قضايا وآراء

مناقشة هادئة .. سرقة أم تناص؟ .. ومن يحق له البت بذلك / هاشم عبود الموسوي

طرفة بن العبد

 

بالرغم مما يدعيه "طرفة بن العبد"، فإنني أستطيع أن أجزم بأن كل النصوص الأبداعية بدأت متأثرة وإنتهت مؤثرة بنتاجات لاحقة بعدها، وبدرجات متفاوته .لم تسلم من هذه الحقيقة، حتى أساطير وملاحم الأولين, ففي مقال سابق* لي، إستطعت أن أبين تأثير ملحمة غلغامش على ملاحم وأساطير شعوب وحضارات أخرى. ولكني أخفقت في أن أدون بتلك المقالة تأثر هذه الملحمة الخالدة بما سبقها من ملاحم كتبت قبلها من مبدعي وادي الرافدين الأوائل .هذا الجزم الذي أعتقد به يصح فقط، (إن كانت النصوص التي نتحدث عتها لا تقع ضمن نطاق " النقل المذموم")

 

وفق مفاهيمي وتقيماتي التي لم تكن ناضجة، قبل ثلاثين عام، كنت قد إنتهيت من القيام بمحاولة تدوين كتاب ب200 صفحة، يجمع أكثر من 80 قصيدة عربية عالمية ومعاصرة (مسروقة)،مع تحديد أصولها المنقولة عن روحيتها وموضوعها.. وحملت مخطوطة هذا الكتاب معي الى بيروت، في عطلة نصف السنة لمؤسسات التعليم العالي العراقية وفي شهر شباط (فبراير) من عام 1982، محاولا نشره هناك . وعندما إلتقيت الشاعر العراقي الراحل "كاظم السماوي" هناك، فكرت بأن أطلعه على هذا الكتاب قبل أيداعه لدى دور النشر، خاصة وكانت له قصيدة ضمن محتويات هذه المخطوطة سبق وأن نشرها قبل عشر سنوات من نشر الشاعرة الفلسطينية الكبيرة "فدوى طوقان" قصيدة بنفس الوزن ونفس القافية ونفس المضمون الوطني، وكانت دهشته كبيرة، كيف أني كنت قد إلتقطت هذه المحاكاة، حيث ذكر لي بأنه لم يسبق له بتاتا أن يطلع على قصيدة شاعرتنا الكبيرة طوقان , قررت أن أترك لديه المخطوطة، ليطلع عليها بشكل مركز، عله يفيدني ببعض الملاحظات المهمة عنها, بعد بضعة أيام لاحظت، بأنه يريد مني التريث بمسألة نشر الكتاب، وما قاله لي أجده اليوم كان موقفا صائبا منه، حين بدأ يذكر لي :

 

(بأن السرقات كانت وستظل كثيرة  وكثيرة، والاتهامات تنهال على الشعراء، وقال بأن أقدم عهدنا بها لا يمكن إثباته، حيث كان الرواة هم الناقلون لها شفاهيا لا التدوين.. .

وثم يشيرللعصر الإسلامي، فيقول بأن هذه القضية قد شاعت أكثر، ولم يسلم منها إلا قلّة، فقد أتهم حسان بن ثابت، والحطيئة، النابغة الجعدي وكعب بن زهير.

أما في العصر الأموي فقد اشتدت نار السرقات، وتراشقت سهامها، بسبب العصبيات القبلية، والخصومات النقدية،

كذلك ذكر لي بأن قائمة المتهمين بالسرقات شعراء كبار مثل جميل بثينة، وكثيّر عزة، والأخطل، والكُميت، والقائمة تطول في ذكرهم، ثم أشارولكن المهم في هذا العصر بأن السرقات في هذا العصر اختلفت بعد أن كانت في الجاهلي يغلب عليها اللفظ والمعنى، فإنها هنا تؤخذ المعاني، وتُخفى لتظهر بشكل جديد،.

