قضايا وآراء

مع البياتي (3-3)/ عدنان الظاهر

وأرحل " من كتاب البحر، وقصيدة " أُولد وأحترقُ بحبي " من كتاب قمر شيراز وقصيدة

" حبٌ تحت المطر " من كتاب قمر شيراز أيضاً. فما الذي يميز هذه القصائد عن قصائد المجلد الأخرى يا تُرى؟ ولماذا أراها من القصائد الجيّدة؟

 

6-1 قصيدة " أحمل موتي وأرحل "

كما هي عادته ودأبه، قطّع الشاعر قصيدته هذه إلى ستة مقاطع أو ست مُقطّعات صغيرة ومتوسطة وكبيرة. ما كان يُضير الشاعر ولا القصيدة أن يتركها دونما تجزئة وقطع وتحميلها أرقاماً تبدو في الغالب مُفتعلة إفتعالاً لا مبررَ له البتّة.

لا وجود في هذه القصيدة – والحمد لله !!- لا لعائشة ولا لعشتار ولا لتموز !! ألف الحمد لله. أتخمنا الشاعر بهذا الثالوث الذي أصبح كابوساً حقيقياً على القاريء والباحث.

لكنْ بدل عائشة أدخل الشاعر البياتي على خشبة مسرح العرائس وخيال الظل إسماً لأنثى جديداً علينا، بل إسمين عصريين أحدهما لفتاة روسية والآخر لإمرأة عربية أردنية من إربِد. " لارا " إسم مشهور نجده في أغلب البلدان الأوربية وهو في روسيا مختصر " لاريسا ". تعرّف الشاعرُ على لارا في مدينة " سوجي Sochi " وهي منتجع صيفي رائع الطبيعة والمناخ يقع بين البحر الأسود ذي المياه الدافئة صيفاً وجبال القوقاس الخضراء الشاهقة والمُثقلة بأشجار المشمش والتفاح والكمثّرى. يؤمه الضيوف والطلبة الأجانب وموظفو السلك الدبلوماسي لقضاء شهر فيه أو بالقرب منه مجاناً. أما الأخرى فهي خُزامى الأردنية. أمرٌ آخر في هذه القصيدة جديد علينا هو التأكيد على ذكر الصحراء الليبية والبوليس السرّي زمان العهد الملكي السنوسي فيها. ما الذي أقلق الشاعرَ في ليبيا؟ وليزيد في سماكة لحمة وسدى خامته الشعرية أقحم أموراً أخرى لا علاقة لها بلارا ولا بخزامى. أقحم موضوع حرب التحرير الشعبية وموضوع الأسطول الأمريكي السادس. لكني أستدرك فأقول إذا ما غضضنا النظر عن المقطع الأول الشديد الغثاثة سنجد أنفسنا أمام عالم شعري بالغ الإتقان والروعة يفرض علينا الإحساس العميق بصدق حرارة تعلق الشاعر بالفتاة الروسية لارا وبشغفه بها وهي تمارس السباحة على سواحل البحر الأسود أو في فندق إقامتها وغيرته من عشيق لها آخر يبادلها الحب كما يفعل شاعرنا معها. الآخر يحل محله… لا بأس… لأنه هو نفسه يحل محل ذاك العاشق الآخر. حلولٌ حلولٌ، حالٌّ ومحلولٌ، فاعلٌ وُمنفَعِلٌ ومفعول،…منافع وحظوظ متبادلة لا خسارة فيها ولا خاسر !!

دور خزامى هنا جدَّ محدودٍ ومتواضع، فلماذا ربطها الشاعر بلارا، البطلة الحقيقية لقصة هذه القصيدة؟ نقرأ بعضها كما كتبها ورتّبها الشاعر نفسه:

كنتُ وحيداً- كان البوليسُ ورائي- والليلُ الملكيُّ- ولارا تسبحُ في البحر الأسودِ- في سوجي- وخزامى في إربدَ- في ضوءِ بنادقِ حربِ التحريرِ الشعبيةِ للأرضِ الحبلى بالثورةِ ترنو وتصلّي- فاجأني البحرُ الأبيضُ- كنتُ وحيداً- أبحثُ في الصحراءِ الليبيةِ عن مفتاحِ المدنِ المنسيةِ في خارطة الدنيا- لارا تنشرُ في الريح ضفائرها- ترقصُ في الغابات الوثنيةِ- تمضي عائدةً للفندقِ بعد عناقِ البحرِ- وفي منتصفِ الليلِ عشيقٌ آخرُ ينسلُّ إليها.

