قضايا وآراء

فوكو يكتب عن إيران / ترجمة: صالح الرزوق

الأولى في أيلول وجاءت في أعقاب يوم " الجمعة الأسود" الذي مات خلاله عدة ألوف من الناس بعد أن أطلق الجيش النار على الحشود. الثانية في تشرين الثاني وجاءت بعد " عطلة نهاية الأسبوع في طهران" ، وفيها تم إحراق رموز من نظام بهلوي. وقد قابل فوكو عدة أشخاص وهو هناك، من ضمنهم قيادات دينية في المعارضة، ولدى عودته إلى فرنسا تمكن من تدبير لقاءات مع منفيين إيرانيين ، منهم آية الله الخميني.

و يتضح من مقالات فوكو ولقاءاته أنه اهتم بعدد من الثيمات التي لها دور مركزي في تفكيره خلال منتصف السبعينات وهي - مقاومة سلطة الدولة، ودور المثقفين، والتضاد (مهما كان سطحيا) بين الشرق والغرب - ولكن عدة أفكار جديدة سوف تجد طريقها إلى أفكاره في الثمانينات وهي : " الروحانيات السياسية"، والنقد باعتبار أنه مشروع أخلاقي إيجابي، وقليل من الأمل.

من أهم هذه المقالات نذكر أربعة على وجه الخصوص وهي - طهران: الإيمان ضد الشاه، والقائد الأسطوري للثورة الإيرانية، منشورتان في كوريرا ديلا سيرا؛ وبماذا يحلم الإيرانيون؟ منشورة في النوفيل أوبزيرفاتير، وأخيرا مقابلة مع باقر باهرام، وتمت ترجمتها من الفارسية. وأفضل تعبير عن أسباب اهتمامه بإيران تجده في النوفيل أوبزيرفاتير حيث يقول:

في فجر التاريخ، اخترعت بلاد الفرس الدولة وتدرجت بنماذجها حتى الإسلام. ولكن من هذا الإسلام نفسه، اشتقت الدين الذي قدم لشعوبها مصادر لا تنتهي للمقاومة ضد سلطة الدولة. وفي هذه الرغبة لتكوين " حكومة إسلامية"، هل يجد المرء مصالحة وتعارضا، أو عتبة تقود لشيء جديد؟.

في حوار فوكو الذي جرى في أيلول عام 1978 مع المثقف الايراني باقر باهرام يصيغ اهتماماته حول إيران بمصطلحات يستمدها من اهتماماته الفلسفية والثقافية الأخرى، مثل دور المثقف العضوي. ولكنه أيضا يفتح المجال لصعود توتر جديد - إمكانية أن يكون ذلك النقد مشروعا إيجابيا، وليس سلبيا بشكل مطلق، وإمكانية توفير الأمل بـ " امتلاك الشجاعة للبداية بروح جديدة " انطلاقا من هذا المشروع المبتكر. وهكذا علينا" أن نبني فكرا سياسيا آخر، وتصورات سياسية أخرى، وأن نمهد الطريق لرؤية جديدة خاصة بالمستقبل".

و يرى فوكو أن إيران (و لو بشكل ساذج) حالة تستحق الدراسة لأنها تحتمل إمكانيات مثل ذلك التخيل السياسي. وهو يعبر عن الدواعي المذكورة وعن الثورة الإيرانية بمصطلحات تعترض على " هذا التوحش الذي نقول عنه إنه دولة". ويرى أن الشيعية المعاصرة في إيران ترادف البروتستانتية الأوروبية التي انتشرت خلال حركات الإصلاح: إنها حركة دينية وحركة سياسية في نفس الوقت. وأهم من ذلك، إنها حركة معارضة ضد أشكال الهيمنة الحالية. لو أن فوكو تعهد بصناعة التاريخ المنصرم ليقوم بصناعة تاريخ الوقت الحالي، فهو على ما يبدو يكتب بأسلوب صحافي غير غربي من أجل صناعة تاريخ للغرب.