و أضاف بأنه في العصر العباسي ظهرت الكتب المتخصصة في السرقات، فلم يسلم شاعر مهما علا شأنه من هذا الاتهام، كأبي نواس الذي أُلِّف هونفسه كتابا في سرقاته، وأبي العتاهية، والمتنبي أيضاً وما ألِّف حوله من خصوم وأنصار، وكذلك كتاب الآمدي الذي خصص جزءاً منه يتتبع فيه سرقات الشاعرين، أبو تمام والبحتري، وأن الأخير قد سرق من الأول، مع أن الأول قد سرق ممن قبله

واستمرّت الحملات الشعواء على بعض الشعراء من النقاد، ولا أنكر إنصاف بعضهم، وإن كان الأغلب قد فهموا السرقات بغير ما توصل إليها نقدنا الحديث

 

وحذرني آنذاك بأني إذاطبعت الكتاب  ولم أكن بعد منتشرا ولم أكن قد نشرت أيا من دواويني آنذاك، فقد أُتهم، بأني أنشر هذه الأدعاءات بدافع الغيرة والحسد).

 

على كل حال، لم أعد محبطا، تركت المخطوطة لدى الأستاذ كاظم، على أمل إننا سنلتقي مرة أخرى في صيف نفس العام في بيروت، ولكن حربنا مع جارتنا إيران أخذت منحا آخر، مما حدى بالسلطة لدينا الى منع السفر الى الخارج .. وبيروت ذاتها تم إحتلالها بعد سفري بعدة أشهر، من قبل إسرائيل

 

وفر العراقيون الذين كانوا مساندين للحركة الفلسطنية ومنظماتها من جحيم القصف وهم مجبرين، الى سوريا وقبرص والى بلدان أخرى، تاركين ورائهم كل ما يمتلكون من مقتنيات وذكريات، وهكذا تخلصت من عقدة هذه المخطوطة والوساوس التي أحاطت بي بسببها .. واليوم أرى الموضوع بأفق أوسع..

 

 فقد تأكدت من أن طرفة بن العبد وهو المدعي ببراءته من السرقة قد أغار في البيت المشهور

وقوفاً بها صحبي عليّ مطيّهم

يقولون لا تهلك أسى وتجلّد

على شعر امرئ القيس حين نقله من بيته:

وقوفاً بها صحبي عليّ مطيّهم

يقولون لا تهلك أسى وتجمّل

 

والواضح هنا أنه أبدل كلمة واحدة فقط من (وتجمل) الى (وتجلد)، وربما تكون الأخيرة أكثر وقعا وبلاغة .. الا إننا ماذا نستطيع أن نقول على البيت الشعري بكامله .. وإن كان ل "لغذامي" رأي آخر، يجعل بيت طرفة منحولا عليه، بدليل أجواء القصيدة .

 

وهنالك أمثال كثير حول مثل هذه الظاهرة :

فقد كان بشار بن برد يفخر بقوله:

(من راقب الناس لم يظفر بحاجته

وفاز بالطيبات الفاتك اللهج).

 

فسار بيته حتى قال تلميذه سلم الخاسر:

(من راقب الناس مات هماً

وفاز باللذة الجسورُ)

فلما سمع بشار هذا البيت لطم وجهه وصرخ: لقد ضاع والله بيتي هذا .

وقد شغل كثير من نقاد العرب قديماً بموضوع (السرقات الشعرية) وبالغ بعضهم في الاتهام بدوافع مختلفة، فأرجع بعضهم جل أن لم يكن كل شعر المتنبي مثلاً إلى أنه مسروق من أشعار غيره أو من حكم (أرسطو وإفلاطون) حتى ألف القاضي الجرجاني (الوساطة بين المتبني وخصومه) فكان منصفاً، فالسرقة واضحة، أما التشابه النسبي في المعاني مع الإبداع في الصياغة فهو من توارد الخواطر، وقديماً قال الجاحظ (المعاني ملقاة في الطريق وإنما الفضل للأسلوب) أو نحوه، ودافع المتنبي عن اتهامه بالسرقة في مناظرة فقال: «كلام العرب أخذ بعضه برقاب بعض، والمعاني تختلف في الصدور، وتخطر للمتقدم تارة وللمتأخر أخرى، ولا أعلم شاعراً جاهلياً أو إسلامياً إلاَّ وقد أحتذى واقتفى، واجتذب واجتلب» بل إن علي بن أبي طالب عليه السلام، يقول: «لولا أن الكلام يعاد لنفذ»

 

ولكن إبن قتيبة مثلاً نأى عن ذكر لفظ (السرقات) عن الإسلاميين، مستبدلاً إياها ب (الأخذ)،  و(السلخ)،  و(الاتباع).