ويُعريها

ويُقبّلُ عينيها

ويُقبّلُ نهديها

ويقولُ لها نفس الكلماتْ

وتقولُ له نفس الكلماتْ

 (أُحبّكَ)

لارا- هي والآخرْ

كانت تبكي، فالبحرُ سيأخذُ منها الآخر

كانت تبكي ويدي تمتدُّ إليها ويدُ الآخرْ

وفمي في فمها وفمُ الآخرْ

ودمي ودمُ الآخرْ.

 

فمن هي هذه المرأة لارا التي يتبادلها رجلان معاً والكل مقيمٌ في فندق واحد؟ (ويدي تمتدُّ إليها ويدُ الآخرْ. وفمي في فمها وفمُ الآخرْ). نقرأ في المقطع الخامس:

 

" لارا " رحلتْ بعد رحيلي

ضاعت في زحمة هذا العالمْ

في غابات البحرِ الأسودِ والأورالْ

عادت للأرضِ المسحورةِ تذرعها

في قُدّاسِ رحيلِ الأمطارْ

و " خزامى " نذرت للبحرِ ضفائرها

ولنجمِ الميلادْ

وأنا حطّمتُ حياتي

في كلِّ منافي العالم

بحثاً عن لارا وخزامى

وعبدتُ النارْ

مارستُ السحرَ الأسودَ في مُدنٍ ماتتْ

قبلَ التاريخِ وقبلَ الطوفانْ

واستبدلتُ قناعي بقناعِ الشيطانْ

ظهرتْ لي لارا وخزامى في موسيقى الأشعارْ

في حرف السينِ وحرف الهاء وحرف التاءْ.

في المقطع السادس والأخير يختتم الشاعر قصيدته قائلاً:

برحيلي رحلت كلُّ الأشياءْ.

 

إذا ما تبادل الرجال الأدوار أو كرروها مع فتاة من بنات الهوى في الفنادق أو على سواحل البحار فذلكم أمر لا يسترعي الإهتمام ولا علاقة له بأطروحة الحلول ولا يثير فضول أو دهشة القاريء. وأسوأ من هذا عملية لصق خزامى الأردنية بلارا الروسية أمر مفتعل غاية الإفتعال ذاك لأنَّ خزامى ليست بديل لارا ولم يتداولها الرجال كما فعلوا مع لارا. إلاّ إذا أراد الشاعر أن يقول لنا إنَّ خزامى الشرقية والمسيحية المحافظة هي الضد النبيل النقي للأخرى الغربية (الروسية، الإشتراكية، الوثنية) وإنها ملاك سماوي طاهر وجنيّة من جان البحار (وخزامى نذرت للبحر ضفائرها ولنجم الميلاد).

ثمّةَ أمرٌ آخر يلفت النظر وهو كثرة ورود كلمة النار في شعر البياتي كثرةً يصعب عدّها أو حصرها (لديَّ إحصائية تقريبية) فضلاً عن تأكيده على عبادة النار. قال على الصفحة 310 (أنتِ النارُ، أنتِ النارُ الأبدية) وقال على الصفحة 311 (فصليّتُ للنار في عرصاتها) وقال على الصفحة 315 (أعبدُ في عينيكِ هذي النارْ) وعلى الصفحة 329

(أسجدُ مأخوذاً للنار). ومما له صلة قوية بهذا الشأن وجود قصيدة في هذا المجلد بعنوان " المجوسي " وأخرى بعنوان " هكذا قال زُرادشت " وزرادشت هو نبي المجوسية والمجوسيين. و" هكذا تكلّم زرادشت " هو عنوان كتاب شهير من تأليف الفيلسوف الألماني نيتشه. ثم قرر البياتي في بعض شعره إنه مجوسي وقال مرة إنَّ إباه مجوسي (الصفحة 309). هل كان الرجل يلهو لهو صبيان على طريقة خالفْ تُعرفْ أو إنه كان يقرر شأناً خاصاً به بالغ الدلالة الإجتماعية لكنه على أية حال يبقى أمراً خاصاً لا يهم القاريء لا من قريب ولا من بعيد؟؟ ما الذي يعنيني إن كان البياتي بابلياً يعبد الكواكب ويقرأ النجوم أو كان آشوريَّ الهوى أو مجوسياً أو بوذياً أو إسماعيلياً؟؟ إذا كان صوفياً – سوريالياً في مذهبه الشعري فلا الصوفية كانت مجوسيةً ولا السوريالية ولا كان بوذا مجوسياً.