و في نفس الوقت يقدم فوكو، من خلال التأكيد على الدور الهام للمذهب الشيعي في صناعة الثورة، رؤية تحليلية متطورة وتفاؤلا ساذجا بخصوص الأحداث التي جرت في إيران. وهو مقتنع بشكل واضح كيف أن الشيعية قادرة على تنظيم المقاومة في قوة موحدة بإمكانها أن تعارض الشاه على نحو فعّال. ومع ذلك، لديه ميول حقيقية ليؤمن أن الشيعية توفر بدائل حقيقية تحل محل سلطة الدولة فيقول: " لا يتم تحديد السلطة الدينية بين رجال الدين الشيعة على أساس تراتبي... ولكن يمكن الإصغاء لنصحهم... [إن سلطتهم] أساسا تستند على تآزر الكلام والإصغاء.". لقد أثرت بفوكو الإرادة المتراكمة الموحدة التي لاحظها في زياراته - إرادة لها هدف واحد، يمكن اختصاره بوضع حد لنظام الشاه. وبما أنه رأى أن المذهب الشيعي يركز على هذه الإرادة، فقد كان لديه أمل لا ينضب أن النتائج ستكون إيجابية : وأن " الحكومة الإسلامية" ستتجنب البنية التراتبية وتصون الحريات ( وهذا ما لم يتكفل به نظام الشاه)، وذلك سوف " يسمح بتحويل الأبعاد الروحية إلى حياة سياسية" - إلى روحانيات سياسية. وبينما كان يفسر كيف أن آية الله الخميني في منفاه قادر على صناعة رمز موحد للثورة ("الخميني ليس هناك... الخميني لا يقول شيئا غير كلمة كلا للشاه ، كلا للنظام، كلا للاتكالية. في نهاية الأمر الخميني ليس رجل سياسة")، فقد وقع بخطأ فاضح بخصوص شخصانية هذه الكاريزما ( التي يرى فوكو " إنها تقريبا رمز أسطوري") فهو يقول: " لن يكون هناك حزب للخميني، ولن تنشأ حكومة خمينية".

كما يمكن أن نرى في دراسة فوكو عن إيران حماس متفائل يضع كل أوراقه في خدمة إمكانيات واحتمالات جديدة هي مدعاة للاشتباه والشك فيما يتعلق بالحساسية السياسية حيال الواقع. وحول ذلك قالت أتوسا هـ ، كاتبة من إيران، في نوفيل إوبزرفاتير:" لقد كتب [فوكو] يقول [الحكومة الإسلامية قد تعني] إن للأقليات الحق في الحرية، بشرط أن لا تتحسس الأغلبية. ولكن في أي نقطة من المسار ستبدأ الأقلية بإلحاق" الضرر بالغالبية؟". وهذا بالضبط هو نوع السؤال الذي صاغه عن السجون والجنسانية، وأقول ذلك على سبيل المثال فقط.

آخر مقالتين كتبهما فوكو عن إيران، وكلاهما نشرتا بعد وصول الخميني للسلطة وبعد تأسيس " الحكومة الإسلامية"، تشيران أنه بدأ - ولو مضطرا- إلى إعادة النظر بأمله وحماسته. كانت لهاتين المقالتين نبرة أسف وخيبة أمل، ولا سيما فيما يتعلق بإعادة تقييمه للمثل التي حرضت وعبأت اهتمامه بالثورة الإيرانية. وفي رسالة مفتوحة لرئيس الوزراء مهدي بازرجان دعاه إلى تذكر الالتزامات المطلوبة من الحكومة - ومنها الالتزام" بقبول الأحكام الصادرة عليها في الوقت الذي تحكم به..، [فهي أحكام من] كل البشر في العالم. ثم يسأل:" هل من غير المفيد أن تقوم بثورة؟". ومع أن الثورة الإيرانية فشلت في تحرير شعبها، ينتهي إلى القول إن التمرد على السلطة لا يزال شيئا له قيمة وقد بينت هذه الثورة ذلك بالدليل القاطع ، يقول بهذا المعنى إن :" أخلاقياتي ضد " الاستراتيجيات ". وعلى المرء أن يحترم صعود الهوية الشخصية وعنادها وشممها في وقت ترتكب به الدولة الفظاعات ضد ما هو كوني"( 267).

و كما هو واضح مما سلف، تقدم المقالات رؤية عميقة لتوقعات فوكو الفلسفية ولتحليله السياسي بشكل عام. ومع نشر نصوصه الأخيرة في 1978 و1979 (بالفرنسية)، وفي 1982 (بالإنكليزية)، وهي نصوص المحاضرات التي ألقاها في الكوليج دو فرانس، تم التوثيق لفترة انتقالية في فكر فوكو، وفيها يتحول من التأكيد على دور السلطة إلى التأكيد على دور الأفعال الذاتية والروحانية ودور الأخلاق.

لقد كانت الثورة الإيرانية بنظره حالة للدراسة والتمحيص، أضف لذلك إن لهذه الكتابات قيمة بمستوى تأملات في الأحداث المعاصرة ، وكما قال أفراي وأنديرسون، إن كتاباته " ناجمة عن خبرة أصيلة وتمهيدية تفسر مفاهيمنا عن الثورة".(2).

 

 

......................

ريشارد أ. لينش Richard A. Lynch - جامعة ديبو- مجلة دراسات عن فوكو Foucault Studies - العدد 4- شباط 2007 - ص: 169- 176.

- المقالة تعبر عن رأي الكاتب وليس المترجم. مصدر الترجمة: مجلة (بحوث عن فوكو) عدد 4 عام 2007 الصادرة في أستراليا.

 

ترجمة صالح الرزوق / جامعة حلب - بتصرف

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2106 الأثنين  30 / 04 / 2012)

في المثقف اليوم