وقبله ابن سلاّم الجمحيّ، الذي استخدم لفظتي (الاجتلاب)، و(الإغارة).

أما الجاحظ فقد راوح بين (السرقة)،  و(الأخذ).

وتفرّد الصولي بلفظي (النسخ)،  و(الإلمام).

ولكن هذه الألفاظ أصبحت شبه منقرضة في العصر الحديث، وحلّت مكانها ألفاظ فيها من الإنصاف الكثير كالتناص، والاقتراض،

 

وبهذا يحق لي القول بان كافة النصوص ماهي إلا "نسيج من الاقتباسات والإحالات ورجع أصداء من اللغات الثقافية السابقة أو المعاصرة التي تخترقها بكاملها . فتشابه المعاني مع اختلاف الصياغة وإبداع المعنى لا يعتبر سرقة،وأصبح يسمى في وقت لاحق لفترة الأتهام ووفق النقد الحديث ب (التّناص) وهو خروج نص قديم من العقل الباطن بإبداع جديد

 

(لقد قلل التناص كثيراً من وطأة تهمة السرقة .. فلو رجعنا الى" رولان بارت" على سبيل المثال، فنجد بأنه يرى أن كل (نصّ) هو (تناصّ)، وإن النصوص الأخرى تتراءى فيه بمستويات متفاوتة، وبأشكال ليست عصيّة على الفهم. إذ من خلالها نستطيع أن نتعرف على نصوص الثقافات السالفة والحالية. فكل نصّ –عنده- ليس إلا نسيجاً جديداً من استشهادات سابقة. و(التناصّية) عند بارت هي قدر كل نصّ، مهما كان جنسه. ولا تقتصر على التأثر فحسب.

 

 ولكن السؤال الجوهري الذي يراود أذهاننا عند قراءة مثل هذه الأفكار: ما مدى مصداقية أي عمل ٍ أدبي وبراءته من تهمة السرقة ؟ ولا سيما ونحن في هذه الفترة نسمع الكثير عن الأتهامات والسرقات الأدبية

 

وفي وقتنا الراهن فأن هذا الموضوع صار يطُرح ليس فقط في الأوساط العربية، بل حتى في الأوساط الثقافية العالمية ويدور الجدل والنقاش حول مصداقية العمل الأدبي الذي يستند إلى أفكار إبداعية جاءت في مراحل زمنية سابقة، وحيث أمست مهمة المبدع هو إعادة صياغة الفكرة والعمل عليها ووضعها في إطار يلائم مقتضيات العصر ويناسب أذواق المتلقين والشرائح الجديدة من الجيل الجديد. والسؤال الذي يطرج نفسه، ويحتاج الى إجابة واضحة هل يمكن اعتبارمثل هذه المحاولات تناصاً بالنظر إلى الأفكار السابقة  ومنتجات إبداعية يحتفى بمبدعيها أم إدراجها في إطار السرقة الأدبية؟‏

 

قبل عامين خرج علينا أحد المقنعين، ليسرق بشكل غبي قصائدا كاملة،ليحى السماوي  ووفاء عبد الرزاق، وينشرها بإسمه، مما حدا بي الى فضحه لدى أصحاب المواقع التي أراسلها، وبذلك تم عزله عن الأجواء الثقافية والأبداعية النزيهة  والخالصة .

 

أنا شخصيا رغم ما سرق مني من نصوص كاملة، نشرت بأسماء أخرى، أحيانا لاحقتها وفي أخرى أهملتها .. فقد أصابني نوع من الدسيسة الأدبية.

وسترون في أدناه تفاعلي مع هذه الدسيسة التي وقعت لي سهوا من خلال مقالتي التي نشرت قبل إسبوعين :

http://al-nnas.com/ARTICLE/is/15tm04.htm    

 

د.هاشم عبود الموسوي 

................

للاطلاع

استطلاع: ما الفرق بين السرقة والتناص في النصوص الأدبية؟

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2107 الثلاثاء  01 / 05 / 2012)

في المثقف اليوم