6-2              قصيدة " أولدُ وأحترق بحبي "

تُمثّل هذه القصيدة القمة الثانية في شعر البياتي بعد قصيدة " حبٌ تحت المطر" أو تكاد توازيها. أعدُّ القصيدتين معاً من أنضج وأكمل ما قال البياتي من شعر خلال فترة مشواره الشعري الطويل (1926 – 1998) وخلاصة عمره وفنه ومذهبه وأسلوبه في قول الشعر.

 

في القصيدة السابقة " أحملُ موتي وأرحل " قرأنا ولأول مرّةٍ إسم الفتاة الروسية لارا ورأيناها تحتلُّ مكاناً غيَر مرموقٍ يتنافس رجلان عليها ويطارحانها الهوى برّاً وبحرا في مدينة سوجي على سواحل البحر الأسود في الإتحاد السوفييتي السابق. فضلاً عن وضعها ضدّاً لا نِدّاً مقابلَ فتاة أردنية طاهرة الذيل متدينة (وخزامى نذرت للبحر ضفائرها ولنجم الميلادْ). أما في قصيدة " أولد وأحترق بحبي " فلقد قفز البياتي قفزة جدَّ موفقة بعد أن أخذ تمريناً جيداً في القصيدة السابقة وتعلّم أشياء جمّة سواء في كيفية التعامل مع موضوع لارا وحيدةً دون غريم أو منافس أو في إختيار الظروف والأحوال الأنسب للتفاعل مع شخصيتها وحثها أن تهبَ المزيد من العطاء الشعري المبدع ثم تسليط الضوء الأقوى على حضورها العياني و(الدرامي) إمرأةً ورمزاً ومثالاً عصيّاً على النوال، يتراءى لكنه لا يُمسك ولا يُرى. تماماً كما قال المتنبي في مناسبة قريبة من موضوع لارا:

 

 وما صبابةُ مشتاقٍ على أملٍ

 من اللقاءِ كمشتاقٍ بلا أملِ

 

راحت لارا تتراءى له قطّاً تترياً (وهو تعبير مجازي معروف في روسيا يُقال للمرأة الروسية الممتلئة الجسد) في المدن القطبية وراح يسأل عنها عاملة المقهى ومقاهي العالم وحاناته وقطارات الليل. ثم طفقت تتهيأ له حتى في لوحات متحف اللوفر الفرنسي في باريس وفي إيقونات الكنائس وفي عيون الملكات بل وتحت أقنعة بعض ملكات الفراعنة الذهبية. لارا الروسية والقط التتري تتحول إلى جارية في قصر الحمراء في مدينة غرناطة الأندلسية تعزف على العود لكنها تذرف الدموع كظبية.

نقرأ أجمل ما في هذه القصيدة من تحليقات فذّة وخيال غير مسبوق ولوعة حب حقيقية بعيدة عن المبالغات والشطحات الصوفية والإغراق الممل في لعبة التحول والتبدل والحلول.

سأكتبها كما كتبها البياتي وبالشكل المثبّت في الكتاب وأتركها لحاسة القاريء النقدية

وطريقته في تذوق هذا اللون من الشعر… فلربما يختلف معي الكثير من القرّاء.

 

 - 1 -

تستيقظ " لارا " في ذاكرتي: قطّاً تتريّاً، يتربصُ بي، يتمطّى، يتئاءبُ، يخدشُ وجهي المحمومَ ويحرمني النومَ. أراها في قاعِ جحيمِ المدنِ القطبيةِ تشنقني بضفائرها وتعلّقني مثلَ الأرنب فوق الحائط مشدوداً في خيط دموعي. أصرخ: " لارا " فتجيبُ الريحُ المذعورةُ:

" لارا "، أعدو خلف الريح وخلف قطارات الليل وأسأل عاملةَ المقهى. لا يدري أحدٌ. أمضي تحت الثلج وحيداً، أبكي حبي العائرَ في كل مقاهي العالم والحانات.

