت إلى قالب ثقيل الدم ومحروم من التجديد، وينطبق عليها قول عنترة العبسي: (هل غادر الشعراء من متردم). وكما نعلم لبعض الأسئلة معنى التوكيد.

وكان الخروج على الحداثة لصالح واحد من اتجاهين.

الأول، الانعطاف نحو هموم ذات ووجدان معطوب واغترابي ومستسلم لمفردات وأشياء العالم، بحيث أنه يمسك بزمام توجيه الخطاب والأسلوب معا، وهكذا فعل سعدي يوسف ابتداء من مجموعته المميزة (إيروتيكا)(1).

و الثاني، المحافظة على القالب المعروف للقصيدة العمودية أو قصيدة التفعيلة. ولكن مع نسف كل تفاصيل الخطاب أو الذهن، والانتقال به من موضوعات حماسية ونضالية تدق طبول الحرب، لموضوعات خاصة ذات هم إنساني عام، ومنها التوعية، ولماذا لا نقول التربية الوطنية. وهو ما فعله الشاعر العراقي يحيى السماوي.

لقد اختار الأستاذ الشاعر يحيى السماوي منذ بداية هذه الألفية أن يختصر حساسيات الشعر في مسائل وجودية تخص قضايا الحياة والموت. وركز بكل قصائده على محور الرثاء بمعنى أنه غياب ولوعة وعذاب، وأحيانا تضحية واستبسال واستشهاد، أو امتحان لعاطفة لها شكل تجريبي.

ثم ركز على محور الغزل والنسيب.

و هو في مجموعته الأخيرة (تعالي لأبحث فيك عني)، الصادرة عن دار التكوين بدمشق (2)، لم يخرج على إطار التشبيب والغزل المادي الرقيق الذي اشتمل على قدر لا يستهان به من جوهر الرغائب اللذية. ولكنه على الرغم من أسلوبه المباشر، وهذا الاحتكاك الذي يتسبب بنوع من التحسس في مضمار أخلاق النص المحافظ، لم يفلت الزمام، واستطاع أن يقدم لنا وجدانيات مهذبة لا تجرح المشاعر.

و قد وظف لتحقيق ذلك عدة أدوات معروفة ، من أهمها:

القياس، حيث أن موضوع القصيدة وهو جسد المرأة وأجزاؤه، وفي مقدمتها الجيد الممشوق (جيد لا أرق) (3)، والخطوات الرشيقة (خطى تمشي على الموج)(4)، والصدر الناهد (الغادة النافرة النهدين)(5)، وما شاكل، قد وجد الرديف له في عناصر الطبيعة الخلابة التي لا غبار عليها، ومنها الغيوم والأمطار وأديم الأرض وغيرها.

لقد لعبت الطبيعة هنا دور البديل المتحول (أو ما يسمى في فن السينما بـ Stunt Man   - رجل المخاطر)، حيث أنها كانت دائما هي الحامل لهذه المعاني المكشوفة أو غير النظيفة، والتي يستحسن أن تكون في طي الأسرار والكتمان، وربما بشكل رموز لا يرفضها ذوق ولا أخلاق  المجتمع. وهذا دعاه للتخلي عن المعاناة من جراء الواقع المباشر الذي يتبنى أسلوب المحاكاة، لينطلق إلى مستوى الدلائل، أو مستوى التعبير عن الواقع بأسلوب التلميح. وبعبارة أخرى إنه سمح لمجريات الأحداث أن تكرر نفسها فنيا ليس عن طريق الأدوات المادية الملموسة ولكن بواسطة الصور والمعاني والانطباعات. وهذا معروف حتى عند عرب الجاهلية الذين لم يتأخروا عن التحول من المادي إلى النفسي. والأمثلة على ذلك لا تعد ولا تحصى، ولكن في رأسها أذكر تصوير الليل (في معلقة امرئ القيس) بصورة أمواج البحر المتلاطمة التي تسبب الضجر والكآبة. وتصوير الحمى (في قصيدة للمتنبي) بمعشوقة تبيت في البدن. ومع أن هذا مجرد استعارة،  فهو أيضا تعريف للمدارك بواسطة الأحاسيس، وتعطيل للحدس عن طريق الإقرار والمشاهدة.

