قضايا وآراء

السرقة والتناص / محمد تقي جون

وليس المصطلحان عابرين أوجدتهما قضية نقدية مستحدثة، بل هما يمثلان الهوية الإبداعية لأمتين ولغتين مختلفتن. ذلك أن اللغة العربية لغة لفظية، وانعكاسها الفني (الشعري) صار لفظياً مثلها، بينما اللغات الهندوأوربية ومنها اللغات الغربية معنوية، وانعكاسها الفني (الشعري) صار معنوياً مثلها.

فالشعر العربي يعتمد على اللفظية في العملية الإبداعية بشكل كبير، فنحنُ اذا فتشنا في معاني (قفا نبك) لا نحصل على الكثير، بينما كان صيد الألفاظ وافراً. وهذا الأمر لمسه (كسرى) ملك الفرس عند سماعه شعر الأعشى (صناجة العرب) فلم يعجبه. وكان الجاحظ أكثر إلحاحا وضجيجاً في شرح هذه القضية لأنها ماهية الإبداع العربي القائم على الألفاظ. وسبب ذلك أن الجاحظ يمثل لأول مرة التقاء نهر الشعر العربي بنهر الشعر الأجنبي (الفارسي)؛ فقد عاصر ولادة أول شعر فارسي حين مدح المروزي الخليفة المأمون بقصيدة فارسية عام (200هـ). وقد أوضح الجاحظ بروز الطريقة الأعجمية (غير العربية) في كتابة الشعر وهي مناقضة للطريقة العربية بقوله:" وذهب الشَّيخُ إلى استحسانِ المعنى، والمعاني مطروحةٌ في الطريق يعرفها العجميُّ والعربيُّ... وإنَّما الشأنُ في إقامةِ الوزن، وتخيُّر اللفظ، وجَودَة السَّبك، فإنما الشعر صناعةٌ، وضَرْب من النَّسج، وجنسٌ من التَّصوير".

فهو يركز على اللفظ في الإبداع. وهذا جرَّ إلى صعوبة ترجمة النص العربي لأنه لا يوجد لفظ أجنبي ينقل الابداع الذي أداه اللفظ العربي مما سيفقد النص الجزء الأكبر من إبداعه، وكان الجاحظ ضد ترجمة النص العربي لهذا السبب. وأشار الشاعر المعري وهو يتفقد شعر المتنبي إلى صرامة اللفظ العربي في الإبداع ، فذكر استحالة إبدال كلمة واحدة من شعر المتنبي بغيرها، ونحن اذا جربنا ذلك فقلنا: (الخيل والليل والصحراء تعرفني) بدل (والبيداء) سيفقد البيت روعته. وكذلك في قوله تعالى (الحاقة) ففيها شغل كثير على اللفظ؛ فالحاء والقاف والألف بوصفها حروف شديدة ستكون كالمطرقة في تنبيه الإنسان على هول يوم القيامة، وقد أديت الفكرة باللفظ وليس المعنى، ولا يمكن إيجاد كلمة تقابل الحاقة في أداء هذا البيان والفكرة مثل (يوم القيامة) أو (يوم المعاد)، ولا تعدو كلمة (reality) إلا مجرد ترجمة للمعنى الذي لم تشتغل عليه  سورة الحاقة.

إلا أن الشعراء العباسيين تأثروا كثيراً بمعنوية الشعر الفارسي، وقد ذكر أحمد أمين أن العتابي حين تثقف بالثقافة الفارسية أصبح أديبا ممتازاً غزير المعاني في شعره روح غير مألوف، واستعار أبو نواس وغيره أقوال حكماء الفرس، واستشرى داء المعاني والغوص فيها حتى طال المتنبي رأس الهرم الشعري العربي وهو يعترف بأنه (رب المعاني الدقاق). وهكذا تعمقت مدرسة المعاني (الأجنبية) لتقف قبالة مدرسة الألفاظ (العربية)، وظهر في النقد لأول مرة  الصراع بين اللفظ والمعنى، وبرز معه بعنف مصطلح (السرقات) ليقع على الشعر المعنوي دون اللفظي