 

 - 2 -

 

في لوحاتِ " اللوفرَ " والإيقوناتْ

في أحزانِ عيون الملكاتْ

في سحر المعبوداتْ

كانت " لارا " تثوي تحت قناع الموت الذهبيِّ وتحت شعاع النورِ الغارقِ في اللوحاتْ

تدعوني، فأُقرّبُ وجهي منها، محموماً أبكي

لكنَّ يداً تمتدُّ، فتمسحُ كلَّ اللوحاتِ وتُخفي كلَّ الإيقوناتْ

تاركةً فوق قناعِ الموتِ الذهبيِّ بصيصاً من نورٍ لنهارٍ ماتْ.

 

 - 3 -

 

" لارا ! رحلتْ "

" لارا ! انتحرتْ "

 قال البوّابُ وقالت جارتها، وانخرطتْ ببكاءٍ حارْ

قالت أخرى: " لا يدري أحدٌ، حتى الشيطانْ ".

 

 - 7 -

 

في قصر الحمراءْ

في غُرفات حريم الملك الشقراواتْ

أسمع عوداً شرقياً وبكاءَ غزالْ

أدنو مبهوراً من هالات الحرف العربيِّ المضفورِ بالآف الأزهارْ

أسمع آهاتْ

كانت " لارا " تحت الأقمارِ السبعة والنور الوهّاجْ

تدعوني فأُقرّبُ وجهي منها، محموماً أبكي، لكنَّ يداً تمتدُّ فتقذفني في بئر الظُلُماتْ

تاركةً فوق السجادة قيثاري وبصيصاً من نورٍ لنهارٍ ماتْ.

 

 - 11 -

 

أرسمُ صورتها فوق الثلجِ، فيشتعلُ اللونُ الأخضرُ في عينيها والعسليُّ الداكنُ، يدنو فمُها الكرزيُّ الدافيء من وجهي، تلتحمُ الأيدي بعناقٍ أبديٍّ، لكنَّ يداً تمتدُّ، فتمسحُ صورتها، تاركةً فوق اللونِ المقتولِ بصيصاً من نورٍ لنهارٍ ماتْ.

 

كرر البياتي عبارة (لكنَّ يداً تمتدُّ) ثلاث مرات لكن ما تفعله هذه اليد يختلف من حالة إلى حالة وبإختلاف المناسبات. فمرة (تمتد فتمسح كل اللوحات وتُخفي كل

الإيقونات) وفي المرة الثانية (تمتد فتقذفني في بئر الظُلمات) وفي المرة الأخيرة " تمتد فتمسح صورتها …). لا أمل في لارا ! اليأس منها !

(كتب الشاعرُ هذه القصيدة بتأريخ 26- 10- 1974 وكان ذلك الحين في بغداد).

 

6-3              قصيدة " حبٌّ تحت المطر "

 

هنا إكتملت موهبة البياتي الشعرية كما إخال وأحسب. وهنا قد إكتمل نضجه الوجداني وعرف جيداً كيف يوظف وكيف يطوّر طرق وأساليب التعبير عن نزعة الحلول الصوفي القابع في أعمق أعماق روحه والإتحاد مع وبالطبيعة شجراً ومطراً وظلمةً وفجراً ونوراً وبأرصفة المدن ثم الميل الشديد لإرتياد بعض المقاهي جواً دافئاً مناسباً للتلاقي وتبادل المعلومات والسؤال والجواب وربما لعقد صفقة صداقة ومد جسور إلفة تُنسي الشاعر وحدته في مدينة غريبة عليه زارها سائحاً أو لحضور مناسبة أو للمشاركة في مؤتمر.

 

واترلو كان البدء…

 

واضحٌ أنَّ الشاعر قد وصل مدينة لندن قادماً إليها مستخدماً القطار واسطةً نقلته من مكان آخر… ربما من مدينة أوربية أخرى. ذاك لأنَّ " واترلو " هو إسم محطة مركزية لقاطرات السكّة الحديد القادمة إلى لندن ولتلك التي تغادرها. ويقع بالقرب منها جسر شهير في لندن يحمل إسم جسر واترلو. وهذا الإسم في الأساس إسم لموقع في بلجيكا يقع إلى الجنوب من العاصمة بروكسل وقعت فيه المعركة الشهيرة التي خسرها نابليون بونابرت عام 1815 أمام الجيوش الألمانية بقيادة الفيلد مارشال بلوشر وحليفتها الإنجليزية بقيادة المارشال ويلنكتون. تُكتب الكلمة بالإنجليزية Waterloo .