أما الأداة الأخرى والأهم فهي المشابهة.

لقد كان يحيى السماوي دائما يوسع محيط دائرة المعاني القصيرة والمادية، لتشمل خصائص الروح بما هو عام.. وما له معنى ضرورة مؤجلة غير لذية أو معنى تحرري.

لقد أضاف لتجربة الوجدان الحسي الخاص معاناة العموم ذات الأبعاد الاجتماعية القاسية، أضف لها أبعاد الصراع الوطني أو حتى الطبقي الذي يعمل بكل جهده لنفي غير الأغيار أو الحدود.

و بهذا المعنى يقول:

مخضبا كنت بحزني

عندما

شققت ثوب الليل (6)

ويقول أيضا:

بصوتك القادم من وراء أرضين..

وبحرين..

و صحراءين من رمل الضنى والويل (7).

و لقد أضفى ذلك على نشاط الأسماء الساكنة والمحايدة  قيم الحركة التي نتوقع أن لا تنطوي عليها غير الرموز.

و ضمن ذلك للقصيدة ولمجمل الصفات والنعوت، التي وردت فيها، أن تنتقل لمضمار معركة مع الحقيقة يخوضها الوجدان الحر والأصيل ضد حياة من القسر والزيف والضيم.

يقول في هذا الصدد:

غدا ستصنع الدموع سيلا عارما

يطيح بالآلهة الزور

و بالأصنام واللصوص (8).

و ساعد ذلك على ربط مغزى الحب المقموع بكل مصادر الحرمان كالجوع (المسغبة كما ورد في بعض القصائد)، والعطش وغير ذلك. وهذا يفسر لماذا وردت مفردات الطعام والشراب وأدواتها كالفرن والتنور والرغيف في كل مناسبة.

يقول:

فاطحني قمح فمي

معصومة النيران والماء..

اخبزيني (9).

و يقول أيضا:

ألقيته في بئر حزن خبزه

قلق.. ونيران الظنون شراب (10).

لقد تحول البحث عن المرأة والصراع ضد المكبوتات إلى معنى البحث عن السعادة والتوازن ومعنى الصراع من أجل العدالة. ووصل الأمر في بعض الحالات إلى تشبيه الحصول على المرأة بأهمية الحصول على رغيف الجياع. وتجد خطوة مماثلة عند نيرودا في (أشعار الربان) (11)، فقد كان لا يسعى لامتلاك المرأة بقدر ما يحاول تحرير الإشارات الكامنة فيها، ومنها الحرية والطمأنينة والشعور بالشبع والأمان وما إلى ذلك. وهكذا أصبحت المرأة إحدى البدائل الكثيرة لمعنى الوطن أو صورة عن ذات أصليه محتجبة.

و لا شك أن يحيى السماوي، بهذه المشابهات الواضحة، تمكن من كسر قيود الرغبات المؤجلة، التي يرى النقد الاجتماعي المعاصر أنها قيود العصاب الجماعي، ثم وضع الصورة ومعناها في منزلة قضية لا تزال تحدو البشر وتلهب أذهانهم.

 

جامعة حلب - نيسان 2012

 

.............................

هوامش :

1 – إيروتيكا. مجموعة صدرت مع لوحات لجبر علوان عن دار المدى بدمشق. ط2 - 1995 .

2 -  مجموعة شعرية صدرت مع لوحات للدكتور مصدق الحبيب عن دار التكوين بدمشق. ط2 - 2012 .

3 -  قصيدة نسجت لها من القبلات ثوبا ، ص 39 .

4 -  قصيدة أربعة قناديل من حرير النبض ، ص 29 .

5 – قصيدة كل دروبي تؤدي إليها، ص 21 .

6 – 7 – 8 - قصيدة تهويمات تحت ظلالها، ص 97 ، ص 97 ، ص 98 على التوالي.

9 - قصيدة حكاية التي صارت تسمى، ص 11.

10 - قصيدة عندي عتاب، ص 111.

11 مجموعة لنيرودا صدرت عن دار المسيرة ببيروت بترجمة لهالة نابلسي.  ط1 1979 .

  

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2103 الجمعة  27 / 04 / 2012)

في المثقف اليوم