واستعملت (السرقة) سلاحا لإسقاط الشعراء المجددين. والعجيب أن النقاد المحافظين لم يذكروا للجاهليين سرقات؛ فطرفة نقل بيتاً من معلقة امرئ القيس نقلا كاملا عدا تبديله (تجمل) بـ(تجلد)، واشترك جرير مع النابغة ببيت كامل عدا اختلافه بكلمتين فقط، وقال عنترة يصور هذه الحالة الاعتيادية (ما أرانا نقول الا معارا / أو معادا من لفظنا مكرورا). وكان اشتغال الشعر الجاهلي على (الألفاظ) بالدرجة الأولى جعل العلماء يتجاوزون السرقات فيه فلم يعدوا التشابه في الألفاظ سرقة، والاشتراك بين شعرائهم لا حد له، فقد يقول شاعر صدر البيت فيكمل له الآخر العجز فيحسب الشعر له ولا يعد في السرق! بل انهم غضوا الطرف عن سرقات الفرزدق العلنية التي يتندر بها، وكان الأصمعي يقول:" تسعة أعشار شعر الفرزدق سرقة" إلا أن كتب السرقات تجعل السارق عباسياً فقط.

والحق إن المدرسة الجديدة أحيت المعاني القديمة وبثت فيها روحا جديدا، واستوفت ما لم يستوفه أصحابها. فأعيد نخل الأشعار وأعيدت صياغتها فضلا عن توليد المعاني الجديدة. وإذا غلا أهل السرقات بإسقاط الشعراء المجددين، فبالمقابل وضع هؤلاء قوانين صارمة تبيح للشاعر المعاني إذا أجاد التصرف فيها قال الصولي:" وشعر أبي تمام أجود مبتدأ ومتبعاً، وهو أحق بالمعنى". والسبب في ذلك أن هؤلاء المحافظين يرفضون أن يكون توليد المعاني أساسا في الشعر لأنه بدعة عباسية فالشعر العربي يكون إبداعه الحقيقي في ألفاظه وجزالتها وذلك مذهب العرب فكان هو المعيار" فاللفظ أغلى من المعنى ثمناً، وأعظم قيمة، واعز مطلباً فان المعاني موجودة في طباع الناس يستوي الجاهل فيها والحاذق ولكن العمل على جودة الألفاظ وحسن السبك وصحة التأليف ".

وقد مارس أصحاب السرقات دكتاتورية فريدة من نوعها في تاريخ آداب الشعوب فقرروا وحدهم وعلى رغم انف الشعراء والمتلقين إن هذا أخذ من ذلك، وان ذا اخذ من ذاك حتى أتوا بالمفضوح في أحيان كثيرة؛ كاتهام العميدي للمتنبي بالسرقة من بديع الزمان الهمذاني الذي ولد بعد موت المتنبي بأربع سنوات. وجعل الآمدي قول أبي تمام: (السيف أصدق أنباء من الكتبِ/ في حدّه الحدّ بين الجد واللعبِ) مسروقاً من قول الكميت بن ثعلبة (الأكبر): (فلا تكثروا فيه اللجاج فانه/ محا السيف ما قال ابن دارة اجمعا) ولا علاقة بين البيتين بتاتاً. وزخرت كتب كثيرة مثل (حلية المحاضرة) و(الموازنة) بالسرقات وأنواعها، وأوصلها البديعي في (الصبح المنبي) إلى خمسة عشر ضرباً بين محمود ومذموم.

أما التناص فانه تعامل مع تخاطر وتأثر الشعراء ببعضهم بحضارية، ولم يمتهن الشعراء أو يساء إليهم بل اعتبروا ذلك فضيلة لهم. والسبب في هذا التساهل أن الغرب لم يعانوا عقدة الصراع الشعري وعبادة الطريقة الموروثة تلك التي ألهها العرب. والحق مع التناص وليس مع السرقة أي حق؛ فمن المستحيل أن يكون الشاعر شاعراً من السرقة والأخذ من غيره، وهذا أشار إليه أحمد شوقي في مسرحية (مجنون ليلى) بقوله: (فقد يُسطى على بيت/ وقد يُسرق بيتان) وسرقة بيت وبيتين لا تصنع شاعراً، ومن المحتم أن هذا الذي (يسرق) البيت والبيتين فقط هو شاعر بحق وحقيقة وهو متناص ليس إلا.

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2111 السبت  05 / 05 / 2012)

 

في المثقف اليوم