محطةُ وسائط للنقل وقطارٌ جاء بالشاعر من أرض أخرى وأدخله إلى مدينة لندن وجسر قريب يحمل ذات الإسم سيأخذه مباشرةً إلى قلب العاصمة البريطانية. نصرٌ لا شكَّ فيه للرجل الزائر الذي وصل لندن بعد منتصف الليل ولكنَّ الإسم هذا هوكارثة بالنسبة للآخر: للقائد المغامر نابليون بونابرت !! أية مفارقة عجيبة يواجهها الشاعر في هذه المدينة !! سيخسر الشاعر المغامر، هو الآخر، لعبة الفجر الجديدة على أرض البلد الذي سبق وأنْ حقق على تربة واترلو نصراً تأريخياً مُؤَزَّراً. فأية مرارة مزدوجة يحسها هذا المغامر الشاعر !! سيخسر معركتة الخاصة بعد أن يغادر المحطة التي تحمل إسم رمز النصر اللامع

" واترلو " وبعد قليلٍ من عبوره جسر النصر " واترلو ". المغامرون يخسرون في نهاية المطاف. فلقد سبق وأنْ تكبّد نظيره المغامر الجنرال نابليون بونابرت خسارة مماثلة. خسر نابليون معركته الكبرى على أرض ليست فرنسية. كذلك سيخسر الشاعر معركته الجديدة على أرض غريبة وبعيدة عن وطنه العراق. هل كانت محض صدفة أن يستحضر البياتي الأضداد، وهو يُعدُّ نفسه لجولة رومانسية جديدة، فيجمع ما بين النصر والهزيمة على أرض غريبة؟

الشعراء غالباً ما يلتقون، هنا أو هناك، بهذا الشكل أو بذاك، سرّاً أو علانيةً، منتصرين أو مهزومين. فإذا ذكر البياتي واترلو ذكراً عابراً فإن الشاعر الإنجليزي جورج غوردون لورد بايرون كتب (في أو قبل عام 1818) عن نابوليون وعن معركة واترلو في النشيد الثالث من قصيدته الطويلة " طواف تشايلد هارولد " أو أسفار تشايلد هارولد

 Childe Harold s Pilgrimage . سأنقل ما كتب هذا الشاعر من باب أنَّ الشيء بالشيء يُذكرُ.

 

 And Harold stands upon this place of skulls،

The grave of France، the deadly Waterloo!

How in an hour the power which gave annuls

Its gifts، transferring fame as fleeting too!

In “ pride of place “ here last the eagle flew،

Then tore with bloody talon the rent plain،

Pierced by the shaft of banded nations through;

Ambition s life and labours all were vain;

He wears the shatter d links of the world s broken chain.

 

كما خصَّ هذا الشاعرُ نابوليون بأجزاء كبيرة من قصيدته التي أسماها " العصر البرونزي

The Age of Bronze " فتهكّم وسخر منه أيما سخرية وقارنه بالإسكندر المقدوني إذ حاول كلاهما سُدى السيطرة على العالم وقهره كلٌّ بطريقته وأساليبه الخاصة وبشعاراته الخاصة. قال عنه بعد موته منفيّاً في جزيرة سانت هيلانة:

 

Small care hath he of what his tomb consists; Nought if he sleeps – nor more if he exists: Alike the better - seeing shade will smile On the rude cavern of the rocky isle، As if his ashes found their latest home

In Rome s Pantheon or Gaul s mimic dome .

He wants not this; but France shall feel the want Of this last consolation، though so scant: Her honour، fame، and faith demand his bones، To rear above a pyramid of thrones;

نواصل قراءة المقطع الأول من القصيدة كما كتبها الشاعر في الكتاب:

 

" واترلو " كان البدءُ، وكلُ جسور العالم كانت تمتدُّ لواترلو، لتعانقه، لترى مُغتَربَين التقيا تحت عمود النورِ، ابتسما، وقفا وأشارا لوميضِ البرقِ وقصفِ السحب الرعدية. عادا ينتظرانِ، ابتسما، قالت عيناها: " من أنتَ؟ " أجاب: " أنا ! لا أدري " وبكى، اقتربتْ منه، وضعتْ يدها في يده، سارا تحت المطر المتساقط، حتى الفجرِ، وكانت كالطفلِ تغنّي، تقفزُ من فوق البرك المائيةِ، تعدو هاربةً وتعودُ. شوارعُ لُنْدُنَ كانت تتنهدُّ في عمقٍ والفجرُ على الأرصفة المبتلّةِ في عينيها، يتخفى في أوراقِ الأشجارِ. أجابَ: " أنا، لا أدري " وبكى. قالتْ: " سأراكَ غداً "، عانقها، قبّلَ عينيها تحت المطر المتساقطِ. كانت كجليد الليلِ تذوبُ حناناً تحت القبلاتْ.

 

هذه هي اللوحة الأولى في قصيدة وضعها البياتي كما توضع بعض السمفونيات. مقدمة فيها غموض ويختلط فيها الأمل بالخيبة. نور من جهة وبروق وسُحُب ورعود ومطر متساقط من الجهة الأخرى. بداية لقصة تعارف مع فتاة إنجليزية وربما صداقة معها جديدة. لم يعطها الشاعر إسماً. هي حتماً ليست لارا الروسية التي عرفنا في الصفحات السالفة. عاش البياتي قرابةَ خمسة أعوام في موسكو فعرف أسماء الروسيّات لكنه لم يُقمْ في بريطانيا.

في القصيدة الكثير من البكاء. " أنا ! لا أدري " وبكى. كررها مرتين في المقطع الأول من هذه القصيدة. ولقد رأيتُ في جُلِّ شعره إنه يبكي إذ يٌقبّلُ أو يهمُّ بالتقبيل.

وما دام اللقاء لقاء غرباء وفي ساعة متأخرة من ليلة بارقة راعدةٍ ماطرة فمن حق الفتاة

(وقد تكون هي الأخرى مثل لارا من فتيات الليل) أن تسأل الرجل الذي بادلها البسمة عن إسمه وربما عن أصله. الرجل أجاب إنه لا يدري، لا يعرف من هو !! إنه ضائع ورقم فارغ في أجواء المدينة الكبيرة لندن التي تكون عادةً معتمة في ساعات الفجر الشتائية.

لا يعرف من هو وفتاته تلعب وتتقافز أمامه وتغني لتزيد عامدةً من حيرته وعذاب روحه.

(العصفور يتفلّى والصيّاد يتقلّى…) كما يقول العراقيون.

لقد أبدع البياتي في رسم صورة رائعة وبارعة يُمهّد فيها للحظة الفراق:

 

شوارعُ لُنْدُنَ كانت تتنهدُّ في عُمقٍ

والفجرُ على الأرصفةِ المبتلّةِ في عينيها

يتخفى في أوراقِ الأشجارْ.

 

صورة زئبقية غائمة عائمة وعصيّة لا تسلّمُ مفتاح السر ولا تُعطي القاريء ممسكاً فتبقى لُغزاً مُحيّراً. (والفجرُ على الأرصفة المبتلّةِ في عينيها يتخفى في أوراقِ الأشجار). ماذا يمكن أن نفهم من هذا التعبير؟ (الأرصفة المبتلّة في عينيها) تعبير أفضّل أن أدعه دون تفسير. التفسير يُفسد تجلّي الصورة في مقام هيبة النفس الصوفية ويحشرها في إطار يابس شديد البؤس. أم تُرى أنأى بنفسي عن مستلزمات ودواعي وتأثيرات مظاهر الأبهة والجلال وأتجرأ على القول إنَّ دموع الفراق التي كانت تتساقط من عيني الفتاة بللت فأغرقت الأرصفة. ثم ما شأن الفجر يتخفّى في أوراق الأشجار؟ ألا يُطيق فراق الأحبة فيغطي عينيه فَرَقاً وجبناً؟ (أما تُطيقُ فِراقاً أيها الرجلُ؟ … كما قال أحد الشعراء).

نقرأ المقطع الرابع:

 

كان يراها في الحُلْم كثيراً منذ سنينٍ. كانت صورتها تهربُ منه إذا ما استيقظَ أو ناداها في الحُلْمِ. وكان بحمّى العاشقِ يبحثُ عنها في كلِّ مكانٍ. كان يراها في كلِّ عيون نساءِ المدنِ الأرضية، بالأزهارِ مغطّاةً وبأوراقِ الليمونِ الضاربِ للحمرةِ، تعدو حافيةً تحت الأمطارِ، تُشيرُ إليهِ: " تعالَ ورائي " يركضُ مجنوناً، يبكي سنواتِ المنفى وعذابَ البحثِ الخائبِ والترحالْ.

نفهم من هذا المقطع أن الشاعر هو (كازانوفا) خائب خرج من مغامرة الفجر اللندني بخُفيّ حنين. ضاعت من عَيانه فراح شبحها يطارده أو يلاحقه فيما بعد في عالم الأحلام حسبُ. حتى هذا الشبح الليلي صار يتهرب منه ويصدُّ عنه حين يناديها في الحلم مجرد نداء ويختفي تماماً حين يصحو من منامه. مع ذلك، كان الشاعر يرى هذا المخلوق الغائب عنه حيثما حلَّ وإرتحل. بل وأكثر من ذلك (كان يراها في كل عيون نساء المدن الأرضية)، مقترباً من قول الشاعر الإنجليزي لورد بايرون (أُوّاه ! لو أنَّ للنساءِ في العالم أجمع ثغراً واحداً إذنْ لقبّلته وإسترحتُ). يراها مغطاة بالأزهار وبأوراق الليمون الضارب للحمرة.

كيف يتحول اللون الأصفر إلى الأحمر؟ التحوّل… التحوّل… والتناسخ الصوفيين. وإلاّ كيف يكون لون الليمونة ضارباً للحمرة والكل يعرف أن الليمونة صفراء؟ قد يقول البعضُ إنها رؤية الشاعر الخاصة للأشياء. فقد يرى اللون الأصفر أحمرَ والعكس بالعكس. الألوان أسماء تعارف عليها البشر وتواضعوا كما هو الأمر بالنسبة لكل الأشياء والمسميات.

 

هذه الفتاة الإنجليزية التي ما زلنا نجهل إسمها أو من هي ظلّت حيّةً في وجدان الشاعر طيفاً يلاحقه أينما وحيثما كان. وظلَّ الشاعر مفتوناً ومشغولاً بذكرى هذا الطيف الذي يُقضُّ مضاجعه ولا يعطيه فُرصةً لراحة البال والضمير. لقد طفق يمارس كالمهووس عادة إجترار الذكريات وإستحضار تفصيلات الحدث الذي وقع له فجر يوم ماطر في عاصمة الضباب لندن. وكان يحلم بلقاء آخر معها ترتبه يد الأقدار العمياء.

في إنكفائه الجارف إلى داخل نفسه يحاورها ويسائلها ويناجيها، أبدع البياتي في صوغ نوع من " الدايالوج " الرائع الذي هو مزيج من الأماني ومخاطبة الذات وإسترجاع حلو الذكريات. نقرأ المقطع الثامن:

 

كان يراها في كلِّ الأسفارْ

في كلِّ المدن الأرضيةِ بين الناسْ

ويناديها في كل الأسماءْ.

 

وفي المقطع التاسع:

كانت تتخفى في أوراقِ الليمونِ وأزهارِ التفّاحْ.

 

وفي المقطع العاشر:

" واترلو " كان البدء وكلُّ جسور العالم كانت تمتدُّ لواترلو، تسعى للقاءِ الغرباءْ.

 

وفي المقطع الحادي عشر:

تحت النورِ التقيا، ابتسما، وقفا وأشارا

لوميضِ البرقِ وقصفِ السحبِ الرعديةِ، كانا يعتنقانْ.

 

وفي المقطع الثاني عشر:

كان يمارسُ سحراً أسودَ في داخله: تأتي أو لا تأتي؟ من يدري؟ مجنوناً كانْ.

 

قبيل اللقاء يرسم البياتي أندرَ صورٍ عرفها الشعر العربي المعاصر للحظات الترقب والأمل المرتجِّ والخوف من إستحالة تحقق اللقاء مع إمرأة طال إنتظار وعدها على الأرض الغريبة.

 

المقطع الثالث عشر:

كانت في يدهِ دُميةُ شمعٍ يغرزُ فيها دبّوساً من نارْ

" حبيني " قال لها، واتّقدت عيناهْ

بشرارةِ حزنٍ يصعدُ من قلبِ المأساةْ.

 

إنه يتحرق شوقاً للّقاء فيتخيل الفتاة كدمية من شمع ينصهر بين يديه تحت تأثير حرارة نار تولعه هو وعنفوان هواجس التأرجح ما بين إحتمالات الأمل واليأس.

يتمنى الشاعر أن تحبه هذه المرأة – اللغز الغامض، يتمنى لكنْ (ما كل ما يتمنى المرء يدركه // تجري الرياحُ بما لا تشتهي السَفَنُ / المتنبي). ما أن ذكر الحب وفعل الأمر

(حبيني) حتى بلغ منه القلق مبلغه. وجد هناك ما يشبه اليأس من ذلك أو إستحالة أن يحصل هوى صادق بينه وبين هذه الفتاة. (حبيني قال لها، واتقدت عيناهْ، بشرارةِ حزنٍ يصعدُ من قلبِ المأساةْ). هل المأساة في أنْ تحبه هذه المرأة أو أنَّ المأساة هي في أنْ لا تُحبهُ؟ تلكم هي المسألة. الحيرة الحيرة. حيرة الرجال أمام إحتمالات الحياة المتغيرة أبداً.

تأتي أو لا تأتي؟؟؟ تحبه أم لا تحبه؟؟؟

ثمَّ هل ستفي الفتاة بالوعد الذي قطعت حين قالت له لحظة الوداع (سأراك غداً / المقطع الأول). هل سأل الشاعر نفسه أين، تُرى، ستراه غداً؟ إنها لم تحدد له مكاناً ولا زماناً لمثل هذا اللقاء. فلماذا قبل مثل هذا الوعد الغائم والعائم؟ يقول الإنجليز

 See you tomorrow أو See you latter كما يقول واحدنا للأخر إذ يفترقان " مع السلامة " دون الإلتزام بموعد ثابت يترتب عليه لقاء مُحدد.

نجد الجواب في المقطع رقم 14 (أراها صورته بلباس البدوِ الرُحّل…). بدوي ساذج ينخدع بالكلام ويتعجّل وقوع الأحداث نتيجة قلّة الصبر وضعف النسيج العصبي المركزي.

بعد السياحة الطويلة نقف لنلتقط على مهلٍ أنفاسنا فنجد أنفسنا أمام حُلُم سريع جميلٍ غريب التفاصيل مُثير في بنائه وهندسته. ما كان وعداً ما حسبناه وعداً. مجرد ذكرى يلوكها الشاعر إجتراراً ومن باب الإستمناء أو التمني (والتمني رأسُ مالِ المفلسِ).

وكما يحدث في عالم السينما والأفلام، يعود الشاعر بذاكرته في المقطع الخامس عشر إلى أحداث المقطع الأول وما جرى له ولها خلال دقائق التعارف الأولى:

 

عانقها، قبّلَ عينيها، لُنْدُنُ كانت تتنهدُّ في عمقٍ، والفجرُ على الأرصفةِ المبتلّةِ في عينيها يتخفى في أوراقِ الأشجارْ.

 

في المقطع الأخير تتجلى حقيقة هذه الفتاة لنفاجأَ بأنها ليست حقيقية وبأن قصة محطة قطارات واترلو وجسر واترلو ما هي إلاّ خيال محبوك بإتقان وإقتدار ومُكنة. وبأن الشاعر البياتي فنان ساحر يُتقن اللعب على قارئه ويجيد توظيف موهبة التخيل وإستخدام تكنيك تقريب وإبعاد عدسات التصوير من بؤر ومراكز دوائر وقائع التأريخ. الفتاة التي إلتقته في لندن لقاء غرباء ما كانت إلاّ " عائشة " إياها التي رافقناها منذ قصيدة " الموتى لا

ينامون " علىالصفحة 71 من المجلد الثاني لمجموعة أشعار الشاعر. وأنَّ عائشة هذه لا وجود حقيقياً لها إنما زالت هي بزوال مملكة أبيها في الألف الثالث قبل الميلاد . المقطع السادس عشر:

 

" عائشةٌ إسمي " قالت: " وأبي ملكاً أسطورياً كانْ

يحكمُ مملكةً دمّرها زلزالٌ في الألف الثالثِ قبلَ الميلادْ ".

 

أجلْ، الموتى لا ينامون.

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2109 الخميس  03 / 05 / 2012)

في المثقف اليوم